المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم على درجتين: - البحور الزاخرة في علوم الآخرة - جـ ٣

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌الكتاب الرابع في ذكر الجنَّة وصفاتها، وذكر نعيمها ولذاتها

- ‌الباب الأول في ذكر أبوابها وما يتعلق بذلك

- ‌فصل في مفتاح الجنَّة

- ‌الباب الثَّاني في مكان الجنَّة ومنشورها وتوقيعها وتوحد طريقها

- ‌فصل

- ‌فصل في توحيد طريق الجنَّة

- ‌الباب الثالث في درجات الجنةِ وأعلاها وما أسم ملكاً الجنَّة

- ‌فصل

- ‌الباب الرابع في عرض الرب الجنَّة على العباد، وعدد الجنان، وأسمائها، وذكر السابقين إليها وإن كثر أهلها

- ‌فصل

- ‌فصل في أسماءِ الجنَّةِ ومعانيها واشتقاقها

- ‌فصلٌ في عددِ الجنات وأنواعها

- ‌فَصْلٌ

- ‌فصلٌ في ذكر أوَّل من يقرع بابَ الجنَّةِ

- ‌فصل

- ‌فصل وتقدم أنَّ الفقراء يسبقون الأغنياء إلى الجنةِ بخمسمائة عام

- ‌فصل في أصناف أهل الجنة الذين ضمنت لهم دون غيرهم

- ‌فصل في أنَّ أكثر أهل الجنة هذه الأمّة المطهرة

- ‌الباب الخامس في تربة الجنة ونورها وغرفها وقصورها وخيامها وما يلحق بذلك

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب السادس في صفة أهل الجنة وأعلاهم وأدناهم منزلة وتحفتهم إذا دخولها

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب الثامن في ذكر أنهار الجنَّة وعيونها، وطعام أهلها، وشرابهم، ومصرف ذلك وآنيتهم

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب التاسع في ذكر لباس أهل الجنَّة، وحليهم، ومناديلهم، وفرشهم، وبسطهم، ووسائدهم وسررهم وأرائكهم

- ‌فصل ومن ملابس أهل الجنَّةِ التيجان على رءوسهم

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب العاشر في ذكر خدم أهل الجنَّة، وغلمانهم، ونسائهم، وسراريهم، والمادة التي خلق منها الحور العين، ونكاحهم، وهل في الجنَّة ولد أم لا

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل في الإشارة إلى غريب هذا الحديث العظيم

- ‌الباب الحادي عشر في ذكر سماع أهل الجنَّة، وغناء الحور العين، وذكر مطاياهم، وزيارة بعضهم بعضًا

- ‌فصل

- ‌فصل زيارة أهل الجنَّة لبعضهم بعضا

- ‌فصل في ذكر سوق الجنَّة، وما أعدَّ الله فيها لأهلها

- ‌فصل

- ‌فصل في تكليمه سبحانه وتعالى لأهل الجنَّة

- ‌الباب الثالث عشر في أن الجنَّة فوق ما يخطر بالبال، ويتوهمه الخيال، أو يدور في الخلد، وفوق ما يصف كلّ أحد كيف؟ وموضع سوط منها خير من الدُّنيا وما فيها

- ‌الباب الرابع عشر في فصول جامعة وحكم هامعة

- ‌الفصل الأول في ذكر آخر أهل الجنَّةِ دخولًا

- ‌الفصل الثاني في لسان أهل الجنَّةِ

- ‌الفصل الثالث في احتجاج الجنَّة والنَّار

- ‌الفصل الرابع في امتناع النوم على أهل الجنَّةِ

- ‌الفصل الخامس في ارتقاء العبدِ وهو في الجنَّة من درجة إلى درجة أعلى منها

- ‌الفصل السادس في إلحاق ذرية العبد المؤمن به في الدرجة وإن لم يعملوا عمله

- ‌الفصل السابعفي مسألة عظيمة، ونكتة جسيمة

- ‌الفصل الثامن ترفع جميع العبادات في الجنَّة إلا عبادة الذكر فإنها دائمة، لا تبيد، ولا ترفع حتى في دار الجزاء

- ‌الباب الخامس عشر فيمن يستحق لهذه الدار من الملل والأنفار

- ‌تتمة

- ‌الكتاب الخامس في ذكر النار وصفاتها وشدة عذابها أعاذنا الله تعالى منها بمنه وكرمه

- ‌الباب الأول في ذكر الإنذار والتحذير من النَّار، والخوف منها، وأحوال الخائفين من تلك الدار

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب الثاني في ذكر مكان جهنم وطبقاتها ودركاتها وصفاتها وقعرها وعمقها

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب الثالث في ذكر أبواب جهنم وسرادقها وظلمتها وشدة سوادها

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل وأما ظلمتها وشدة سوادها

- ‌الباب الرابع في شدة حر جهنم وزمهريرها وسجرها وتسعيرها وتغيظها وزفيرها أعاذنا اللَّه منها

- ‌فصل وأما زمهريرها

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل في ذكر دخان جهنم وشررها ولهبها

- ‌الباب الخامس في ذكر أودية جهنم وجبالها وعيونها وأنهارها

- ‌ما جاء في جبال جهنم أجارنا اللَّه منها ووالدينا

- ‌الباب السادس في ذكر سلاسلها وأغلالها وحجارتها وأنكالها وحياتها وعقاربها

- ‌فصل وأما حجارتها

- ‌فصل وأما حيات جهنم وعقاربها

- ‌الباب السابع في ذكر طعام أهل النار وشرابهم وكسوتهم وثيابهم

- ‌فصل وأمَّا شرابهم

- ‌فصل وأما كسوة أهل النار وثيابهم

- ‌فصل

- ‌الباب الثامن في عظم خلق أهل النار، وقبحهم، وأنواع صفاتهم بحسب أعمالهم

- ‌فصل في أنواع عذاب أهل النار، وتفاوتهم في ذلك في دار البوار على حسب ما اقترفوا من الذنوب والأوزار

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فيما يتحف به أهل النارِ عند دخولهم دار البوار أعاذنا الله منها بمنه وكرمه

- ‌فصل في بكاء أهل النار وزفيرهم وشهيقهم وصراخهم ودعائهم الذي لا يستجاب لهم

- ‌فصل

- ‌فصل في نداء أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار، وكلام بعضهم بعضا

- ‌الباب التاسع في ذكر خزنة جهنَّم، وزبانيتها

- ‌الباب العاشر في ذكر حال الموحدين في النار، وخروجهم منها برحمة أرحم الراحمين، وشفاعة الشافعين وفي أكثر أهل النار، وأصنافهم

- ‌فصل

- ‌فصل في حسن الظن بالله تعالى

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل في ذكر أوّل من يدخل النار من سائر البشر وفي أول من يدخلها من عصاة الموحدين

- ‌تتمة في مسائل متفرقة

- ‌المسألة الأولى في خلود أهل الدارين فيهما:

- ‌المسألة الثانية في أصحاب الأعراف

- ‌المسألة الثالثة: في أطفال المشركين

- ‌المسألة الرابعة: في أهل الفترة ونحوهم

- ‌الخاتمة وفيها فصلان

- ‌الفصل الأوّل في التوبة

- ‌فصل

- ‌الفصل الثاني: في المحبة

- ‌المقصد الأوّل: في لزوم المحبة له سبحانه وتعالى

- ‌المقصد الثاني: في علامات المحبة الصادقة والتذاذ المحبين بها

- ‌ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم على درجتين:

- ‌تكملة في بعض أحوال أهل المحبة وهي أكثر من أن تذكر في مثل هذا المختصر وأعظم من أن تحصر أو تحد بالنظر

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم على درجتين:

هؤلاء لا يكاد أن يصدر ممن يتديّن بدين ما، وأنا أحلف بالله؛ إنْ هو إلا أشد كفرًا من اليهود والنصارى، وقد رد كلامهم جمع من أنصار دين الله وبينوا إلحادهم وكفرهم وأنهم لا دين لهم قديمًا وحديثا، وحذروا من الاغترار بهم وزجروا عن الاقتفاء بسربهم نهيًا حثيثا.

ولقد أحسن في عصرنا الشيخ الإمام العارف بالله سيدي مصطفى البكري، لا زال يبتكر المعاني الدقيقة ويكشف عن وجوه مخدرات الحقيقة بتصنيف كتابه المسمى:"بالسيوف الحداد في الرّدّ على أهل الزندقة والإلحاد"، فلقد أجاد وأفاد وأتى بما فوق المراد، فجزاه الله عن دينه خيرا، فنسأل الله تعالى معرفةً ندرك بها الأشياء على ما هي عليه والله أعلم.

وقال إبراهيم بن الجنيد: علامة المحب على صدق الحب ست خصال: دوامُ الذكر بقلبهِ بالسرور بمولاه، وإيثار محبة سيده على محبة نفسه والخلائق أجمعين، والأُنس به دون غيره، والشوق إلى لقائه، والرضا عنه في كل شدة وضُرٍّ ينزل به، واتباع رسول صلى الله عليه وسلم.

‌ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم على درجتين:

إحداهما: فرض: وهي التي تقتضي قبول ما جاء به من عند الله وتلقيه بالمحبة والتعظيم والرضا به والتسليم، وعدم طلب الهدى من غير طريقه بالكلية، ثمَّ حسن الاتباع له فيما بلغه عن ربه من تصديقه في كل ما أخبر به، وطاعته فيما أمر به من الواجبات، والكف عما

ص: 1555

نهى عنه من المحرمات ونصرة دينه والجهاد لمن خالفه بحسب القدرة فهذا القدر لابد منه فلا يتم الإيمان بدونه.

الثانية: فضل: وهي المحبة التي تقتضي حسن التأسي به وتحقيق الاقتداء بسنّته في أخلاقه وآدابه ونوافله وتطوعاته وأكله وشربه ولباسه وحسن معاشرته لأزواجه والاعتناء بمعرفة سيرته وأيامه واهتزاز القلب عند ذكره وتصوره وكثرة الصلاة عليه لِما سكن في القلب من محبته وتعظيمه وتوقيره ومحبة استماع كلامه وإيثاره على كلام غيره من المخلوقين، فإنَّه لم يزل المحبُّ يتلذذ بكلام محبوبه ويقدمه على كل كلام فمحبة كلام المحبوب أمر جِبِلِّيٌّ ولذا قيل:

لم أسع في طلب الحديث لسمعة

أو لاجتماع قديمه وحديثه

لكن إذا فات المحبَّ لقاءُ من

يهوى تعلل باستماع حديثه

ومن أعظم ذلك الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في الدنيا والاجتزاء منها بالأدنى مع نهوض الهمّة إلى الدرجات العلا من الآخرة والرغبة فيما يوصل إلى تلك المقامات الفاخرة.

