الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: في المحبة
لمَّا ذكرنا التوبةَ، وشرحنا لكَ معانيها وشروطها والآثار الحاثة على الرغبة فيها أعقبناها بهذا الفصل العظيم لكونه مترتبًا عليها وناشئًا عنها لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222] وفيه مقاصد:
المقصد الأوّل: في لزوم المحبة له سبحانه وتعالى
قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (1)[المائدة: 54] الآية.
قال الإمام الحافظ ابن رجب في كتابه "استنشاق نسيم الإنس (2) من نفحات رياض القدس" عن أبي عبد الله محمَّد بن خفيف الصوفي سألنا أبو العباس بن سريج بشيراز فقال لنا: محبة الله فرض أو غير فرض قلنا فرض قال: ما الدلالة على فرضها فما منا من أتى بشيء
(1) ورد في هامش الأصل: قوله تعالى: يحبهم ويحبونه: محبة الله للعباد: إرادة الله الهدى والتوفيق لهم في الدنيا، وحسن الثواب في الآخرة. ومحبة العباد له: تمام إرادة طاعته والتحرز عن معاصيه. أهـ أقول وبالله التوفيق ومنه استمد العون والتسديد الصحيح إثبات محبة الله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته فهو أعلم بنفسه حيث أثبتها لنفسه في كتابه ورسوله هو المخبر عن ربه جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة فثبتها إثباتاً يليق به من غير تحريف أو تأويل أو تشبيه أو تعطيل.
(2)
27 - وفي المطبوع. شريح وأشار إلى أن سريح.
يقبل فرجعنا إليه وسألناه الدليل على محبة المولى الجليل فقال قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} الآية [التوبة: 24] فتوعدهم الله عز وجل على تفضيل محبتهم لغيره على محبته ومحبة رسوله والوعيد لا يقع إلا على فرض لازم وحتم واجب.
وفي الصحيحين عن أنس مرفوعًا: "أن محبة الله تمنعه من أن يعصيه" وقال عمر: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، ذكره أبو عبيد في "غريبه (1).
وقال الحسن: ابن آدم أحب الله يحبك الله واعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته.
وقال رجل لرابعة: إني أحبك في الله قالت: فلا تبغض الذي أحببتني له، وسئل ذو النون متى أحب ربي، قال: إذا كان ما يبغضه عندك أمر من الصبر، وقال النهرجوري: كل من ادعى محبة الله عز وجل ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطلة وكل محب ليس يخاف الله فهو مغرور.
وقال يحيى بن معاذ: ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده.
وقال رويم: المحبة الموافقة في جميع الأحوال وأنشد:
ولو قيل لي: مُتْ مِتُّ سمعًا وطاعةً
…
وقلت لداعي الموت أهلًا ومرحبا (2)
(1)"غريب الحديث" 2/ 107.
(2)
ورد في هامش الأصل: وهَذَا بياض هاهنا ستة أسطر في نسخة المؤلف بخطه كما ترى. لعل المصنف بدا لَهُ إلحاق شيء من الشعر المناسب للحال فلم تساعده الأقدار، ولا ينبغي الآن ترك بياض لفوات ذَلِكَ بموت المصنف رحمه الله.
وخرج الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "من أعطى لله ومنع لله وأبغض لله وأحب لله فقد استكمل إيمانه"(1) وخرجه الإمام أحمد وزاد فيه "وأنكح لله".
وسئل صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان فقال: "أن تحب لله وتبغض لله وتعمل لسانك في ذكر الله"(2).
والمحبة الصادقة الصحيحة تمنع من الإصرار على الذنوب وعدم الاستحياء من علام الغيوب ولذا قيل:
تعصي الإله وأنت تزعم حُبَّه
…
هذا لعمرك في القياس شنيع
لو كان حبك صادقًا لأطعته
…
إن المحبّ لمن يحبُّ مطيع
واعلم أن من أعظم المطالب وأهمها سؤال الله تعالى المحبة على أكمل الوجوه وأتمها وفي دعائه صلى الله عليه وسلم: "وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك" خرجه الإمام أحمد والترمذي وصححه والحاكم وقال صحيح الإسناد (3).
