الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنكرنا عليه؛ لأنه منتهك الحرمة من جهة اعتقاده" (1).
رابعها: وجد بعد عصر نشوء المذاهب الأربعة علماء متفقهة بدأوا متمذهبين وانتهوا مجتهدين يتصرفون تصرفات المجتهد المطلق، وقد جمعت فتاويهم ودونت مسائلهم، ويمثل هذا التوجه مجموعة فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية؛ حيث يعتمد اعتمادًا واصبًا على الكتاب والسنة وأقوال السلف، يصحح ويرجح أقوالًا للصحابة والتابعين شبه مهجورة إذا ظهر له أنها أسعد بالدليل والقواعد، "وتكاد فتاوي ابن تيمية تكون المجموعة الفريدة -بعد عصر المجتهدين- التي ارتفعت عن التقليد، وسمت عن مجرد النقل عن الأئمة إلى مرتبة الاستنباط والتصرف في الأدلة؛ تفصيلًا لمجمل، وتأويلًا لمشكل، وترجيحًا عند تعارض.
مع العلم أن فتاوي ابن تيمية تمثل خلاصة فقهه الذي يتفق غالبًا مع المشهور من مذهب أحمد، إلا أنها أيضًا تمثل اجتهاداته واختياراته التي قد يرجح منها الرواية المرجوحة، وفي أحيان أخرى قد يعتمد فيها بعض آراء أئمة المذاهب الأخرى، وبخاصة المذهب المالكي، إلا أنه قد يخالف الأئمة الأربعة، ويعتمد أقوال الصحابة أو التابعين، ويتصرف تصرف المجتهد المطلق، مع اختيارات يصعب تقليدها أحيانًا" (2).
وفيما يأتي ضوابط نافعة في الإفادة من المذاهب الفقهية الأربعة في معرفة أحكام النوازل الواقعة، ولا سيما نوازل الأقليات المسلمة:
أولًا: التزام المذهب الواحد غير لازم:
الناظر في مسائل النوازل -ولا سيما نوازل الأقليات- لا بد له من أهلية علمية
(1) الفروق للقرافي، (4/ 37).
(2)
صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 145 - 146).
متميزة؛ نظرًا لجِدَّة تلك المسائل، ووعورة مسالك تحصيل أحكامها، مع تلاطم في متغيرات الواقع الذي يحيط بها، وعليه فلا بد أن يكون من أهل العلم بالفقه المعتبرين، وهذا لا يتأتى إلا بعد درس للفقه طويل، وخبرة ببعض مذاهب الأئمة فيه، ومع شيوع دعوى تعذر وجود المجتهد المستقل في هذا الزمان؛ فإن هذا لا يمنع من وجود مجتهد في مذهب إمام من الأئمة، أو نوع من أنواع الفقه والعلم، أو في مسألة أو مسائل من العلم، وهذا يستتبع أن يوسع الباحث في نوازل الأقليات المعاصرة دائرة بحثه؛ فيطلع على مذاهب الأئمة الأربعة، وأقوالهم وفتاويهم، وسواء أكان مقلدًا في مذهبه الفقهي، أم مجتهدًا.
يقول القرافي: "يجوز تقليد المذاهب في النوازل"(1).
وقال النووي: "الذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزم المقلد التمذهب بمذهب، بل يستفتي من شاء، أو من اتفق"(2).
وقال ابن حجر: "وظاهره جواز الانتقال من مذهب لآخر، وأفتى شيخ الإسلام عز الدين ابن عبد السلام بجواز تقليد إمام مذهب في مسألة، وآخر في أخرى، وهكذا من غير التزام مذهب معين"(3).
وقال ابن السبكي: "يجوز تقليد الصحابة رضي الله عنهم (أي: خلافًا للمعتمد في المذهب) وهو الصحيح عندي"(4).
وبناءً على هذا فإنه مما يُعِين على الوصول إلى الحق ومعرفة وجه الصواب في النوازل المعاصرة تتبع مطاوي الكتب وخبايا الأسفار، وأقوال علماء المذاهب في شتى
(1) شرح تنقيح الفصول، للقرافي، (ص 339).
(2)
روضة الطالبين، للنووي، (11/ 117).
(3)
الفتاوي الفقهية الكبرى، لابن حجر الهيتمي، دار الفكر، (4/ 305).
(4)
الفتاوي الفقهية، لابن حجر الهيتمي، (4/ 307).
الأمصار، وبمقدار علو الهمة في تحصيلها تتنور الأفكار.
ويؤكد الشيخ الزرقا على اعتبار مجموعة المذاهب الاجتهادية كمذهب واحد كبير في الشريعة، وكل مذهب منها يعتبر كالقول في المذهب الواحد؛ فيختار العلماء من هذه المذاهب، ويرجحون ما هو أوفى بمصالح الناس وحاجتهم في هذا العصر (1).
"وهنا يلزم الفقيه أو المفتي أو الباحث الشرعي أن يسبح سبحًا طويلًا في آفاق الفقه بمختلف مدارسه ومشاربه، ولا يقف عند الرأي السائد والشائع؛ فكم من آراء رشيدة مخبوءة في بطون الكتب لا يعلمها إلا القليلون، أو لعلها لا تُعْلَمُ إلا بالبحث والتفتيش، وكم من آراء مهجورة تستحق أن تُشهَرَ، وآراء ضعفت في زمنها يجدر بها أن تقوى الآن، وكم من آراء أهيل عليها التراب؛ لأنها لم تجد من ينصرها ويدافع عنها، أو لأنها كانت سابقة لزمنها فلعلها لم تكن صالحة لذلك الزمن، وهي صالحة لزمننا هذا.