وقد علم مما قررنا أن من علامات محبة الله سبحانه: حبُّ كلامه القديم وذكره الحكيم الذي هو القرآن العظيم، وعلامة حبّ الله تعالى وحبّ كلامه حبّ رسوله صلى الله عليه وسلم وعلامة حبّ الرسول صلى الله عليه وسلم حبّ سنّته وما جاء به.

وأما الذين نبذوا السنة الغراء وراء ظهورهم واعتمدوا كلام مقلديهم فما لهم وما لمحبة الله ورسوله إنما يزعمون ذلك بلا برهان:

ص: 1556

{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] وكيف يحبه أهل التعطيل والإلحاد أم كيف يحبه أهل التشبيه والتمثيل والفساد؟! وأيم الله إنَّ أهل التعطيل إذا سمعوا الأحاديث الصحيحة والأخبار الصريحة المخالفة لمذهبهم المرذول؛ لتذهب منهم العقول وإذا سمعوا الآيات القرآنية والكلمات الربانية المخالفة لنحلتهم؛ لتثير منها قلوبهم ويقابلون ذلك بأنواع الإلحاد والابتكار والتأويلات الفاسدة والإشارات الباردة وتارة يردونها بالطعن فيها مع عدالة ناقليها فليس لكل هؤلاء من محبة الله ورسوله إلا كمثل عطشان بعث رسوله ليأتيه الماء في غربال فلا يصل إليه من ذلك الماء ما ينتفع به وهو مع ذلك مشغول البال وحاصل ما عليه هؤلاء من محبة الله ورسوله أماني لا حقيقة لها في نفس الأمر إنَّ الأمانيّ والأحلام تضليل.

وكلٌّ يدعي وصلًا لليلى

وليلى لا تقر لهم بوصل

ومن علامة حب السّنّة حب الآخرة.

وقال بعضهم: علامة محبة الآخرة بغض الدنيا وعلامة بغض الدنيا أن لا يأخذ منها إلا زادًا يبلغه إلى الآخرة.

وقال بعضهم: علامةُ بغض الدنيا أن لا تذكرها بمدح ولا ذم.

واعلم أنَّ محبة الله سبحانه على قسمين:

واجبة: وهي تقتضي محبة ما أوجب من الطاعات وامتثالها وكراهة ما كرهه من المحرمات واجتنابها.

ومستحبة: وهي تقتضي محبة القرب إليه بالنوافل والورع عن دقائق المكروهات.

ص: 1557

والمحبة الواجبة تقتضي مخالفة الهوى وإيثار ما يحبه ويرضاه على ما تشتهيه النفس وتهواه فإن الإناء إنما يصلح لشراب واحد لم يجعل الله لرجل من قلبين في جوفه فبقدر ما يدخل القلب من هم وإرادة وحبٍ يخرج منه هم وإرادة وحب فهو إناء واحد والأشربةُ متعددة فبأي شراب ملأه لم يبق فيه موضع لغيره.

وإنما ينبغي أن يمتلئ الإناء بأعلى الأشربة إذا صادفه خَاليًا فأمَّا إذا صادفه ممتلئًا من غيره لم يساكنه حتَّى يخرج ما فيه وها أنت وقلبك فاختر لنفسك ما يحلو:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى

فصادف قلبًا فارغًا فتمكنا

وقد أحسن من قال في هذا وبالغ في التحقيق لا كمن [قال](1) هذا:

لقد كان يُسبى القلب في كل ليلة

ثمانون بل تسعون نفسًا وأرجح

يهيم بهذا ثمَّ يألفُ غيره

ويسلوهم من فوره حين يصبح

وقد كان قلبي ضائعًا قبل حبكم

فكان بحب الخلق يلهو ويمزح

فلما دعا قلبي هواك أجابه

فلست أراه عن جنابك يبرح

حرمت مُناي منك إن كنت كاذبا

وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح

وإن كان شيء في الوجود سواكمُ

يَقرُّبه القلب الجريح ويُشْرَح

وإن لعبت أيدي الهوى بمحبكم

فليس له عن بابكم متزحزح

هوى غيركم نار تلظَّى ومحبس

وحبكم الفردوس أو هو أفيح

فيا ضيم قلب قد تعلق غيركم

ويا رحمةً مما يحول ويكدح

(1) زيادة من المحقق.

ص: 1558

قال الإمام ابن القيم في كتابه "طريق الهجرتين ومفتاح السعادتين": إذا تمكنت المحبة في القلب وامتلأ القلب منها أخرجت محبةُ الله سبحانه كل ما يكرهه الله:

فلم يبق في قلب المحب دقيقه

سوى حب ليلى قد تمكن في القلب

فلو نطق الأعضاء نادت برسمها

وسارت لحان الأنس والوصل والقرب

فيا حبذا لما تملكني الهوى

رقيقًا وصار القلب معترك الحب

وفي الحديث: "فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصره به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها"(1) يعني: توليته فصار نظره وسمعه وبطشه ومشيه إنما هو لي وبي.

فاحذر أن تزل قدمك ويستولي عليك ندمك واحذر كل الحذر من كلام أهل الاتحاد والزندقة والإلحاد واعلم أن المحبة منتهى القربة والاجتهاد فلا يسأم المحبوب من طول القيام، وإدمان الصيام والذكر والتبتل والتوجه والتوسل فلا يسأم محبٌّ من ذكر محبوبه ولا ينفر طالبٌ من قرب مطلوبه.

يجتهد المحب في تحبيبه سبحانه إلى خلقه ويمشون بين عباده بالنصائح ويخافون عليهم من أعمالهم يوم تبدو الفضائح أولئك أولياء الله وأحباؤه وأهل صفوته وأعزاؤه فلا راحة لهؤلاء دون لقائه.

وذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله قال: نظر الله تعالى إلى داود عليه السلام وهو وحداني منتبذ قال: مالك وحداني، قال: عاديت

(1) أخرجه البخاري (6502)، وابن حبَّان 2/ 58، والبيهقيُّ في "سننه" 3/ 346.

ص: 1559

الخلق فيك، قال: أو ما علمت أن من محبتي أن تُعطِفَ علىَّ عبادي وتأخذ عليهم بالفضل هنالك أكتبك من أوليائي ومن أحبابي فإذا كنت كذلك كتبتك في ديوان أهل المحبة.

وقال بعض العبّاد في مناجاته: إذا سأم البَّطالون من بطالتهم فلن يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك.

وأوصى بعض السلف بعض المريدين فقال له:

وكن لربك ذا بِرٍّ لتخدمَه

إن المحبين للأحباب خدّام

فصاح المريد صيحة فسقط مغشيًا عليه.

وقال أبو عبد الرحمن المغازلي: لا يُعطى طريقَ المحبةِ غافلٌ ولا ساهٍ، المحبُّ لله عز وجل طائر القلب كثير الذكر متسبب إلى رضوانه بكل سبيل يقدر عليها من الوسائل والنوافل.

وقال محمَّد بن نعيم الموصلي: إن القلب الذي يحب الله عز وجل يحب التعب والنصب لله إنه لن ينال حُبَّ الله بالراحة.

وقال رجلٌ لبعض العارفين: أوصني، قال: أدِّمن فعل الخيرات وتوصل إلى الله بالحسنات فإني لم أر شيئًا قط أرضى للسيد ما يحب فبادر بمحبته يسرع في محبتك ثمَّ بكى فقال له: زدني رحمك الله، قال: الصبر على محبة الله وإرادته رأس كل برّ أو قال: كل خير.

واجتمع أحمد بن أبي الحواري (1) وجماعة من الصالحين بعد صلاة

(1) أحمد بن أبي الحواري، اسم أبيه عبد الله بن ميمون الإمام الحافظ القدوة، شيخ أهل الشام، أبو الحسن، الثعلبي الغطفاني الدمشقي الزاهد، =

ص: 1560

العتمة وقد خرجوا من المسجد إلى بيت رجل قد دعاهم إلى طعام صنعه لهم فأنشدهم رجل قبل دخول الباب:

علامة صدق المستخصين بالحب

بلوغهم المجهود في طاعة الرّبّ

وتحصيل طيب القوت من [محيائه](1)

وإن كان ذاك القوت [من] مرتقىً صعب

فلم يزل يرددهما وهم قيام حتَّى أذن مؤذن الفجر ورجعوا إلى المسجد.

وخرج ابن أبي الدنيا عن مضر قال: اجتمعنا ليلة على الساحل ومعنا مسلم أبو عبد الله، فقال رجل: من الأزد بيتًا من الشعر وهو:

ما للمحب سوى إرادة حبه

إن المحب بكل برّ يضرع

فبكى مسلم حتَّى حسبت والله أن يموت.

وبالجملة أهل المحبة هم أهل الودّ والصفاء والإقبال والوفاء.

ومن أعظم علامات المحب لله حب كلامه الذي هو القرآن.

وقد أخرج ابن ماجه أنَّه كان رجل يقرأ قراءة عالية فمات بالمدينة

= أحد الأعلام، أصله من الكوفة. قال ابن معين: أهل الشام يمطرون به

وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يحسن الثناء عليه، ويطنب فيه. قال محمود بن خالد: ذكر أحمد بن أبي الحواري، فقال: ما أظن بقي على وجه الأرض مثله.

انظر: "الجرح والتعديل" 2/ 47 (34). و"سير أعلام النبلاء" 12/ 85 (26)، وقد سبق ذكره ومثله من الأعلام.

(1)

في استنشاق نسيم الأنس (65)(مجتنائه)(في).

ص: 1561

فحملوا نعشه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ارفقوا به رفق الله به إنه كان يحب الله ورسوله" وحضر حفرته فقال: "أوسعوا له وسع الله عليه" فقال بعض أصحابه: يا رسول الله لقد حزنت عليه؟ قال: "أجل إنه كان يحب الله ورسوله"(1).

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لا يسأل عبد عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فإنَّه يحب الله ورسوله (2) وفي رواية عن ابن مسعود: من كان يحب أن يعلم أنَّه يحب الله عز وجل فليعرض نفسه على القرآن؛ فمن أحب القرآن فهو يحب الله عز وجل فإنما القرآن كلام الله عز وجل (3).

