الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكون اجتهادًا أخطأ فيه صاحبه، فلا يحتج به على أنه من طريق السلف.
ثالثًا: التحرر من الخوف وضغط الواقع الفاسد:
إن مهمة الشرائع هي تصحيح الواقع الفاسد الذي يحياه الناس، ووضع المنهج الصحيح الذي يحكم الحياة والأحياء، ولا ينبغي أن تنقلب الصورة فيصبح الواقع الفاسد هو الحاكم على الشرع، وتصبح النصوص والأحكام الشرعية أداةً لتبرير الواقع الذي يعيشه الناس.
والمجتهد لا بدَّ أن يتحرر من عقدة الخوف من ضغط الواقع الذي تردَّى الناس إليه، ويحاول أن يرتقي بهم إلى أفق الشرع الرحب السمح الذي يتناسب مع الفطرة السوية، ولا يصادم مصالح العباد ومنافعهم، كما لا ينبغي أن تكون اجتهاداته وفتاويه تبريرًا لهذا الواقع المنحرف، وتسويغًا لأباطيله، بأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان، ولا قام عليها من برهان.
وقد يكون هذا التبرير ممن باعوا دينهم بدنياهم أو بدنيا غيرهم، أو قد يكون من مخلصين غيورين على دينهم، ولكن الواقع يضغط عليهم بقوة من حيث يشعرون، أو لا يشعرون، فهم يركبون الصعب والذلول لتطويع النصوص للواقع، على حين يجب أن يطوع الواقع للنصوص؛ لأن النصوص هي الميزان المعصوم الذي يُحتكم إليه ويُعَوَّلُ عليه.
والواقع يتغير من حسن إلى سيئ، ومن سيئ إلى أسوأ أو بالعكس، فلا ثبات له ولا عصمة؛ ولهذا يجب أن يرد المتغير إلى الثابت، ويرد غير المعصوم إلى المعصوم، ويرد الموزون إلى الميزان (1).
قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
(1) الفتوى بين الانضباط والتسيب، للقرضاوي، (ص 82 - 84).
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
وضغط الواقع ونفرة الناس عن الدين لا يُسوِّغ التضحية بالثوابت والمسلمات، أو التنازل عن الأصول والقطعيات، مهما بلغت مجتمعات الأقليات من تغير وتطور، فإن نصوص الشرع جاءت صالحة للناس في كل زمان ومكان.
ولعل عقدة النقص تجاه الغرب وحضارته وفكره، والتقليد أو التبعية، فإن شئت قلت: العبودية لهذا التغريب المتعمد للمجتمع على أيدي نفر يعتبرون الغرب إمامًا يجب أن يُتَّبع، ومثالًا يجب أن يُحتذَى، وما كان من أفكارنا وقيمنا وتقاليدنا ونظمنا مخالفًا للغرب، اعتبروه عيبًا في حضارتنا ونقصًا في شريعتنا، ثم تبدأ المحاولات لتبرير هذا الوضع وإضفاء الشرعية عليه، واصطياد الشبهات، وتحريف الأدلة عن مواضعها؛ كل هذا هو أكبر دليل على الهزيمة النفسية والمروق من الدين شيئًا فشيئًا عندما يُفتح الباب للتنازل عن الحق من أجل إرضاء الباطل، أو الالتقاء معه في منتصف الطريق.
ومما يلجأ إليه بعض المجتهدين والمفتين -تحت ضغط الواقع الفاسد- هو اللجوء إلى الحيل الباطلة لإضفاء الشرعية على المخالفات الصريحة الواضحة، وقد عقد ابن القيم أبوابًا كثيرة في كتابه "إعلام الموقعين" للرد على هذه الحيل الباطلة وتفنيدها ودحض شبهات مدعيها فأحسن وأجاد، ومما قاله:"فتعالى شارع هذه الشريعة الفائقة لكل شريعة أن يشرع فيها الحيل التي تُسقط فرائضه، وتُحِلُّ محارمه، وتُبطل حقوق عباده، ويفتح للناس أبواب الاحتيال وأنواع المكر والخداع، وأن يبيح التوصل بالأسباب المشروعة إلى الأمور المحرمة الممنوعة، وأن يجعلها مضغة لأفواه المحتالين، عرضة لأغراض المخادعين، الذين يقولون ما لا يفعلون، ويظهرون خلاف ما يبطنون"(1).
(1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 206).
وقال تحت باب "تجويز الحيل يناقض سدَّ الذرائع": "وتجويز الحيل يناقض سدَّ الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع يسدُّ الطريق إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليه بحيله، فأين من يمنع من الجائز خشيةَ الوقوع في المحرم، إلى من يعمل الحيلة في التوصل إليه؟ "(1).
ولا يخفى أن هذا اللون من الاجتهاد لتبرير الواقع تحت دعوى التيسير ورفع الحرج له آثار سيئة على الدين وعلى الأمة، ومما لا خلاف عليه أن من مقاصد الشريعة الغراء: رفعَ الحرج وجلبَ النفع ودرءَ المشقة والضرر عن المسلم في الدارين، ولكن دون تسيب في الترخص، أو ردِّ بعض النصوص، وتأويلها بما لا يحتمل وجهًا في اللغة، أو في الشرع.
ودعاة التغريب يجدون متكئًا قويًّا، وركنًا متينًا يلجئون إليه عندما يجدون من يبرر لهم دعاواهم باسم الاجتهاد لإضفاء الشرعية على فساد القيم وفساد التصور، فهم يريدون إسلامًا غربيًّا يناسب أهواءهم ويلتقي مع مصالحهم، فتارة يقولون: لا نأخذ بأقوال الأئمة والفقهاء، ولا الشراح والمفسرين، فإنها آراء بشر، ولا نأخذ إلا من الوحي المعصوم.
فإن وافقتَهم على ذلك -افتراضًا- قالوا: إنا نأخذ ببعض الوحي دون بعضه. . . نأخذ بالقرآن، ولا نأخذ بالسنة، فإن فيها الضعيفَ والموضوعَ والمردودَ، أو نأخذ بالسنة المتواترة، ولا نأخذ بسنن الآحاد، أو نأخذ بالسنة العملية، ولا نأخذ بالسنة القولية!!
فإن سلم لهم ذلك، قالوا: القرآن نفسه إنما كان يعالج أوضاع البيئة العربية المحدودة، وشؤون المجتمع البدوي الصغير، فلا بدَّ أن نأخذ ما يليق بتطورنا، وندع منه ما ليس كذلك!!
فإذا قال القرآن: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] وإذا سَمَّى
(1) المرجع السابق، (3/ 159).