وفي بعض الروايات: "وحبَّ عمل يبلغني حبك" وفي دعاء داود عليه السلام "اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي
(1) حديث حسن، رواه أحمد 3/ 438، والترمذي (2521)، وأبو يعلى (1485، 1500)، والحاكم 2/ 164.
(2)
أخرجه أحمد 5/ 247، والطبراني في "الكبير" 20/ 191، والبيهقيُّ في "شعب الإيمان" 1/ 415.
(3)
"الترمذي" 3490، كتاب: الدعوات، باب: ما جاء في عقد التسبيح باليد، و"أحمد" 5/ 243، و"المستدرك" 1/ 521، وقال الألباني: ضعيف، قال أبو عيسى الترمذي: حسن غريب.
يبلغني حبك اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد" (1) رواه الترمذي وقال حسن غريب.
وفي دعاء نبينا صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارزقني حبَّك وحبَّ من ينفعني حبُّه عندك اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب اللهم وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغًا لي مما تحب"(2) رواه الترمذي وقال حسن غريب.
وذكر الحافظ ابن رجب: الله تَعَالىَ أرْسَلَ إلى سليمان بن داود عليهما السلام بعد موت أبيه ملكًا من الملائكة فقال له الملك: إنَّ ربي عز وجل أرسلني إليك لتسأله حاجة قال سليمان: فإني أسأل ربي أن يجعل قلبي يحبه كما كان قلب أبي داود يحبه وأسأل الله أن يجعل قلبي يخشاه كما كان قلب أبي داود يخشاه فقال الرب تبارك وتعالى أرسلت إلى عبدي ليسألني حاجة فكانت حاجته إلى أن أجعل قلبه يحبني وأجعل قلبه يخشاني وعزتي لأكرمنه فوهب له مُلكًا لا ينبغي لأحد من بعده ثمَّ قال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} (3)[ص: 39 - 40]
وكان الحسن رحمه الله تعالى يقول: اللهم املأ قلوبنا إيمانًا بك ومعرفةً بك ومعرفة لك وتصديقًا لك وحبًّا لك وشوقًا إلى لقائك.
(1) رواه الترمذي (3490) وقال: هَذَا حديث حسن غريب.
(2)
رواه الترمذي (3491) وقال: هَذَا حديث حسن غريب.
(3)
انظر الدر المنثور على تفسير هذه الآية.
وعن الحسن بن الحسين بن على عليهم السلام أنَّه كان يقول في دعائه: اللهم ارزقني محبةً لك تقطع بها عني محبّات الدنيا ولذاتها وارزقني محبة لك تجمع لي بها خير الآخرة ونعيمها، اللهم محبتُك آثرُ الأشياء عندي وأقرّها لعيني واجعلني أحبك حب الراغبين في محبتك حبًا لا يخالطه حبٌّ هو أعلا منه في صدري ولا أكبر منه في نفسي حتَّى يشتغل قلبي به عن السرور بغيره حتَّى تكمل لي به عندك الثواب غدًا في أعلا منازل المحبين لك يا كريم.
وكان الحسن هذا من خيار أهل البيت وكان يدعو بهذا الدعاء آخر كلامه ويبكي.
واعلم أنَّه لا يتصور حبّ إلا بعد معرفة بإدراك، وكل ما في إدراكه لذة فهو محبوب؛ لأنَّ في الطبع ميلا إليه.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: "حُبِّبَ إِليَّ من دنياكم الطيب (1) والنّساء (2) وجعلت قُرَّة عيني في الصلاة"(3) فجعل الصلاة أبلغ المحبوبات.
(1) ورد في هامش الأصل: لأنه حظ الملائكة ولا غرض لهم في شيء من الدنيا سواه أهـ.
(2)
ورد في هامش الأصل: قوله: النساء: أي: لنقل ما بطن من الشريعة أهـ.
(3)
رواه أحمد 3/ 128، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (322، 323)، وأبو يعلى (3482)، والطبراني في "الأوسط"(5199)، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي"(231، 727)، والحاكم 2/ 160، والحديث حسن.