وقال أحمد بن أبي الحواري رحمه الله: سمعت ابن عيينة يقول: لا تبلغوا ذروة هذا الأمرِ حتَّى لا يكون شيء أحب إليكم من الله عز وجل، ومن أحبّ القرآن فقد أحبّ الله عز وجل (4).

وقال أحمد بن أبي الحواري عن بعض السلف: حبُّ الله عز وجل

(1) أخرجه ابن ماجه (1559)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 4/ 348.

(2)

رواه ابن المبارك في "الزهد" 1/ 388 (1097)، وسعيد بن منصور في "سننه" 1/ 10 (2)، وابن الجعد في "مسنده" 1/ 290 (1956)، والطبراني 9/ 132 (8657)، والبيهقيُّ في "الشعب" 2/ 353 (2017) باب: في تعظيم القرآن.

وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 165: رواه الطبراني ورجاله ثقات.

(3)

رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل في "السنة" 1/ 148 (125).

(4)

رواه أبو نعيم في "الحلية" 7/ 278، 302. والبيهقيُّ في "الشعب" 1/ 365 (407)، باب: في محبة الله عز وجل.

ص: 1562

حبُّ القرآن، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم العمل بسنته.

وقال أبو سعيد الخراز: من أحب الله عز وجل أحب كلامه ولم يشبع من تلاوته.

وقال أبو طالب المكي قال: سهل بن عبد الله: علامة حب الله حب القرآن (1).

وقال الإمام الحافظ ابن الجوزي في "تبصرته": يا من يعاتبه القرآن وقلبه غافل وتناجيه الأيام والآيات وفهمه ذاهل: اعرف قدر المتكلم وقد عرفت قدر الكلام وأحضر قلبك الغائب وقد فهمت الملام.

ثم قال: مكتوب في التوارة يا عبدي أما تستحي مني يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في الطريق تمشي فتعدل معرضًا عنها فتقعد لأجله وتقرأه وتتدبره حرفًا حرفًا حتَّى لا يفوتك منه شيء وهذا كتاب أنزلته إليك وأنت معرض عنه أفكنتُ أهون عليك من بعض إخوانك يا عبدي يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكلك ووجهك وتصغي إلى حديثه بكل قلبك وهأنذا ذا مقبل عليك ومحدث لك وأنت معرض بقلبك عني.

ثم ذكر عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم (2).

(1) ذكره القرطبي في "تفسيره" 4/ 60.

(2)

التبصرة (1/ 314) رواه عبد الله بن أحمد في "الزهد" ص 159.

ص: 1563

ونقل عن كهمس بن الحسن أنه كان يختم في الشهر تسعين ختمة (1).

والمقصود أن من علامة محبة الله: التلذذ بكلامه وقد جمع بعض السلف دلائل المحبّة في قوله:

لا تخدعن فللمحب دلائل

ولديه من تحف الحبيب رسائل

منها تنعمه بمر بلائه

وسروره في كل ما هو فاعل

فالمنع منه عطية مقبولة

والفقر إكرام وبرّ عاجل

ومن الدلائل أن يرى من عزمه

طوع الحبيب وإن ألح العاذل

ومن الدلائل أن يرى متبسما

والقلب فيه من الحبيب بلابل

ومن الدلائل أن يرى متفهمًا

لكلام من يحصى لديه السائل

ومن الدلائل أن يرى متقشفا

متحفظا في كل ما هو قائل

ومن الدلائل أن تراه مشمرا

في خرقتين على شطوط الساحل

ومن الدلائل ضحكه بين الورى

والقلب محزون كقلب الثاكل

والبيتان (2) الأخيران ألحقهما في "التبصرة" وهما مجروران وقافية القصيدة بالرفع فإن كانا من القصيدة ففيهما الإقواء وهو معيب عند الشعراء والله أعلم.

(1) ذكره ابن الجوزي في "تبصرته" 1/ 380.

(2)

ورد في هامش الأصل: والذي يظهر أنهما ليسا منها لقوله في الخامس:

ومن الدلائل أن يُرى متبسمًا

والقلب فيه من الحبيب بلابل

فإن معناه ومعنى البيت الأخير متحد كما هو ظاهر. مؤلف عن نسخته من خطه نُقل. أقول ولم يذكر في استنشاق نسيم الأنس (68) زيادة على ذلك اختلاف القافية حتى أن الأخيرين بقافية مكسورة

وما قبلها بقافية مضمومة.

ص: 1564

وقال بعض المريدين: وجدت حلاوة المناجاة فأدمت قراءة القرآن ليلاً ونهارًا ثم لحقتني فترة فانقطعت عن التلاوة قَالَ: فسمعت قائلا يقول وأنا في المنام هذين البيتين:

إن كنت تزعم حبي

فلم جفوت كتابي

أما تدبرت ما فيه

من لطيف عتابي

قال فانتبهت وقد أشرب قلبي محبة القرآن فعاودت إلى حالتي الأولى وعلى كل حال مَن أحب الله أحب كلامه بلا جدال والله أعلم.

المقصد الثالث: في أنس المحبين بالله تعالى، وسهرهم بمناجاته، وشوقهم. ثبت في الصحيحين، والسنن، والمسانيد من غير وجه أنَّ جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان، قال صلى الله عليه وسلم:"الإحسان أنْ تعبدَ الله كأنكَ تراه فإن لم تكن تراه فإنَّه يراكَ"(1).

قال بعضُ العارفين (2): مَن عملَ لله على المشاهدة فهو عارف، ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص فهذان مقامان: أحدهما: الإخلاص وهو أنْ يعملَ العبد على استحضار مشاهدة الله إياه، واطلاعه عليه، وقربه منه فإذا استحضر العبدُ ذلك في عمله، وعمل على هذا المقام فهو مخلصٌ لله؛ لأنَّ استحضارَه ذلك في عمله يمنعه من

(1) أخرجه البخاري (50)، (4777)، ومسلم (8، 9)، وأحمد 1/ 28، والترمذي (2610)، وأبو داود (4695) عن عمر بن الخطاب.

(2)

ذكره ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" 1/ 129.

ص: 1565

الالتفات إلى غيره سبحانه بالعمل.

والثاني: المعرفة التي تستلزم المحبة الخاصة؛ وهو أنْ يعمل العبد على مشاهدته بقلبه ربه، وهو أنْ يتنور قلبه بنور الإيمان، وينفذ ببصيرته في العرفان حتى يصير الغيب عنده كالعيان وهذا هو مقام الإحسان المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام، وهو الذي دندن حوله أهْل الجد والاجتهاد، وحام على سرادقاته أهل المعارف والسداد، وهو يتفاوت بحسب قوة نفود البصائر وقد فسرت طائفةٌ مِنَ العلماءِ المثل الأعلى المذكور في قوله تعالى:{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27] بهذا. ومثله قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] الآية. قال كعب بن أبي كعب رضي الله عنه: المراد مثل نور الله في قلب المؤمن (1). ومن هذا حديث حارثة رضي الله عنه لمَّا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: وكأنِّي أنظر إلى عرش ربِّي بارزًا، وكأنِّي أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهْل النارِ يتعاوون فيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"عرفت فالزم عبد نوَّر الله الإيمانَ في قلبه"(2) وهذا الحديث روي مسندًا، ومرسلاً وتقدم.

ويتولد من هذين المقامين مقام الحياء من الله عز وجل وقد أشارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث: بهز بن حكيم عن أبيه، عن

(1)"تفسير ابن كِثير" 10/ 235.

(2)

أخرجه عبد بن حميد في "مسنده" 1/ 165، وابن أبي شيبة في "المصنف" 6/ 170، والبيهقي في "شعب الإيمان" 7/ 363.

ص: 1566

جده أنَّه سئل عن كشف العورة خاليًا فقال: الله أحق أن يستحيا منه.

وقد ندب صلى الله عليه وسلم إلى دوام استحضار معية الله، وقربه، والحياء منه في غير حديث ودلّ عليه قوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]. وفي الحديث: "أفضل الإيمان أنْ تعلم أنَّ الله معك حيث كنت"(1) رواه الطبراني عن عبادة بن الصامت مرفوعًا. وقال صلى الله عليه وسلم لأبي أمامة: "استحِي من الله استحياءك من رجلين من صالحي عشيرتك هما معك لا يفارقانك"(2) وفي هذا المعنى أنشد بعضُهم وأحسنَ (3):

كأن رقيبًا منكَ يرعى خواطري

وآخر يرعى ناظري ولساني

فما بصرت عيناي بعدك منظرًا

لغيرك إلَاّ قلتُ: قد رمقاني

وما بدرت مِن فيَّ بعدك لفظةٌ

بغيرك إلَاّ قلت: قَدْ سمعاني

ولا خطرت من فكر غيرك خطرة

على القلب إلَاّ عرجا بعناني

إذا ما تسلى القاعدون عن الهوى

بذكر فلان أو كلام فلان

وجدت الذي يسلي سواي يسوقني

إلى قربكم حتَّى أمل مكاني

وإخوان صدق قد سئمت لقاءهم

وغضضتُ طرفي عنهم ولساني

وما البغض أسلى عنهم غير أنني

أراكَ على كلِّ الجهات تراني

ويتولد من ذلك الإنس به سبحانه، والخلوة لمناجاته، وذكره،

(1) أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" 1/ 305، وأبو نعيم في "الحلية" 6/ 124.

(2)

أخرجه ابن عدي في "الكامل" 2/ 136، 4/ 89.

(3)

هذه الأبيات لأبي بكر الشلبي وهي من بحر الطويل.

ص: 1567

واستثقال ما يشغل عنه من مخالطة السوى وقد صبح عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّ أحدكم إذا كان يصلي فإنَّما يناجي ربَّه أو ربّه بينه وبين القبلة"(1) والمراد: أنه معاينه سبحانه وتعالى فهو يبصره وعلمه معه.

وقد عكف العبّاد على العبادة في الخلوات ليحصل لهم أنس الجلوات حتَّى قال قائلهم (2): لولا الجماعة يعني: الصلاة في الجماعة ما خرجتُ من بابي أبدا حتَّى أموت وقال: ما يجد المطيعون لله لذة في الدنيا أحلى من الخلوة بمناجاة سيدهم، ولا أحب لهم في الآخرة من عظم الثواب أكثر في صدورهم وألذ في قلوبهم من النظر إليه ثم غشي عليه.

