الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المصلحة بقي الحكم الذي يترتب عليها، وإذا تغيرت المصلحة اقتضى هذا التغير حكمًا جديدًا مناسبًا للمصلحة الجديدة" (1)، وهذا التوقف أو التغير ليس من قبيل النسخ للحكم؛ لأنه لا نسخ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالحكم الأول باقٍ، ولكن لكون محله لم تتوافر فيه الأسباب الموجبة لذلك الحكم فتعذر تطبيق ذلك الحكم، فإذا ما توافرت أسبابه مرة ثانية وجب تطبيقه.
إن تغير الفُتيا بتغير المصالح أمرٌ ضروري؛ وذلك لأن "الحياة في تطور مستمر، وأساليب الناس في الوصول إلى مصالحهم تتغير في كل زمان وبيئة، وفي أثناء ذلك تتجدد مصالح العباد، فلو اقتصرنا على الأحكام المنصوصة مصالحها لتعطل كثير من مصالح العباد بجمود التشريع، وهذا ضرر كبير لا يتفق مع قصد الشارع من تحقيق المصالح ودفع المفاسد، وحينئذ لا بد من إصدار أحكام جديدة تتوافق مع المقاصد الشرعية العامة والأهداف الرئيسة، حتى يتحقق خلود الشريعة وصلاحيتها الدائمة"(2).
الأمثلة على تغير الفتيا بتغير المصلحة:
1 -
لما طلب الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُسَعِّرَ لهم لم يفعل، وقال:"إن الله هو المسعِّرُ القابض الباسط"(3)؛ وذلك لأن التسعير وقتها كان سيؤدي إلى ظلم؛ لأن غلاء السعر كان بسبب قلة العرض وزيادة الطلب، فلما كان عصر التابعين وتغيرت أحوال الناس، وصارت هناك حالات من الغلاء غير طبيعية، أجاز بعض علماء التابعين التسعير؛ دفعًا للضرر عن الجمهور (4).
(1) تغير الأحكام، لكوكسال، (ص 189).
(2)
تغير الأحكام، لكوكسال، (ص 189).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
تغير الأحكام دراسة تطبيقية لقاعدة: "لا ينكر تغير الأحكام بتغير القرائن والأزمان" في الفقه الإسلامي، لسها سليم مكداش، دار البشائر، بيروت، ط 1، 1428 هـ - 2007 م، (316 - 317)، ضوابط المصلحة، =
2 -
في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان القرآن محفوظًا في صدور الرجال، ومكتوبًا في موادَّ متفرقةٍ كالجريد واللخاف والعظام والخزف وغير ذلك، فلما تغير الحال باستشهاد كثير من القراء في اليمامة أشار عمر على أبي بكر بجمع القرآن، فأمر أبو بكر زيد بن ثابت بجمع القرآن وكتابته في صحف مجموعة غير متفرقة، فلما كان عهد عثمان تغير الحال باختلاف الناس في القراءات، فأمر عثمان بجمع القرآن في مصحفٍ إمام، ونسخ منه أربع نسخ، وأرسل إلى كل أفق بنسخة، وأَمَرَ بإحراق ما عداها (1).
3 -
منع عمر الصحابة من مغادرة المدينة ليستعين بهم في إدارة الدولة؛ ليستشيرهم في الأحكام والمسائل العامة (2).
4 -
الحكم بطهارة سؤر سباع الطير كالصقر والنسر مراعاةً للضرورة؛ إذ لا يمكن الاحتراز منها بالنسبة لسكان الصحارى والأعراب (3).
5 -
لما كان عام المجاعة أسقط عمرُ حدَّ القطع عن السارق، وليس ذلك إلا لظروف طارئة صاحبت السرقة، وجعلت الحكمة من القطع غير متحققة (4).
وبناءً على ما سبق فإذا وردت النازلة فلم تصادف نصًّا، ولا إجماعًا، ولا أمكن ردُّها إلى قياس، فإن جاءت متضمنة لتحقيق منفعة اعتبر الشارع الحكيم جنسها، ولم يعتبر عينها ولا أهدرها بنصٍّ من نصوصه، وكانت بقية الشروط المعتبرة متوافرة فيها -أمكن الحمل في الحكم عليها، شريطةَ الحذر من اتباع الهوى، والحكم بالتشهي ودون توقٍّ أو تحرٍّ.
= للبوطي، (ص 161).
(1)
ضوابط المصلحة، للبوطي، (ص 308 - 309).
(2)
مناهج الاجتهاد، د. محمد سلام مدكور، (ص 54)، المصلحة المرسلة، لنور الدين الخادمي، دار ابن حزم، بيروت، ط 1، 1421 هـ، (ص 39).
(3)
أصول السرخسي، (2/ 204).
(4)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 10).