قال ابن الجوزي: ومن المعلوم ليس تحظى (1) بها الحواس بل حس سادس مظنته القلب وهذه الحاسة تدرك بالخمس وبها يتميز الآدمي عن البهيمة.
فجمالُ المعاني المدركة بالعقل والبصيرة أعظم من جمال الصورة الظاهرة للأبصار فتكون لذة القلوب بما تدركه من الأمور الشريفة التي تجل عن أن تدركها الحواس أتم وأبلغ فيكون مثال العقل الصحيح أقوى فلا ينكر حُبَّ الله إلا من جاوز إدراك الحواس.
ومن المعلوم أن الإنسان يحب نفسه ودوام وجودها ويحب المال لأنه سبب بقائه ويحب ولده لأنه جزء منه ويحب أهله ومن أحسن إليه وليس كل جمال يدركه الحس فإن القلب أشد إدراكًا من العين وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور المدركة بالأبصار فإنّ من أحب أبا بكر وعليًا شاهد جمالهما وكمالهما في معانيه بعين علمه لا ببصره وكذلك من أبغض إبليس وأبا جهلٍ فبمشاهدة البصائر مقابحهما لا صورهما وهذه البصيرة هي نور العقل التام المعبر بها عند القوم بالذوق فجل المعاني العظيمة إنما تدرك بالذوق لا بالحواس.
(1) ورد في هامش الأصل: قوله: ليس تحظى بها: الظاهر أن الضمير يرجع إلى الصلاة يعني: أن قرة عين المصلِّي لا تدرك بالحواس الظاهرة. إذ هي لذة القلب وفرحه. وهي أعظم من لذة النساء والطيب وسائر الملاذ المدركة بالحواس. أهـ.
فالصبي يستلذ اللعب فإذا ترعرع رأى لذة الزينة وركوب الخيل فاحتقر ما كان فيه من اللعب، فإذا بلغ طلب النكاح فاحتقر ما كان فيه قبله، فإذا رأى الرئاسة والعلو وكثرة المال قدَّمه على ذلك فإن كان قلبه نيِّرًا قدَّم حب العلوم على الكل؛ لأنَّ لذة العلم تدرك بالذوق والعقل فتزيد على اللذات الحسية.
فعلى هذا لا محبوب على الحقيقة للعقول النيرة إلا الله عز وجل؛ لأنَّ الحب ميل النفس إلى الشيء الموافق والكمال والجمال والإحسان موافق
والله عز وجل منفرد بذلك فإنَّه تام القدرة كامل الصنعة ظاهر الحكمة خالق النفس، وبه قوامها وتكميلها فمن أحب نفسه وجب عليه حب من أفاده الوجود وأدامه له وهيأ له أسبابه، وأحسن إليه وحب المحسن يقع اضطرارًا.
قال عليه السلام: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة" فمن لاحظ جمال العزة وكمال العظمة وجزيل الفضل، أحب ضرورة وهذه المحبة لا تحصل إلا بعد المعرفة.
وقولنا: الحب ميل النفس إلى الشيء الموافق هو أحد الأقوال في تعريف المحبة.
وقيل: هي الميل الدائم بالقلب الهائم.
وقيل: قيامك لمحبوبك بكل ما يحبه منك.
وقيل: ذكر المحبوب عدد الأنفاس.
كما قيل:
يراد من القلب نسيانكم
…
وتأبى الطباع على الناقل
وقيل: مصاحبة المحبوب على الدوام كما قيل في ذلك:
ومن عجبي أني أحسن إليهم
…
واسأل عنهم من لقيت وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها
…
ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
وقيل: حضور المحبوب عند المحب دائمًا، وأن يكون القلب في تطلب الوصل هائمًا كما قيل:
ومن عجبي أني أحسن إليكم
…
ولم يخل طرفي من سناكم ولا قلبي
وأطلب قربًا من حماكم وأنتم
…
إلى ناظري والقلب في غاية القربِ
وقيل: هي سكون بلا اضطراب واضطراب بلا سكون،
فيضطرب القلب فلا يسكن إلَّا إلى محبوبه ويضطرب شوقًا إليه ويسكن عنده.