وقال إبراهيم بن أدهم (3): أعلى الدرجات أنْ تنقطع إلى ربك، وتستأنس إليه بقلبك، وعقلك، وجميع جوارحك حتَّى لا ترجو إلا ربّك، ولا تخاف إلا ذنبك، وترسخ محبته في قلبك حتَّى لا تؤثر عليها شيئًا فإذا كنت كذلك لم تبال أفي برّ كنت، أو في بحر، أو في سهل، أو في جبل، وكان شوقك تلقاء الحبيب شوق الظمآن إلى الماءِ البارد، وشوق الجائع إلى الطعام الطيب، ويكون ذكر الله عز وجل عندك أحلا من العسل، وأشهى من الماء العذب الصافي عند العطشان في اليوم الصائف.

وقال الفضيل (4): طوب لمَن استوحش من الناسِ وكان الله

(1) أخرجه البخاري (1318)، ومسلم (547)، وأحمد 2/ 34.

(2)

في حاشية ط هو مسلم العابد.

(3)

ذكره ابن رجب في "العلوم والحكم" 1/ 133.

(4)

المصدر السابق 1/ 134.

ص: 1568

أنيسه. وكان ذو النون يقول: من علامة المحب لله ترك كلّ ما يشغله عن الله حتَّى يكون الشغل بالله وحده. ثم قال: إنَّ مِنْ علامة المحبين لله أن لا يأنسوا بسواه، ولا يستوحشوا معه. ثم قال: إذا سكن حب الله القلبَ أنسَ بالله؛ لأنَّ الله أجل في صدور العارفين من أن يحبوا سواه وكانت رابعة رحمها الله تنشد:

ولقدْ جعلتكَ في الفؤادِ محدثي

وأبحت جسمي مَن أراد جلوسي

فالجسم مني للجليس مؤانسا

وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه كثيرًا ما يتمثل في خلواته بقول القائل:

وأخرج من بين البيوت لعلني

أحدث عنك القلب بالسر خاليا

قلت: والبيت لمجنون ليلى من قصيدة طويلة قد أنشدها سيدي عبد القادر الجيلاني قدس الله سره (1) في بعض مجالسه لما سئل عن المحبة منها:

لقد لامني في حبّ ليلى أقاربي

أخي، وابن عمي، وابن خالي وخاليا

ولو كنت أعمى أخبط الأرض بالعصى

أصم ونادتني أجبت المناديا

وأخرج من بين البيوت لعلني

أحدث عنك النفس يا ليلى خاليا

وأشهد عند الله أني أحبها

فهذا لها عندي فما عندها ليا

(1) قال الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله في معجم المناهي (438) هذه من أدعية المتصوفة والروافض والسر عندهم: سر الأسرار والروح الطاهرة الخفية.

وقد سرت إلى بعض أهل السنة، ولو قيل: قدس الله روحه فلا بأس.

ص: 1569

والمحب الصادق إذا سافر طرفه في الكون لم يجد له طرفا إلا على محبوبه فإذا انصرف بصره عنه رجع إليه خاسئًا وهو حسير.

ويسرح طرفي في الأنام وينثني

وإنسان عيني بالدموع غريق

فيرجع مردودًا إليك وماله

على أحد إلَاّ عليك طريق

وقيل: لبعض العارفين وقد رؤي يصلي وحده: ما معك مؤنس؟ قال: بلى قيل له: أين هو؟ قال: أمامي، وخلفي، ومعي، وعن يميني، وعن شمالي، وفوقي قيل له: معك زاد؟ قال: نعم الإخلاص قيل له: أمَا تستوحش وحدك؟ قال: إن الأنس بالله قطع عني كلّ وحشة حتَّى لو كنت بين السباع ما خفتها.

وقال بعضهم: عجبت لمن عرف الطريق إلى الله كيف يعيش مع غيره؟! والله تعالى يقول: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا} [الزمر: 54] وقال بعض العارفين: من لزم الباب أثبت في الخدم، ومَن استغنى بالله أمن من العدم.

وفي الإسرائيليات يقول الله تعالى: ابن آدم أطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كلّ شيء، وإن فتك فاتك كلّ شيء وأنا أحب إليك من كلِّ شيء. وأنشد أبو الحسن بن بشار الزاهد:

تنقضي الدنيا وتفنى

والفتى فيهما مُعَنَّى

ليس في الدنيا نعيم

لا ولا عيش مُهَنَّا

يا غنيا بالدنانير

محبّ الله أغنا

وقال غيره:

لقد كنت أخشى الفقر حتَّى

وجدتكم فصرت أدلّ المفلسين على الكنز

ص: 1570

فيا من اشتغل في الدُّنيا بالدون أفقْ من هذه الغفلة، واعتبر ما أنت ومن تكون؟! قد خطبك مِن نفسك مَن يقل للشيء: كن فيكون واشترى نفسَكَ منك فما الذي حملك على عدم تسليم المثمن يا مفتون؟ وتعرف إليك من القدم أما تستحي من بلاء غطى بلاء.

اشتريت جارية مطربة بعشرين ألف درهم فبينا هي يومًا تغنّي:

وحقك لانقضت الدهر عهدا

ولا كدرت بعد الصفو ودا

ملأت جوانحي والقلب وجدا

فكيف أقرّ يا سكني وأهدا

فيا مَن ليس لي مولى سواه

تراك رضيتني في الناس عبدا

فصاح بها الذهن من باطن القلب: مَن تعنين؟ وبمن تغنين؟ فانتبهت فعلمت أنَّه لا مولى سوى الحق، ولا يحسن بعد {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] نقض عهد فتغيرت واختلطت فقيل لها مالك فقالت:

خاطبني الحق من جناني (1)

فكان وعظي على لساني

قربني منه بَعدَ بُعدٍ

وخصني منه واصطفاني

أجبت لما دُعيتُ طوعًا

ملبيا للذي دعاني

وخفت مما جنيت قدما

فوقع الحب بالأماني

ثم رمى بها الفكر في بحر الوجد واشتغلت عن الخلق بالذكر وجعلت تقول:

يا من رأى وحشتي فآنسني

بالقرب من فضله وأنعشني

(1) إذا كان المقصود الباعث به خوفه من الله عز وجل فهذا شيء صحيح وأما إذا كان يقصد بالعبارة التي يتذاكرها الصوفية وهي حدثني قلبى عن ربي فهذا مرم.

ص: 1571

يا سكني لا خلوت من سكني

دهري ويا عُدَّتي على الزمن

أوحشني ما فقدت منه وقد

عاد بإحسانه فقربني

وعدت أيضًا فعاد منعطفًا

كذاك مذ كنت منه عودني

حسبي من كل من شغلت به

أصحبه مؤنسًا ويصحبني

هربت من مسكني إلى سكني

حقًا ومن موطني إلى وطني

وكنت في غفلة فنبهني

وكنت في رقدة فأيقظني

وكنت أخشى ما فات من زللي

فحييت مستأمنًا فأمَّنني

يا قوم قولوا كلا بأجمعكم

يا ليت ما كان قط لم يكن

ثم اشتد بها القلق وأزعجها الفرَق فكانت تصيح:

هربت منه إليه، بكيت منه عليه، وحقه وهو سؤلي، لازلت بين يديه حتَّى أنال وأحظى بما أرجى لديه، ثم لبست خمارًا من صوف ومدرعة من شعر وصاحت من شوقها وباحت بتوقها فقالت:

يا سرور السرور أنت سروري

وحبوري وأنت نور النور

كم ترى يصبر المحب على البعد

وكم يلبث الهوى في الصدور

ثم رحلت إلى مكة فطافت حول البيت وصاحت، إلهي كم ترى تخلفني في دارٍ لا أرى فيها أنيسا قد طال شوقي إليك فوقعت ميتة رحمها الله تعالى.

واعلم أن همم هؤلاء السادة متعلقة بالآخرة برؤية رب العالمين والنظر إلى وجهه الكريم في دار كرامته والقرب منه وحسن محاضرته.

وقال الحسن رحمه الله: لو علم العابدون أنهم لا يرون

ص: 1572

ربهم يوم القيامة لماتوا.

وفي رواية: لذابت أنفسهم.

وقال بعض السلف: ما سرني أن لي نصف الجنة بالرؤية ثم تلا: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].

وقال ذو النون: ما طابت الدنيا إلا بذكره وما طابت الآخرة إلا بعفوه وما طابت الجنة إلا برؤيته (1). وكان بعض العبّاد يقول: ليت ربب جعل ثوابي من عملي نظرةً مني إليه ثم يقول لي كن ترابًا.

وفي هذا المعنى أنشد بعضهم وأحسن:

وحرمة الود ما لي عنكم عوض

وليس لي في سواكم سادتي غرضُ

وقد شرطت على قوم صَحِبْتَهم

بأن قلبي لكم من دونهم فرضوا

ومن حديثي بهم قالوا به مرض

فقلت لازال عني ذلك المرضُ

وأنشد غيره في المعنى وأجاد رحمه الله تعالى:

يا حبيب القلوب ما لي سواكا

ارحم اليوم مذنبًا قد أتاكا

أنت سؤلي ومنيتي وسروري

قد أبى القلب أن يحب سواكا

يا مرادي وسيدي واعتمادي

طال شوقي متى يكن لقاكا

ليس سؤلي من الجنان نعيما

غير أني أريدها لأراكا

وقد قال جل شأنه: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] وأشرف طمع أهل الجنة رؤية مولاهم وقربه وجواره وأعظم خوفهم حجابهم عنه وقد أمن أهل الجنة منه.

(1) ذكره ابن الجوزي في "صفوة الصفوة" 4/ 319.

ص: 1573

قال حسين بن زياد: أخذ فضيل بن عياض بيدي فقال: يا حسين ينزل الله كلّ ليلة إلى سماء الدنيا فيقول: كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني أليس كل حبيب يحب الخلوة بحبيبه؟ ها أنا ذا مطلع على أحبابي إذا جنهم الليل مثلت نفسي بين أعينهم فخاطبوني على المشاهدة، وكلموني على حضوري غدًا أُقِرُّ أعينهم في جناني (1).

وفي لفظ: جعلت أبصارهم في قلوبهم ومثلت نفسي بين أعينهم. فإن قلت: كيف قال تعالى: ومثلت نفسي وهو سبحانه لا مثل له قلنا: هذا كلام من لم يعلم الفرق بين المثل والمثال وذلك جهل فالمثل هو المساوي في جميع الصفات والمثال لا يُشترط فيه المساواة وتأمل العقل فإنه لا يماثله غيره وكثيرًا ما يمثل بالشمس وليس بينهما المناسبة إلا بشيء واحد وهو أنَّ المحسوسات تنكشف بنور الشمس كما تنكشف المعقولات بنور العقل.

