الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التي يتعذر فهمها على المستفتي، وأن تكون واضحة الدلالة غيرَ موهمة.
هذا وإن بعض المتصدرين للفتيا يعمد إلى حيلة لا تخفى؛ إذ يضمن فتواه عدة أقوال ليقحم فيها آراء معينة يريد أن ينشرها بين الناس، ولا يسلك جادة أهل العلم بتزييفها وبيان تهافتها، بل يترك الأقوال مطلقة مرسلة بدون ترجيح، وقد يصرح للسائل بأن له أن يختار ما شاء من الأقوال؛ إذ من ابتلي بشيء مما اختلف فيه فليقلد من أباح! أو الخلاف رحمة! ولا إنكار في مسائل الخلاف! وهذا إنما يزين باطله بهذه القواعد، ويتعمد الغموض في الفتوى، وعدم الوضوح فيها؛ ليسهل عليه التخلص من تتبع الناصحين ونقدهم، والله عند لسان كل قائل وقلبه!
ثالث عشر: تغليب التيسير على التعسير، والتبشير على التنفير:
إن التكليف في شريعة الإسلام بحسب الطاقة والوسع، وإن طاقات الناس تتفاوت، وظروفهم تختلف؛ ولهذا راعى الشرع الأعذار والضرورات، وجعل لها أحكامها الخاصة، حتى إنه ليبيح بها المحظورات، ويُسقط الواجبات (1).
وشريعتنا تتميز بالوسطية واليسر؛ ولذا ينبغي للناظر في أحكام النوازل -ولا سيما نوازل الأقليات المسلمة- من أهل الفُتيا والاجتهاد أن يكون على الوسط المعتدل بين طرفي التشدد والانحلال، كما قال الشاطبي رحمه الله: "المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم إلى مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال، والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مرَّ أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين، خرج عن قصد الشارع؛ ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذمومًا عند العلماء الراسخين، فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة
(1) الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، د. يوسف القرضاوي، دار الصحوة للنشر والتوزيع، القاهرة، ط 3، 1414 هـ - 1994 م، (ص 189).
الخلق، أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضًا؛ لأن المستفتي إذا ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين وأدَّى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة، وهو مشاهد، وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي على الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، واتباع الهوى مهلك، والأدلة كثيرة" (1).
لهذا ينبغي للمفتي أن يراعي حالة المستفتي، أو واقع النازلة، فيسير في نظره نحو الوسط المطلوب باعتدال لا إفراط فيه نحو التشدد، ولا تفريط فيه نحو التساهل وفق مقتضى الأدلة الشرعية وأصول الفُتيا.
فالعلم هو العاصم من الحكم بالجهل، والورع هو العاصم من الحكم بالهوى، والاعتدال هو العاصم من الغلو والتفريط، وهذا الاتجاه هو الذي يجب أن يسود، وهو الاتجاه الشرعي الصحيح، وهو الذي يدعو إليه أئمةُ العلم المصلحون (2).
وهذا الرأي يؤكده الإمام الشاطبي -وغيره- حيث يقول في فصل "الوسطية في الفتوى": "فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفُتيا بإطلاق مضادًّا للمشي على التوسط، كما أن الميل إلى التشديد مضادٌّ له أيضًا، وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد، فلا يجعل بينهما وسطًا، وهذا غلط، والوسط هو معظم الشريعة وأمُّ الكتاب، ومن تأمَّل موارد الأحكام بالاستقراء التامِّ عَرف ذلك، وأكثر مَن هذا شأنه من أهل الانتماء إلى العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية، بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي، بناء منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه وحرج في حقه، وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى، وليس بين التشديد والتخفيف واسطة، وهذا قلب للمعنى المقصود من الشريعة، وقد تقدَّم أن
(1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 258 - 259) باختصار.
(2)
الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، د. يوسف القرضاوي، (ص 234).