الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعمد، والتكافؤ بين الجاني والمجني عليه، وإمكان الاستيفاء من غير حيف ولا زيادة (1).
فإن لم يؤمن الحيف انتقل إلى البدل، وهذه الوسطية في شريعتنا في مقابل الإلزام بالقصاص دون العفو في شريعة التوراة، والعفو دون قصاص في شريعة الإنجيل.
وأما في شريعتنا فالعدل في محله، والعفو في موضعه، والحمد لله.
المطلب الخامس: الاستنباط بالرد إلى مقاصد الشريعة:
سبق أن الأقرب في معنى القصد والمقصد أنه بمعنى الأَمِّ وإتيان الشيء والاعتماد (2).
وعليه: فإن مقاصد الشريعة هي المعاني التي اعتمدت عليها الشريعة وسعت إلى تحقيقها، وعمدت إلى المحافظة عليها، وسلكت في ذلك سبيلًا مستقيمًا.
وهي اصطلاحًا: المعاني والحِكَمُ الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها؛ بحيث لا تختصُّ ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة (3).
وقد يراد بالمقاصد: الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد (4).
وعلى رأس هذه المقاصد: الكليات الخمس، والمصالح الضرورية التي تعتبر أصولًا للشريعة وأهدافًا عامة لها، بل اتفقت الشرائع على حفظها وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، ويلحق بها العرض.
ويلحق بها: المصالح الحاجية، وهي التي لا بدَّ منها لقضاء الحاجات؛ كتشريع أحكام
(1) المغني، لابن قدامة، (11/ 531 - 532).
(2)
لسان العرب، لابن منظور، (11/ 179) وما بعدها، القاموس المحيط، للفيروز آبادي، (1/ 324)، المصباح المنير، للفيومي، (2/ 504)، معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (5/ 95).
(3)
مقاصد الشريعة، للطاهر ابن عاشور، (ص 51).
(4)
مقاصد الشريعة، للطاهر ابن عاشور، (ص 51)، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، للريسوني، (ص 7)، مقاصد الشريعة ومكارمها، لعلال الفاسي، (ص 7)، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف حامد العالم، (ص 79).
البيع، والنكاح، وسائر المعاملات، وتشتمل على الرخص، وكل ما فيه تيسير وتوسعة؛ لتمكين المكلَّفِ من القيام بما كُلِّفَ به دون مشقة.
ويلحق بها كذلك: المصالح التحسينية، وهي كل ما يعود إلى العادات الحسنة والأخلاق الفاضلة، والمظهر الكريم والذوق السليم، مما يجعل الأُمَّةَ أُمَّةً مرغوبًا في الانتماء إليها، والعيش في أحضانها.
فهذه المصالح العظيمة والمقاصد التي قصد الشارع إلى تحقيقها؛ كجلب المصالح، ودرء المفاسد، وحفظ النظام العام، والحرص على عمارة الأرض، ودفع الحرج عن المكلفين، وقاعدة المشقة تجلب التيسير، وقاعدة العدل والإحسان ونحوها، لا بدَّ من إحاطة المفتي بها، والتمرس على تطبيقها والتعمق فيها، وأن يربط بين الدليل الجزئي من آية وحديث، وبين الكليات العامة والمقاصد الشرعية.
وإذا لم يراعِ المجتهد مقاصد الشريعة زلَّ؛ ولذا قال الشاطبي رحمه الله: "فزلة العالم أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشرع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه"(1).
وما الأقوال الشاذة المهجورة والتخبط في الفُتيا والاضطراب في الترجيح إلا نتاج لإهمال مراعاة مقاصد الشريعة، والتجافي عن هذا الأصل الأصيل والركن الركين من أركان الفُتيا، ذلكم أن الاجتهاد لن ينضج، ولن يقوم إلا بمراعاة المقاصد فتتسع المدارك ويستوعب الناظر نوازل الحياة بكل تقلباتها وتشعباتها.
قال الشاطبي رحمه الله: "ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها
(1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 170).
وجزئياتها المرتبة عليها. . . فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضًا، كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة مثمرة، وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليلٍ ما أيًّا كان عفوًا وأخذًا أوليًّا، وإن كان ثَمَّ ما يعارضه من كلي أو جزئي، فكأن العضو الواحد لا يعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكمًا حقيقيًّا" (1).
وقال كذلك: "حتى لتجد أحدهم آخذًا ببعض جزئياتها في هدم كلياتها حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه من غير إحاطة بمعانيها، ولا رسوخ في فهم مقاصدها، ولا راجعًا رجوع الافتقار إليها، ولا مسلِّمًا لما روي عنهم في فهمها ولا راجعًا إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في أمرها، ويعين على هذا الجهل بمقاصد الشريعة، وتوهم بلوغ درجة الاجتهاد باستعجال نتيجة الطلب، فإن العاقل قلما يخاطر بنفسه في اقتحام المهالك مع العلم بأنه محظور"(2).