والمراد هنا: جعلت بصائر أحبابي مشاهدة لي، وناظرة لجمالي، وعاكفة عليه، ومخاطبة لي على الحضور والشاهدة ومن هنا ترك أهل المحبة المنام، واستعذبوا صف الأقدام في جملةِ الخدام وأسبلوا دموعَ الشوق والشغف، وبذلوا النفوس النفيسة لينالوا ذلك الشرف.

قال أحمد بن أبي الحواري: دخلتُ على أبي سليمان فرأيته يبكي فقلت: ما يبكيك؟ قال: ويحك يا أحمد إذا جنَّ الليلُ، وخلا كلُّ حبيبٍ بحبيبه افترشَ أهْلُ المحبة أقدامهم، وجرت دموعُهم على

(1) رواه أبو نعيم في "الحلية" 8/ 99 - 100.

ص: 1574

خدودِهم أشرف الجليل جل جلاله وقال: بعيني من تلذذ بكلامي، واستروح إلى مناجاتي وأنا مطلع عليهم في خلواتهم أسمع أنينهم، وأرى بكاءهم، وحنينهم يا جبريل نادهم: ما هذا الذي أرى فيكم؟ هل أخبركم مخبر أنَّ حبيبًا يعذِّب أحبابَه بالنَّارِ؟ بل كيف يجمل أن أعذب قومًا إذا جنهم الليل تملقوني؟ في حلفت إذا وردوا القيامة علىَّ أن أسفر لهم عن وجهي، وأبيحهم رياض قدسي.

وكان لداود الطائي جارة يُقال لها أم سعيد بن علقمة قالت: كان بيني وبين داود الطائي جدار قصير فكنت أسمع حنينَه عامة الليلِ لا يهدأ ولربَّما سمعته يقول في جوف الليل: اللهمَّ همك عطل على الهموم، وحال بيني وبين السهاد، وشوقي إلى النظرِ إليكَ وضعَ مني اللذات والشهوات فأنا في سبحتك أيها الكريم مطلوب قالت: وربَّما ترنم في السحرِ بشيء من القرآن فأرى أنَّ جميعَ نعيم الدُّنيا جمع في ترنمه تلك الساعة (1). أحبابي أمّا جفن عيني فمقروح، وأمّا فؤادي فهو بالشوق مجروح:

يذكرني مر النسيم عهودكم

فأزداد شوقًا كلّما هبت الريح

أراني إذا ما أظلم الليلُ أشرقت

بقلبي من نار الغرام مصابيح

أصلي بذكراكم إذا كنت خاليًا

إلا أنَّ تذكار الأحبّة تسبيح

يشح فؤادي أن يخامر سره

سواكم وبعض الشح في المرء ممدوح

وإنْ لاح برق بالغوير تقطع

الفؤاد على وادٍ به ألبانُ والشيح

(1) رواه أبو نعيم في "الحلية" 7/ 356 - 357.

ص: 1575

ولم يزل المحبون يستروحون لنسيم الأسحار، ويترنمون على ذلك بالأشعارِ وذلك لأنَّها تمر على دارِ الحبيب، وتحمل من ذلك البرد والطيب ولذا قيل:

تمرُّ الصبا سفحًا بساكن ذي الفضا

وتصدع قلبي أن يهب هبوبها

قريبة عهد بالحبيب وإنَّما

هوى كل نفس حيث حل حبيبها

قال الحافظ ابن الجوزي: قال الربيع: بت أنا ومحمد بن المنكدر وثابت البناني عند ريحانة المجنونة بالأيلة فقامت الليل وهي تقول:

قام المحب إلى المؤمل قومةً

كاد الفؤاد من السرور يطير

فلمَّا كان جوف الليل سمعتها تقول:

لا يأنس بمن يوحشك نظرته

فيمنعن من التذكار في الظلم

واجهد وكد وكن في الليل ذا شجن

يسقيك كأس وداد العز والكرم

ثم نادت: واحزناه. فقلت: من ماذا؟ فقالت:

ذهبَ الظلامُ بأنسه وبألفه

ليت الظلام بأنسه يتجدد

وقيل لبعض العارفين: متى تقع الفراسة على الغائب؟ قال: إذا كان محبًا لما أحب الله، مبغضًا لما أبغض الله وقعت فراسته على الغائب وأنشد بعضهم (1):

تشاغل قومٌ بدنياهم

وقوم تخلوا لمولاهم

فألزمهم باب مرضاته

وعن سائر الخلق أغناهم

فما يعرفون سوى حبه

وطاعته طول محياهم

(1) الأبيات لأبي الوفاء القزويني.

ص: 1576

يصفون بالليل أقدامهم

وعين المهيمن ترعاهم

فطورًا يناجونه سجدا

ويبكون طورًا خطاياهم

إذا فكروا في الذي أسلفوا

أذاب القلوب وأبكاهم

وإن يسكن الخوف لأذوابه

وباحوا إليه بشكواهم

وأضحوا صيامًا على جهدهم

تبارك مَن هو قواهم

هم القوم أعطوا مليك الملوك

صدق القلوب فوالاهم

هم المخبتون بنياتهم

أرادوا رضاه فأعطاهم

وأسكنهم في فراديسه

وأعلى المنازلَ بواهم

فنالوا المراد وفازوا به

فطوبى لهم ثم طوبى هم

وقال الإمام الحافظ ابن رجب رحمه الله: قرأت بخط الشيخ عبد الله بن أحمد بن صابر السلمي أنشدنا أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن عقيل السهرزوري لبعضهم:

قليلُ العزاءِ كثير الندم

طويل النحيب على ما اجترم

جرى جمعُه فبكى جفنه

وصارَ البكاء بدمع ودم

يخاف البيات كهجر المماتِ

وفقد الحياة بضر السقم

ويخفى محبة ربّ العلى

فتظهر أنفاسُه ما كتم

وأسبل من طرفه عبرةً

على الصحن من خده فانسجم

وبات محارب محرابه

ولما تزل قدم عن قدم

فلما تفتت أجساده

من الشوق رق عليه الألم

وكم ليلة رامَ فيها النيام

فصاحَ به حبه لا تنم

وناحَ على جسدنا حل

أطال النحول به فانهدم

ص: 1577

أناب إلى الله مستغفرًا

وصارَ له مِن أعز الخدم

أقول: لمَّا أشرقت القلوب بنور المحبوب اضمحل سلطانُ النومِ ولم يخطر ببالِ القومِ ومن المعلوم أنَّه متى أشرقت الشمس أنجاب الظلامُ، وانعكس سلطانه، وكذلك النوم متى أشرقت القلوب بالأنوار القدسية، والأسرار الأنسية تلاشى سلطانه، وانمحق برهانه.

لطيفة أخرى: النوم ينشأ عن الرطوبة والأبخرة، والمحبة نار تذهب ذلك أو تجففه وتلاشيه وتمحقه فالمحب قليلُ النّومِ كثير التأوه وما أحسن ما قيل (1):

كيف ترضى بمقلة تألف النوم

ودمع يصان في الآماق

وزمان الصبا يمر وقد

أنفق أيامه زمان الفراق

والليالي تمضي سراعا وما

تقبل منها حوالة في الباق

كانت امرأة متعبدة لا تنام في الليل إلا يسيرا فعوتبت في ذلك فقالت: كفى بطول الرقدة في القبور رقادا وأنشد بعضهم:

أيها العذال لا تعذلوا

إنما النصح لمن يقبل

وأرى ليلي لا ينقضي

طال ليلي والهوى أطول (2)

ويقال: الليل للمحبين سهرٌ على كل حال فمن كان وقته وقت فراق وهجر فهو يقول:

كم ليلةٍ فيك لا صباح لها

أفنيتها قابضًا على كبدي

(1) الأبيات لابن سنان الخفاجي.

(2)

انظر: "المدهش" لابن الجوزي ص 815.

ص: 1578

قد غصت العين بالدموع وقد وضعت خدي على بنان يدي (1)

ومن كان وقته وقت قرب وصفاء ووصل ووفاء فهو يقول:

كم ليلةٍ قضيتها ساهرًا

لما تولى هجركم معرضا

أطوف في ظلمائها مبصرًا

وليس ضوء مثل ضوء الرضا

والأول يقول ولبه بالغرام مذهول يتطلب الوصال، وقد صال عليه الغرام فقطع الأوصال وصاح يا صاح وليس ثامل كصاح فهو ينشد:

سروري من الدهر لقياكم

ودار سلامي مغناكم

إذا ازدحمت في فؤادي الهموم

أروّح قلبي بذكراكم

وأستنشق الريح من أرضكم

لعلي أحظى برؤياكم

فلا تنسوا العهد فيما مضى

فلسنا مدى الدهر ننساكم

واعلم أن الشوق إلى رب العالمين درجة عالية رفيعة تنشأ من قوة محبة الله سبجانه وسهر الليالي في طاعته، وأما من يطلب محبة الله والشوق إلى لقائه ونام الليل وأفطر النهار فإنما يطلب جذوة نار في بحر من الماء ما له قرار، أو كطالب ماءٍ من نارٍ وأنَّى بذلك فما في النّار للظمآن ماء.

وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك"(2) رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم عن عمار

(1) الأبيات لأحمد بن يوسف.

(2)

أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(1971)، والنسائي في "السنن الكبرى" 1/ 387.

ص: 1579

بن ياسر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال فتح الموصلي رحمه الله في عيد أضحى: قد تقرب المتقربون بقربانهم وأنا أتقرب إليك بطول حزني يا محبوب قلبى لمَ تتركني في هذه الدنيا محزونا ثم غشي عليه وحمل فدفن بعد ثلاث رحمه الله.

فهذا حال من غلب عليه الشوق والتهبت نار الغرام في قلبه، وغلب عليه الرجاء فتاق إلى لقاء ربه.

وأما من غلب عليه الخوف فلا يتمنى الموت وذلك؛ لأن محبوبه تجلى على قلبه بصفات الجلال، فتلاشى طمعه وانمحق فرحه وفشى جزعه ورأى من نفسه غاية التقصير في جناب الملك القدير فالحزن دثاره والخوف شعاره والتأوّه ديدنه والتضرع أذكاره.

قال كعب رحمه الله: من بكى اشتياقًا إلى الله عز وجل؛ أباحهُ النظر إليه تبارك وتعالى، وكان أبو عبيدة الخواص: يمشي في الأسواق ويضرب على صدره ويقول واشوقاه إلى من يراني ولا أراه (1).