وهذا معنى قول: من قال: هي حركة القلب على الدوام إلى المحبوب وسكونه عنده.
وفي اشتقاقها أقوال: قيل: من حبَّة القلب وهي سويداه فسميت بها لوصولها إلى حبَّة القلب.
وقيل: مشتقة من اللزوم والثبات ومنه أحب البعير إذا برك فلم يقم.
وقيل: من حَباب الماء بفتح الحاء المهملة أي: معظمه، أو ما يعلو عند المطر الشديد.
فعلى هذا: المحبة غليان القلب وثورانه عند الاهتياج إلى لقاء المحبوب.
وقيل: من الحَبِّ وهو جمع حبة أعني: لباب الشيء وخالصه وأصله فإن الحَبَّ أصل النبات والشجر.
وقيل: من حِب الماء الذي يوضع فيه؛ لأنه يمسك ما فيه من الماء ولا يسع غيره إذا امتلأ، وكذلك قلب المحب إذا امتلأ من الحب فلا اتساع فيه لغير المحبوب والحب بالكسر الزير.
وقيل: مشتقة من الصفاء؛ لأنَّ العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها حبب الأسنان.
وقيل غير ذلك، وسئل الجنيد رحمه الله عن المحبة لله فقال: عبدٌ ذهب عن نفسه واتصل بذكر ربه، وقام بأداء حقوقه ونظر إليه بقلبه، فإن تكلم فبالله وإن سكت فمع الله.
وقال بعضهم: الحب كامن في الفؤاد كالنار في الزناد إن قدحته أورى، وإن تركته توارى فهو ألطف من أن تدركه عبارة وأدق من أن تتناوله إشارة، يستدل عليه بآثاره ويعرف وجوده بأنواره.
وكلامهم في هذا الباب كثير جدًا، والظاهر أن كل محب أخبر بحسب ما أدرك من حاله ولذيذ وصاله، فكل محب عبر عن حاله وبلباله بحسب ما أمكنه وإلا فالحب إنما يدرك بمجرد الذوق؛ إذ هو لا يدرك بالحواس الخمس كما أسلفنا بل بالذوق الصحيح والله تعالى أعلم.
واعلم أن من الأسباب المستجلبة لمحبة رب الأرباب معرفة نعمه الوافرة ومننه السافرة.
وقد جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها، وهذا مرويٌّ عن ابن مسعود رضي الله عنه ولذا قال بعضهم: إذا كانت القلوب جبلت على حبّ من أحسن إليها فواعجبًا لمن لا يرى محسنًا غير الله كيف لا يميل بكليته إليه.
وقال بعضهم: ذكر النعم يورث الحبّ لله عز وجل.
وقال الفضيل: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: أحبني وأحب من يحبني وحببني إلى خلقي، قال يا رب: هذا حبك وأحب من يحبك فكيف أحببك إلى عبادك؟ قال: تذكرني ولا تذكر مني إلا حسنًا (1).
وعن كعب: أوحى الله إلى موسى عليه السلام يا موسى: أتحب أن أحبك وملائكتي والجن والإنس؟ قال: نعم يا رب، قال: حببني إلى خلقي، قال: كيف أحببك إلى عبادك؟ قال: ذكرّهم آلائي ونعمائي فإنهم لا يذكرون مني إلا كل حسنة (2).
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: التفكر في نعم الله أفضل عبادة.
وكلام الإمام أحمد يدلّ على هذا وكان أكثر عمل أبي الدرداء
(1) علق الحافظ العراقي على ذلك بقوله: هذا الخبر لم أجد له أصلًا وكأنه من الإسرائيليات، انظر إحياء علوم الدين (4/ 142) استنشاق نسيم الأنس (45).
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 6/ 32.
- رضي الله عنه الاعتبار (1).
وقال رضي الله عنه: تفكر ساعة خير من قيام ليلة (2)، وقال الحسن: الفكرة مرات تريك حسناتك وسيئاتك، وأفضل العبادة التفكر والورع، ومن لم يكن كلامه حِكَمًا فهو لغو، ومن لم يكن سكوته تفكرًا فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتبارًا فهو لهو.