إن على المفتي والمجتهد أن يربط الدليل الجزئي بالمقاصد الكلية العامة، فإن قصر في أحدهما حصل له من النقص والخطأ بقدر ما قصر فيه، وعليه: فإن المجتهد محتاج غاية الحاجة إلى المقاصد عند استنباط الأحكام، وفهم النصوص، والتعرف على أسرار التشريع؛ لإلحاق النوازل والمستجدات بما يشبهها من وقائع سابقة، وأقوال للأئمة المتقدمين، وكذلك فإن مقاصد الشريعة تعدُّ من وسائل الترجيح بين الأقوال والأدلة التي ظاهرها التعارض، وذاك -لعمر الله- باب من العلم لا يحسنه إلا من وفقه الله، وألهمه رشده.
وكذلك إن دعته الحاجة إلى استعمال القياس أو الاستصلاح أو الاستحسان أو العرف فإنه لا يستغني عن مقاصد الشريعة.
(1) الاعتصام، للشاطبي، (1/ 244 - 245).
(2)
الموافقات، للشاطبي، (4/ 174 - 175) باختصار، الاعتصام، للشاطبي، (2/ 173) بتصرف.
فإذا كان العلم القطعي حاصلًا بأن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها؛ كان لزامًا على المجتهد والمفتي في النوازل مراعاة هذا الأصل العظيم والمقصد الرئيس من مقاصد الشريعة، فيستحيل أن تأمر الشريعة بما فيه مفسدة، أو تنهى عما تحققت مصلحته، قال البيضاوي رحمه الله:"إن الاستقراء دلَّ على أن الله سبحانه شرع أحكامه لمصالح العباد"(1).
وقال ابن القيم رحمه الله: "القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مملوءان من تعليل الأحكام والمصالح وتعليل الخلق بها، والتنبيه على وجوه الحِكم التي لأجلها شرع الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان، ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة"(2).
ولا ريب أن مراعاة المصالح سمة ملازمة لكل أحكام الشرع، فما من حُكم إلا وقد قرر لرعاية مصلحة، أو درء مفسدة، وإخلاء العالم من الشرور والآثام، مما يدلُّ على أن الشريعة الغراء تستهدف تحقيق مقصد عام، هو إسعاد الفرد والجماعة، وحفظ نظام المجتمع، وتعمير الدنيا وإصلاحها بما يوصل البشرية إلى أرقى درجات الكمال البشري.
وإذا كانت مقاصد الشريعة بهذا الشمول والهيمنة على أحكام الشريعة والملازمة لها- كانت معرفتها أمرًا ضروريًّا لمن يتصدر للفُتيا والاجتهاد.
وقد اعتنى غير واحد من المحققين بمقاصد الشريعة، وأكثرَ من الحديث حولها وتقريرها، إما في تصنيف مستقلٍّ، أو ضمن كتب وأبحاث وفتاوي، وممن أكثر من الكلام عليه والإشارة إليه إمام الحرمين أبو المعالي الجويني رحمه الله (3) والإمام الغزالي رحمه الله (4)
(1) نهاية السول شرح منهاج الأصول، للإسنوي، (4/ 91).
(2)
مفتاح دار السعادة، لابن القيم، (2/ 363).
(3)
البرهان، للجويني، (2/ 810 - 811، 911، 923).
(4)
المستصفى، للغزالي، (ص 173 - 180)، شفاء الغليل، للغزالي، (ص 161) وما بعدها.
والعز ابن عبد السلام في كتابه الفذ "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" وكذلك كتابه "مختصر الفوائد في أحكام المقاصد" ولعله أول من بسط الكلام فيه.
وتلاه تلميذه القرافي (1)، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فهو ممن امتلأت كتبه بمباحث هذا العلم (2) وقد ألف الدكتور يوسف أحمد محمد البدري كتابًا مفيدًا بعنوان:"مقاصد الشريعة عند ابن تيمية" وهو من الأهمية بمكان لما لشيخ الإسلام رحمه الله من قدم راسخة في العلم وبروز واضح في هذا الباب.
وكذلك تلميذه العلامة ابن القيم (3) رحمه الله لا سيما في كتابه العظيم "إعلام الموقعين عن رب العالمين" في هذا الباب.
وأما أول من أبرز قواعده وأظهره كَفَنٍّ مستقلٍّ وأصلَّه وقرره، فهو العلامة الشاطبي رحمه الله في "الموافقات" فهو -بحقٍّ- مؤسس هذا العلم، وكتابه مرجع الباحثين ومهيع المفتين المجتهدين (4).
ثم تتابع الناس في التأليف في هذا الباب، والاهتمام به وتقريره وتوسيع مباحثه.
ولذا يقول العلامة الشاطبي رحمه الله-مبينًا اشتراط فهم مقاصد الشريعة للمجتهد-: "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:
أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها.
(1) الفروق، للقرافي، (2/ 450)(2/ 569 - 570)، شرح تنقيح الفصول، للقرافي، (ص 303 - 306).
(2)
مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (11/ 354)، (20/ 583)، (32/ 234) وغيرها، القواعد النورانية، لابن تيمية، (ص 91، 21، 117، 134 - 135) وغيرها.
(3)
مفتاح دار السعادة، لابن القيم، (2/ 362) وما بعدها، إعلام الموقعين، لابن القيم، في مواضع كثيرة جدًّا.
(4)
نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، للريسوني، (ص 93)، الشاطبي ومقاصد الشريعة، للعبيدي، دار قتيبة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط 1، 1412 هـ - 1992 م، (ص 131 - 138).