وكان بمكة امرأة من العابدات تصرخ وتقول: أوليس عجبًا

(1) ورد في هامش الأصل: ولبعضهم:

يا من يراني ولا أراه

كم ذا أراه ولا يراني

يعني: كم ذا أراه محسنًا إلى ولا يراني في طاعته وحيثما أمرني به. والله أعلم. عن نسخته عن خطه.

ص: 1580

تروني حية بين أظهركم وفي قلبي من الأشواق إلى ربي، مثل شعل النار التي لا تطفأ حتَّى أصير إلى الطبيب الذي بيده بُرء دَائي وشفائي.

وذكر في "زبدة الأعمال وخلاصة الأفعال الملتقطة" من تاريخ مكة للأزرقي رحمه الله: أن بعض العابدين قال: رأيت شابة نحيفة الجسم خفيفة الساقين في الطواف وهي تقول: هذا بيت ربي هذا بيت معشوقي (1) هذا بيت من اشتقت إليه ثم وضعت خدها على حائط البيت فوقفت ساعة ثم أنشأت تقول:

الشوق حيرني والشوق طيرني

والشوق قربني والشوق أبعدني

والشوق قيدني والشوق أطلقني

والشوق فرق بين الجفن والوسنِ

فقال لها الشبلي: هل اشتقت إلى ربك؟ قالت: لا لأنّ الشوق لا يكون إلا لغائب وما غبت عنه طرفة عين وأنشدت:

قلب شرود وعقل والهٌ أبدا

وشربة سكرها باقٍ إلى الأبدِ

يا عاذل العاشقين أرفق علىَّ فهمُ

أفنوا زمانهم بالهمِّ والكمدِ

أفناهم الحب والكتمان قاطبة

حتَّى تراهم بلا روح ولا جسدِ

كان يقوم بصدري في بعض الأحيان من الغرام ما يجرِّعني كاسات الحِمام. وتضيق عليّ الأرض بما رحبت فأخرج إلى الفلاة وأنوح على نفسي وقد أوهى جسمي شوقي وحدسي.

ولقد قلت في مثل هذه الحالة وأنا أتخيل أن الغرام يفني جسمي لا محالة من قصيدة طويلة أولها:

(1) هذه من عبارات الصوفية يصفون الله عز وجل بمعشوقهم وهذا خلاف السنة.

ص: 1581

سقاني البين كاسات الحمام

وهاج بلا بلي صدح الحمامِ

وفاضت عبرتي وازداد وجدي

وغاضت زفرتي وفشى غرامي

وجدّ الوجد بي فغديت مما

أكابد في الهوى محنى كلامِ

وزاد الوجدُ والتبريحُ حتَّى

خفيت عن الورى لولا كلامي

أأزيد صبابة وتزيد بعدا

تلطَّف بي بذلي وانحطامي

ترفق بي فما أبقيت مني

سوى بثي وحزني وانعدامي

وغاض السمع وانمحق اصطباري

وفاض الدمع واشتهر اكتتامي

وقلت وقد طرقني مثل هذا وتيقنت أن ذا الغرام من الغرام هذا:

ما لي تحيرت دون الناس في أمري

أحس قلبي على مستوقد الجمر

أجوب في الأرض وحدي لا أرى أحدا

أشكو إليه غراما حل في صدري

فوا أسفي على بلد خُلى

عن الأغيار مع صوب الغمام

وخلِّ صادقٍ في الودّ حتَّى

أبث له أحاديث الغرام

وشدة الشوق قد يخرج الإنسان عن طور التكليف، ومن ثم ترى بعض هؤلاء يتكلم بكلام ليس من جنس كلام العقلاء وما ذاك إلا من شدة اللذة والأنس يذهب عن حواسه باستغراقه في لذة شوقه حتَّى إنه يقول:

ولو أن ما بي في الحصى فلق الحصى

وفي الريح لم يظهر لهن هبوب

ولو أنني أستغفر الله كلما

ذكرتك لم يكتب على ذنوب

وبي من غرام لو تجسم بعضه

ومرّ بأهل الأرض لا نخبل الكل

سقوني وقالوا لا تغني فلو سقوا

جبال حنين ما سقوني لغنتي

ص: 1582

ويقول:

وبي من غرام لو تجسم بعضه

ومرّ بأهل الأرض لا نخبل الكل

ويقول:

سقوني وقالوا لا تغني فلو سقوا

جبال حنين ما سقوني لغنتي

وسمع الجنيد قدس الله سره في جوف الليل جارية تقول:

أبى الحب أن يخفى وكم قد كتمته

فأصبح عندي قد أناخ وطنبا

إذا اشتد شوقي هام قلبي بذكره

وإن رُمتُ قربًا من حبيبي تقربا

ويبدو فأفنى ثم أحيى به له

ويبعدني حتَّى ألذّو أطربا

فقال لها: يا جارية أما تتقين الله؟ تتكلمين في مثل هذا المكان بمثل هذا الكلام، وكانا في الطواف فالتفتت إليه؟ وقالت: يا جنيد:

لولا التقى لم ترني

أهجر طيب وثني

إنّ التقى شردني

كما ترى من وطني

أقر من وجدي به

فحبه هيَّمنى

ثم قالت: يا جنيد تطوف بالبيت أم برب البيت؟ فقال: أطوف بالبيت فرفعت رأسها وقالت: سبحانك ما أعظم مشيئتك على خلقك، خلقك كالأحجار يطوفون بالأحجار (1)، ثم قالت:

ص: 1583

يطوفون بالأحجار يبغون قربةً

إليك وهم أقسى قلوبًا من الصخر

وتاهوا فلم يدروا من التيه من همُ

وحلوا محل القرب في باطن الفكر

فلمّا أخلصوا في الود غابت صفاتهم

وقامت صفات الود للحق بالذكر

فغشي على الجنيد من كلامها، فلما أفاق لم يرها.

وذكر الحافظ ابن رجب في "استنشاق نسيم الأنس"(1) عن ذي النون رحمه الله تعالى أنه قال: إنَّ المؤمن إذا آمن بالله واستحكم إيمانه خافَ الله تولدت من الخوف هيبة، فإذا سكن درجةَ الهيبة تولدت طاعته لربِّه، فإذا أطاعَ تولد من الطاعةِ الرجاء، فإذا سكن الخوف والرجاء تولدت من الرجاء المحبة، فإذا استحكمت معاني المحبة في قلبهِ سكن بعدها درجةَ الشوقِ، فإذا اشتاق أداه الشوقُ إلى الأنس بالله، فإذا أنس بالله اطمأن إلى الله، فإذا اطمأن إلى الله كان ليله في نعيم ونهاره في نعيم وسره في نعيم وعلانيته في نعيم.

قال الحافظ: ولا ريب أنّ الشوقَ يقتضي القلق، لكن قد يمنح الله بعض أهله ما يسكن قلقه من الأنس به والطمأنينة إليه كما أشار إليه ذو النون.

وعن إبراهيم بن أدهم قدس الله سره قال: قلتُ يومًا: اللهم إن كنت أعطيت أحدًا من المحبين لك ما سكنت به قلوبهم قبل لقائك فأعطني ذلك، فلقد أضرني القلق، قال: فرأيته تعالى في النوم يوقفني بين يديه وقال لي: يا إبراهيم أما استحييت مني تسألني أن أعطيك ما

(1) سبق التوثيق من هذا الكتاب.

ص: 1584

يسكن به قلبك قبل لقائي؟ وهل يسكن بيت المشتاق إلى غير حبيبه؟ أم هل يستريح المحب إلى غير من اشتاق إليه، قَالَ: فقلت: يا رب تهت في حبك فلم أدرِ ما أقول.

وأخرج أبو نعيم عن عبد العزيز بن محمد قال: رأيت في المنام قائلاً يقول: من يحضر؟ من يحضر؟ فأتيته، فقال لي: أما ترى القائم الذي يخطب الناس ويُخبرهم عن أعلى مراتب الأنبياء، فأدرك فلعلك تلحقه وتسمع كلامه قبل انصرافه فأتيته فإذا الناس حوله وهو يقول:

ما نال عبدٌ من الرحمن منزلةً

أعلى من الشوق إن الشوق محمود

ثم سلَّم ونزل فقلتُ لرجلِ إلى جانبي: من هذا؟ قال: أما تعرفه قلت: لا قال: هذا داود الطائي فتعجبتُ في منامي منه فقال: أتعجبُ مما رأيتَ، والله الذي عند الله لداود من الزلفى أكبرُ من هذا وأكثر.

لا جرم أن الشوق للمحبوب مطلوب وأن التقرب بأنواع محابِّه مرغوبٌ فيا لله! كم من عاشق انصدع فؤاده وأفناه الشوق وأباده مراده، وتخلى بأوصاف السقم وصار دمعه كالعنم (1) وهام وجالت فيه الأوهام:

فهجر (2) الرقاد وطيب الزواد

وألِفَ السُّهادَ وأمسى علم

إذا نام ناداه فرط الغرام

أفق إنَّ محبوبنا لم ينم

فقام يردِّدُ زفراتِه

ويفرع لله مولى النعم

أجَدَّ به الوجدُ حتى غدا

إذا ما غدا في الغرام انعدم

جفى جفنَه يا خليلي الكرى

وقام يناجي وصف القدم

(1) العنم: شجر لين الأغصان.

(2)

في الأصل، أعلى كلمة "فهجر" كلمة "خلى" ولعل الناسخ يقصد رواية أخرى للبيت.

ص: 1585

فناداه مولاه طبْ يا فتى

فأنت لنا من أعز الخدم

ويعجبني قول من قال من أهل الصبابة والحال:

هجرت الكرى في حُبِّ من جاد بالنعم

وعِفْتُ الكرى شوقًا إليه فلم أنم

وموهتُ دهري يا لجنون عن الورى

لأكتُمَ ما بي من هواه هما انكتم

فلما رأيت الشوق والحب بايحا

كشفت قناعي ثم قُلْتُ: نعم نعم

فإن قيل مجنونٌ فقد جنني الهوى

وإن قيل: مسقام فما بي من سقم

وحق الهوى والحب والعهد بيننا

وحرمة روح الأنس في حِنْدِسِ (1) الظلم

لقد لامني الواشون فيك جهالة

فقلت لنطقي أفصح العذر فاحتشم

فعاتبهم طرفي بغير تكلم

وأخبرهم أن الهوى يورث الصمم

فبالحلم يا ذا المنّ لا تبعدنني

وقرِّب مزاري منك يا باري النسم

قال ابن الجوزي (2): ذكر ابن الجوّال المغربي قال: كنت ببيت المقدس جالسًا وإذا قد طلع شابٌ والصبيانُ حوله يرمونه بالحجارة ويقولون مجنون فدخل المسجد وجعل ينادي: اللهمَّ أرحني من هذه الدار فقلت له: هذا كلام حكيم فقال: ليس بي جنون ووَلَق بل فرَقٌ وقلق ثم أنشأ يقول الأبيات المتقدمة.