قال الإمام ابن الجوزي طيَّب الله ثراه: ومازال أهل العلم يعودون بالتفكر على التذكر، وبالتذكر على التفكر، ويناطقون القلوب فإذا لها أسماع وأبصار فنطقت بالحكمة وضربت الأمثال وأورثت العلم.
وقال سفيان بن عيينة: الفكرة نور تدخله القلب (3).
وكان رحمه الله تعالى ينشد:
إذا المرء كانت له فكرة
…
ففي كل شيء له عبرة
واعلم أنَّه كلما قويت معرفة العبد بالله، قويت محبته لطاعته وحصلت له لذة العبادات من الذكر وغيره على قدر ذلك.
وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخبرني أهل الكتاب أن هذه الأمة تحب الذكر كما تحب الحمامةُ
(1)"الحلية" 1/ 208.
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد" 1/ 332 (949)، وقال ابن صاعد: تفرد به ابن المبارك، غريب الإسناد صحيح.
(3)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 7/ 306.
وَكْرَهَا ولهم أسرعُ إلى ذكر الله من الإبل إلى وردها.
وقال مالك ابن دينار: ما تلذَّذَ المتّلذذون بمثل ذكر الله عز وجل (1).
وقال مسلم أبو عبد الله: ما تلذذ [المتلذذون] بشيء في صدورهم ألذّ من حب الله عز وجل، ومحبة أهل ذكره (2).
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: أعلى الدرجات أن يكون عندك ذكر الله أحلى من العسل، وأشهى من الماء العذب الصافي عند العطشان في اليوم الصائف.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "إنَّ لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله عز وجل تنادوا هلموا إلى حاجتكم فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء، قال: فسألهم ربهم وهو أعلم بهم ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، فيقول هل رأوني؟ فيقولون: لا ما رأوك؟ قال: فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا لك أشد عبادةً وأشد لك تمجيدًا وتحميدًا وأكثر لك تسبيحًا"(3) الحديث.
(1) رواه البيهقي في "الشعب" 1/ 456 (704).
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 2/ 294. في استنشاق نسيم الأنس ص 50 (المتقون).
(3)
أخرجه أحمد 2/ 251، والبخاري (6408)، ومسلم (2689)، والترمذي (3600)، وقال: حسن صحيح.
قال الحافظ ابن رجب في كتابه "استنشاق نسيم الأُنس": وإذا كان مخلوق يقول في مخلوق:
وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى
…
إلى غاية ما فوقها لي مطلب
فلما تلاقينا وعاينت حسنها
…
[علمت يقينا أنني](1) كنت ألعب
فكيف بالخالق جل ذكره الملك الحق العظيم، الذي لا يقدر حق قدره أحد، ولا يحيط خلقُه به علمًا ولا يحصون ثناءً عليه بل هو كما أثنى على نفسه ولا يبلغ الواصفون صفته.
ومن الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى معاملته بالصدق والإخلاص ومخالفة الهوى؛ فإن ذلك سبب لتفضل الله على عبده وأن يمنحه محبته.
قال فتح الموصلي: من أدام النظر بقلبه ورثه ذلك الفرح بالمحبوب، ومن أثره على هواه أورثه ذلك حبه إياه، ومن اشتاق إليه وزهد فيما سواه، ورعى حقه، وخافه بالغيب، ورثه ذلك النظر إلى وجهه الكريم (2).
ويذكر عن سُري السقطي رحمه الله: أنَّه كان له دكان فاحترق السوق الذي كان فيه الدكان ولم يحترق دكانه، فأخبر بذلك فقال: الحمد لله ثمَّ تفكر في ذلك، فرأى أنَّه سُرَّ بعطب الناس وسلامته، فتصدق بما في دكانه فشكر الله له ذلك ورقّاه إلى درجة المحبين وسُئل مرّةً عن حاله فأنشد:
(1) في استنشاق نسيم الأنس 53 "تيقنت أني إنما".
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 8/ 293.