قال: فقلت له: أحسنت لقد غلط من سمّاك مجنونا، فنظر إليّ وبكى ثم قَالَ: ألا تسألني عن القوم كيف وصلوا واتصلوا؟ قلت: بلى أخبرني، قال: طهروا له الأخلاق، ورضوا منه بيسير الأرزاق وهاموا في محبته في الآفاق، وائتزروا بالصدق وارتدوا بالإشفاق، وباعوا العاجل الفاني بالآجل الباقي، ركضوا في ميادين السباق

(1) حِنْدِس: شديد الظلمة.

(2)

صفة الصفوة 4/ 209 - 210.

ص: 1586

وشمّروا تشمير الجهابذة الحذاق، حتى اتصلوا بالواحد الخلاق، فشردهم في الشواهق عن الخلائق لا تأويهم دار، ولا يقرُّ لهم قرار، فالنظر إليهم اعتبار، ومحبتهم افتخار، وهم صفوة الأبرار، ورهبان أخيار مدحهم الجبار، ووصفهم النبي المختار، إن حضروا لم يُعرفوا وإن غابوا لم يُفتقدوا وإن ماتوا لم يشهدوا.

ثم أنشأ يقول:

كن من جميع الخلق مستوحشًا

من الورى تسري إلى الحق

واصبر فبالصبر تنال المنى

وارض بما يجري من الرزق

واحذر من النطق وآفاته

فآفة المؤمن في النطق

وجِدَّ في السير ممرًا كما

شمر أهل السبق للسبق

أولئك الصفوة ممن سما

وخيرة الله من الخلق

قال: فأنسيت الدنيا عند (1) حديثه ثم ولىَّ هاربًا فأنا متأسف عليه.

المقصد الرابع: فى رضا المحبين بمر الأقدار والتذاذهم بما يبتليهم به العزيز الجبار كان من دعائه عليه الصلاة والسلام: "أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك"(2).

وأخرج الترمذي عن أنس مرفوعًا: "أن الله إذا أحبّ قومًا ابتلاهم فمن رضى فله الرضا ومن سخط فله السخط"(3).

(1) في الأصل (عن) وما أثبتناه من صفة الصفوة 4/ 210.

(2)

أخرجه ابن حبان في "صحيحه" 5/ 305، والنسائي في "الكبرى" 1/ 387.

(3)

أخرجه الترمذي (2396)، وابن ماجه (4031)، وقال الترمذي: حسن غريب من هَذَا الوجه.

ص: 1587

وخرج الإسمعيلي عن عمر رضي الله عنه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلًا وعليه إهابٌ يعني: جلد كبش قد تنطق به فقال صلى الله عليه وسلم: "انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نور الله قلبه لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون"(1).

وذكر الحافظ ابن رجب عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من عبد يحبُّ الله ورسولَه إلا الفقر أسرع إليه من جرية السيل من رأس الجبل على وجهه ومن أحب الله ورسوله فليُعِدَّ للبلاء تجفافًا"(2) يعني: الصبر.

قال وفيه ضعف لكن روي معناه من وجوه متعددة.

ولما احتضر سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه، وتغشاه الموت جعل يقول: اخنق خنقك فوعزتك إني أحبك (3).

وقال الحارث بن عَميرة: إن معاذًا نزع نزعًا لم ينزعه أحد وكان كلما فاق من غمره فتح طرفه ثم قَالَ: اخنقني فوعزتك إنك تعلم أن قلبي يحبك (4).

وقال حذيفة رضي الله عنه لما نزل به الموت: هذه آخر ساعةٍ من

(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 108.

(2)

أخرجه البيهقي في "السنن" 6/ 119.

(3)

المحتضرين لابن أبي الدنيا (128).

(4)

مسند البزار 7/ 115، وأبو نعيم في "الحلية" 12/ 240.

ص: 1588

الدنيا اللهم إنك تعلم أني أحب لقاءك.

وقال أبو على الرازي: صحبت الفضيل بن عياض ثلاثين سنة فما رأيته ضاحكًا ولا متبسمًا إلا يوم مات ابنه على فقلت له في ذلك فقال: إن الله أحبَّ أمرًا فأحببت ما أحبَّ الله (1).

وقال الفضيل: درجة الرضا عن الله درجة المقربين ليس بينهم وبين الله إلا روح وريحان (2).

وقال: أحق الناس بالرضا عن الله العارفون بالله.

وقيل له: متى يبلغ الرجل غايته من حب الله تعالى؟ فقال: إذا كان عطاؤه ومنعه إياك عندك سواء فقد بلغت الغاية من حبه.

وذكر أبو قاسم الدمشقي الحافظ في "تاريخه" عن أبي شعيب قال: سألت إبراهيم بن أدهم الصحبة إلى مكة، قال لي: على شريطة، على أنك لا تنظر إلا لله وبالله فشرطت له ذلك على نفسي فخرجت معه فبينا نحن في الطواف فإذا أنا بغلام قد افتتن الناس به لحسنه وجماله فجعل إبراهيم يديم النظر إليه فلما أطال ذلك قلت: يا أبا إسحق أليس شرطت عليَّ أن لا تنظر إلا لله وبالله قال: بلى قلت: فإني أراك تديم النظر إلى هذا الغلام فقال: إن هذا ابني وولدي وهؤلاء غلماني وخدمي الذين معه ولولا شئ لقبَّلته ولكن انطلق فسلم عليه مني قال: فمضيت إليه وسلمت عليه من والده فجاء إلى

(1) ذكره المناوي في "فيض القدير" 2/ 129.

(2)

رواه أبو نعيم في "الحلية" 8/ 97.

ص: 1589

والده فسلم عليه ثم صرفه مع الخدم فقال: انتظر أي شيء يراد بك وأنشأ سيدنا إبراهيم طيب الله ثراه يقول:

هجرت الخلق طرًّا في هواكا

وأيتمت العيال لكي أراكا

فلو قطعتني في الحب إربا

لما حن الفؤاد إلى سواكا

ذكره الحافظ في "استنشاق نسيم الأنس"(1) وذكر فيه عن عبد الواحد بن زياد قَالَ: خرجت إلى ناحية البصرة فإذا إنسان اسود، مجذوم قَدْ تقطعت كل جارحة لَهُ من الجذام، وعمي وأُقعد، وإذا الصبيان يرمونه بالحجارة حتَّى دموا وجهه، فرأيته يحرك شفتيه، فدنوت منه لأسمع ما يقول، فإذا هو يقول: يا سيدي إنك لتعلم أنك لو قرضت لحمي بالمقاريض، ونشرت عظامي بالمناشير، ما ازددت لك إلا حبًا، فاصنع بي ما شئت، أخرجه ابن أبي الدنيا.

وقال الأوزاعي: حَدَّثَنِي بعض الحكماء قَالَ: رأيت رجلا قد ذهبت يداه ورجلاه وهو يقول: اللَّهُمَّ إني أحمدك حمدًا يوافي محامد خلقك لتفضلك عَلَيّ على سائر خلقك؛ إذ فضلتني عَلَى كثير ممن خلقت تفضيلاً فقلت له: عَلَى أي نعمة تحمد؟ فقال: أليس قَدْ ترى ما صنع بي، قُلْتُ: بلى، قَالَ: فوالله لو أن الله صب عليَّ السماء نارًا فأحرقني وأمر الجبال فدمرتني، وأمر البحار فغرقتني، وأمر الأرض فخسفت بي، ما ازددت لَهُ إلا حبًا، وما ازددت لَهُ إلا شكرًا.

(1) ص 107 وما قبله وما بعده منه.

ص: 1590

ومر بعض السلف عَلَى مجذوم وهو يقول: وعزتك وجلالك لو قطعتني بالبلاء قطعًا ما ازددت لك إلا حبًا وفي هذا المعنى قَالَ بعضهم:

لو قطعني الغرام إربًا إربا

ما ازددت على الملام إلا حُبَّا

لا زلت بكم أسيرَ وجدٍ وصبا

حتَّى أقضي على هواكم نحبا

وذكر الشيخ برهان الدين في شرح حكم ابن عطاء الله: أن عروة بن الزبير رضي الله عنهما ابتلي بقرحة في ساقه فبلغت إلى نشر ساقه في الموضع الصحيح منها فقال له الأطباء: ألا نسقيك مرقدا فلا تحس بما نصنع بك، فقال: لا ولكن شأنكم فنشروا منه الساق ثم حسموها بالزيت المغلي فما حرك عضوًا ولا أنكروا منه شيئًا حتَّى مسه الزيت فما زاد على أن قَالَ: حس.

وأصيب رضي الله عنه بولده محمد وكان من أحب ولده إليه، ولما رأى القدم بيد بعضهم قال: أما إنَّ الله يعلم أني لم أمش بها إلى معصية قط ثم قال: يا غلام غسلها وكفنها وادفنها في مقبرة المسلمين ثم جعل يقول: لئن أخذت لقد أبقيت ولئن ابتليت لقد عافيت ولئن أخذت لطال ما أعطيت.

وذكر الحافظ ابن رجب عن بعض العارفين قال: ليس يتحقق في الحب حتى يتلذذ بالبلاء في الحب كما يتلذذ الأغيار بأسباب النعم.

وكان عبد الصمد الزاهد يقول: أوجدهم في تعذيبه عذوبة، يشير إلى صبرهم على الضر والفقر.

ص: 1591

وقالت رابعة: إن أولياء الله إذا قضى لهم شيئًا لم يسخطوه.

وقال يحيى بن معاذ: لو أحببت ربك ثم جوعك وأعراك لكان يجب أن تحتمله وتكتمه عن الخلق فقد يحتمل المحب لحبيبه الأذى فكيف وأنت تشكوه فيما لم يضعه بك، وفي هذا قيل:

ويقبح من سواك الفعل عندي

وتفعله فيحسن منك ذاكا

وكان على بن بابويه الصوفي في الطواف فهجمت القرامطة على الناس فقتلوهم فأخذته السيوف فلما وقع تمثل بهذا البيت:

ترى المحبين صرعى في ديارهم

كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

واستشهد لبعض السلف ولدٌ في الجهاد فجاء الناس يعزونه فبكى وقال: ما أبكي على موته، إنما أبكي كيف كان رضاه عن الله حين أخذته السيوف. وفي هذا المعنى يقول القائل:

إن كان سكان الفضا

رضوا بقتلي فرضا

والله لا كنت لما

يهوى الحبيب مبغضا

صرت لهم عبدًا وما

للعبد أن يتعرضا

وسُئل يوسف بن الحسين: ما بال المحبين يتلذذون بالذل في المحبة، فأنشأ يقول:

ذل الفتى في الحب مكرمة

وخضوعه لحبيبه شرف

وقال آخر:

ما لي تطاوعني البرية كلها

وأطيعهن وهن في عصياني

ما ذاك إلا أن سلطان الهوى

وبه قوين أعز من سلطاني

ص: 1592

وقال آخر:

أما يكفيك أنك تملكني

وأن الناس عندي كالعبيد

وإنك لو قطعت يدي ورجلي

لقلت من الرضا أنصفت زيدي

فإذا كان هذا لمحبةِ مخلوق فما بالك بمحبة من أوجدك من العدم وأسبل عليك غزير النعم وعلى كل حال المحب تابع لهوى محبوبه بلا محال، قال المحب:

عذب بما شئت غير البعد عنك تجد

أوفى محب بما يرضيك مبتهج

وخذ بقية ما أبقيت من رمق

لا خير في الحب إن أبقى على المهج

وقال آخر:

وبما شئت في هواك اختبرني

فاختياري ما كان فيه رضاكا

وقال:

لو قيل قف تيهًا على جمر الغضا

لوقفت ممتثلًا ولم أتوقف

هيهات ذهب الأبطال ولم يبق إلا كل بطَّال، فيا من رضي من الزهد بالزي، ومن الفقر بالاسم، ومن التصوف بالصوف، ومن التسبيح بالسبح، أين فضل الفضيل؟ أين جد الجنيد؟ أين سر السرى؟ أين همة ابن أدهم؟ ويحك إن لم تقدر على معرفة معروف فاندب على ربع رابعة:

هاتيك ربوعهم وفيها كانوا

بانوا عنها فليتهم ما بانوا

ناديت وفي حشاشتي نيرانٌ

يا دار متى تحول السكّانُ

يا من كان له قلب فانقلب، يا من كان له وقت مع الله فذهب، قيام الأسحار يستوحش لك صيام النهار يسأل عنك ليالي الوصال

ص: 1593

تعاتبك على انقطاعك والسنة تسأل عنك وعن حسن اتباعك

تشاغلتم عنا بصحبة غيرنا

وأظهرتم الهجران ما هكذا كنا

وأقسمتموا أن لا تحولوا عن الهوى

فقد وحيات الحب حلتم وما حلنا (1)

ليالي كنا نجتني من ثماركم

فقلبي إلى تلك الليالي قد حنا

ولقد كنت قلت أبياتًا في بعض الخلوات والقلب فيه لواعج الزفرات ولا أذكر منها الآن غير ثلاثة أبيات وهي:

كان لي قلب أعيش به

بين أخداني وأترابي

باد مني في تقلبه

في الغرام فصحت يا مابي

كيف يصحو غير منتبه

في هواها منذ أحفابي (2)

وهكذا كان شأنهم يتلذذون بما يرضي مولاهم وإن كان صعبًا ويستريحون به وإن كان تعبا.

هجم عيد على عبد الصمد وليس عنده شيء فجاءه رجل بدراهم فردها وقال: دعني أتلذذ بفقري كما يتلذذ الأغنياء بغناهم (3).

المقصد الخامس: في المحبة والأخوة في الله سبحانه وتعالى

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 62، 63] والتأليف: الجمع على ما يشاكل والمراد بالآية الأوسَ والخزرج وهم الأنصار رضي الله عنهم.

(1) هنا أقسم بالحب: وهو لا يجوز الحلف بغير الله سبحانه وتعالى.

(2)

ورد في هامش الأصل: البيت الثالث ليس هو الذي يلي الثاني عن نسخة المؤلف بخطه.

(3)

انظر: "صفة الصفوة" 1/ 310 (331).

ص: 1594

وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل المؤمنين في توادِّهم (1) وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"(2).

وفيهما عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه"(3).

وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حقّ المؤمن على المؤمن خمسٌ (4): يسلم عليه إذا لقيه ويشمته إذا عطس ويعوده إذا مرض ويشهد جنازته إذا مات ويجيبه إذا دعاه"(5).

فهذه الحقوق للاشتراك في الإسلام ثم إن الصادقة تطلق على ما دون الأخوّة فالأخوّة هي المرتبة العليا وإنما تقع الأخوّة الصادقة إذا حصل التشاكل بين الأخوين في أصل الوضع.

(1) ورد في هامش الأصل: قوله: في توادهم هو بتشديد الدال مصدر تواد، أي: تحابب، ووجه الشبه التوافق في التعب، والراحة، ولفظ الحديث خبر، ومعناه أمر أي: ليكون المؤمنون كنفس واحدة، إِذَا أصاب أحدهم مصيبة يغتم جميعهم، ويقصدوا إزالتها، مناوي ملخصا.

(2)

أخرجه البخاري (6011)، ومسلم 2586)، وأحمد 4/ 268.

(3)

أخرجه البخاري (481)، ومسلم (2585)، وأحمد 4/ 405، والترمذي (1928).

(4)

ورد في هامش الأصل: قوله: خمس أي: من الخصال يعم وجوب العين والكفاية والندب، وعطف الستة عَلَى الواجب جائز مع القرينة.

(5)

أخرجه البخاري (1240)، ومسلم (2162)، وأحمد 2/ 540، وأبو داود (5030).

ص: 1595

وفي الصّحيحين عن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"(1).

قال أبو سليمان الخطابي معنى هذا الحديث: الإخبار عن مبدأ كون الأرواح وتقدمها الأجساد على ما روي أن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بكذا وكذا فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنها خلقت على ائتلاف واختلاف فتأتلف الأجساد في الدنيا وتختلف على حسب ما وقع في مبدأ الخلقة.

قلت: وتقدم في مقدمة الكتاب الكلام على هذا وبيان ذلك مفصَّلا.

واعلم أن الأخوَّة على ثلاثة أقسام:

أحدها: الأخوّة العامة وهي التي ذكرها الله في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].

الثانية: أخوة النسب.

الثالثة: أخوة خاصة فوق الصداقة وهي التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه كعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع وهذه هي التي

(1) أخرجه البخاري (3336)، وفي الأدب المفرد (900)، وله شاهد عن أبي هريرة أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(901)، ومسلم (2638)، وأحمد 2/ 295.

ص: 1596

توجب المحبة في الله عز وجل وهي أوثق عُرى الإيمان. أن يحب في الله ويبغض في الله.

ومن ثواب المتحابين ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" فذكر منهم: "رجلين تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه"(1).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله عز وجل يقول يوم القيامة أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي"(2).

وأخرج ابن الجوزي بسنده عن أبي مسلم الخَوْلاني قال: أتيت مسجد أهل دمشق فإذا حلقة فيها كهول من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وإذا شاب فيهم أكحل العينين برَّاق الثنايا كلما اختلفوا في شيء ردوه إلى الفتى فقلت لجليسٍ لي من هذا قال: هذا معاذ بن جبل، فجئت من العشي فلم يحضر فغدوت من الغد فلم يجيئوا، فرحت فإذا أنا بالشاب يصلي إلى سارية فركعتُ ثم تحولت إليه قال: فسلم فدنوت منه فقلت: إني أحبك في الله قال: فدق إليه

(1) أخرجه البخاري (660)، (1423)، (6479)، ومسلم (1031)، وأحمد 2/ 439، والترمذي (2391).

(2)

أخرجه مسلم (2566)، وأحمد 2/ 237.

ص: 1597

وقال: كيف قُلتَ؟ قُلتُ: إني أحبك في الله، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله" قال: فخرجت حتَّى لقيت عبادة بن الصامت رضي الله عنه فذكرت له حديث معاذ بن جبل فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن ربّه عز وجل يقول: "حقت محبتي للمتحابين فيّ وحقت محبّتي للمتباذلين فيّ وحقت محبتي للمتزاورين فيّ والمتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله"(1). ورواه الإمام أحمد في المسند.

وفي حديث عمرو بن عبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله عز وجل يقول: حقت محبتي للذين يتحابون من أجلي وحقت محبتي للذين يَتَصَافَوْن من أجلي"(2).

وفي حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن لله تعالى عبادًا على منابر من نور في ظل العرش يغبطهم الشهداء" قيل: من هم؟ قال: "المتحابون في جلال الله عز وجل"(3).

وإنما يحصل هذا الثواب إذا كانت المحبة لله خاصة لا يشوبها كدر ومتى قويت محبة الله سبحانه في القلب قويت محبة أوليائه والصالحين

(1) أخرجه أحمد 5/ 236، والطبراني في "الكبير"(20/ 167).

(2)

أخرجه البيهقي في الشعب 6/ 485، وابن المبارك في "الزهد" 1/ 250.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في "العلل" 2/ 144 (1928).

ص: 1598

من عباده، ولينظر الإنسان من يؤاخي ومن يحب ولا ينبغي أن يتخير إلا من قد سبر عقله ودينه.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"(1) وفي الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعًا: "المرء مع من أحب فإذا أحب شخصًا فليعلمه"(2) وقال أبو زُرعة ابن عمرو بن جرير: "ما تحابّ رجلان في الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدهما حبّا لصاحبه".

وكان يقال: اصحب من إذا اصحبتَه زانك وإن خدمتَه صانك، وإن أصابتك خصاصةٌ مانك وإن رأى منك حسنة سرّ بها وإن رأى منك سقطة سترها، ومن إذا قلت صدَّق قولك ومن هو فوقك في الدين ودونك في الدنيا وكل أخ وجليس وصاحب لا تستفيد منه في دينك خيرًا فانبذ عنك صحبته فإذا صفت المحبة وخلصت وقع الشوق والتزاور وصار بذل المال أحقر الأشياء.

وقال مجاهد (3): إذا مشى أحد المتحابين إلى الآخر فأخذ بيده فضحك إليه تحاتت خطاياهما كما يتحات ورق الشجر (4).

(1) أخرجه أحمد 2/ 303، والحاكم في "المستدرك" 4/ 188، والطيالسي في "مسنده" 1/ 335.

(2)

أخرجه البخاري (6168)، ومسلم (2640)، وأحمد (1/ 392).

(3)

انظر: "المتحابين في الله" لابن قدامة ص 43 (37).

(4)

ورد في نفس المعنى أحاديث فيها مقال.

ص: 1599