ولعل أبرز مثال لذلك: آراء شيخ الإسلام ابن تيمية في الطلاق ونحوه؛ فقد رفضها أكثر أهل عصره، واتهموه من أجلها بتهم شتى، وحاكمه علماء وقته، ودخل السجن أكثر من مرة من أجل آرائه وفتاويه، ثم فاء في الأعصر الأخيرة طوائف من أهل العلم إلى فتاويه فأفتوا بها؛ لأنهم رأوا فيها إنقاذ الأسرة المسلمة من الانهيار بسبب كثرة إيقاع الطلاق، مع حرص الزوجين على بقاء العشرة.
ولو أردت أن أضرب مثلًا لذلك في موضوعنا، لوجدت أمثلة شتى.
ومن ذلك: ما يتعرض له كثير من الذين يهديهم الله للإسلام؛ فيدخلون في دين الله من الرجال والنساء ثم يتوفى آباؤهم أو أمهاتهم، وقد تركوا وراءهم تركات كثيرًا ما تكون كبيرة، فهل يسع المسلم والمسلمة أن يرث هذا المال من أبيه وأمه؟ والقوانين تجعل له الحق في الميراث وهو وأسرته في حاجة إليه، وإخوانه من المسلمين من حوله في حاجة إليه؟
(1) المدخل الفقهي، للزرقا، (1/ 262).
إن الذي يكتفي بالمذاهب الأربعة المشهورة عند أهل السنة؛ بل الذي يقرأ المذاهب السبعة أو الثمانية (بزيادة مذهب الجعفرية والزيدية والإباضية والظاهرية) يجد أن اختلاف الدين مانع من موانع الميراث المشهورة، وهم يستندون في ذلك إلى الحديث المشهور:"لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم"(1). والحديث الآخر: "لا يتوارث أهل ملتين شتى"(2).
ولكن من يبحث خارج المذاهب الأربعة يجد قولًا معتبرًا بجواز توريث المسلم من الكافر، وهو رأي قال به بعض الصحابة والتابعين؛ فقد روي عن معاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان من الصحابة، كما روي عن محمد ابن الحنفية (3)، ومحمد بن علي ابن الحسن (4)، وسعيد بن المسيب، ومسروق بن الأجدع، وعبد الله بن مغفل، ويحيى ابن يعمر (5)، وإسحاق بن راهويه.
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الفرائض، باب: لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم و. . .، (6764)، ومسلم، كتاب الفرائض، (1614)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه: أبو داود، كتاب الفرائض، باب: هل يرث المسلم الكافر؟ (2911)، وابن ماجه، كتاب الفرائض، باب: ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك، (2731)، من حديث عبد الله بن عمرو. ورُوي من حديث: جابر بن عبد الله، وأسامة بن زيد، وأبي هريرة، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم. وصححه الشيخ الألباني في "صحيح سنن أبي داود"، (2911).
(3)
الإمام أبو القاسم وأبو عبد الله، محمد بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي المدني، أخو الحسن والحسين، رأى عمر وروى عنه وعن أبيه، وعن أبي هريرة، وعثمان، وروى عنه أبو جعفر الباقر، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وعمرو بن دينار، وغيرهم، ولد لثلاث بقين من خلافة عمر، وتوفي سنة 81 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (8/ 26)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (4/ 110).
(4)
أبو عبد الله، محمد بن علي بن الحسن بن عبد الرحمن، العلوي الكوفي، الإمام المحدث الثقة العالم الفقيه، مسند الكوفة ولد سنة 367 هـ، وتوفي سنة 445 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (17/ 636)، وشذرات الذهب، لابن العماد، (5/ 198).
(5)
أبو سليمان، يحيى بن يعمر، الفقيه العلامة المقرئ العدواني البصري قاضي مرو ويكنى أبا عدي، وكان من أهل البصرة، وكان نحويًّا صاحب علم بالعربية والقرآن، توفي عام 129 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (7/ 368)، وسير أعلام النبلاء، (4/ 441).
وقد رجح هذا الرأيَ شيخُ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقق ابن القيم رحمهما الله، وهو ترجيح له وزنه وقيمته في عصرنا (1).
وأول أصحاب هذا القول "الكافر" في حديث: "لا يرث المسلم الكافر". أن المراد الكافر الحربي، مثل: حمل طائفة من العلماء حديث: "لا يقتل المسلم بكافر"(2). على الكافر الحربي. قال ابن القيم: "وحمله على الحربي هنا أولى وأقرب محملًا"(3)(4).
فإن قيل: إن العمل في مسألة ما باجتهاد إمام وفي أخرى باجتهاد أمام آخر يعتبر تلفيقًا وهو ممنوع -فالجواب:
اتفق العلماء على أن التلفيق إذا أبطل إجماعًا فإنه لا يجوز، ثم اختلفوا فيما لو عمل في مسألة باجتهاد إمام وفي أخرى باجتهاد آخر، ورجح الجوازَ جمهورُ الفقهاء الذين لا يلزمون المقلِّد باتباع مذهب واحد في كل مسألة.
وجرى الخلاف بينهم في التلفيق بين قولين لمجتهدين مختلفين في مسألة واحدة، وذلك على ثلاثة مذاهب أساسية:
الأول: الجواز مطلقًا.
الثاني: المنع مطلقًا.
الثالث: الجواز بشروط.
وفيما يلي أدلة كل فريق:
(1) المستدرك على مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (4/ 129)، أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 853) وما بعدها.
(2)
أخرجه: البخاري، كتاب العلم، باب: كتابة العلم، (111)، من حديث أبي جُحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: "العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر".
(3)
أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 855).
(4)
في فقه الأقليات، د. يوسف القرضاوي، (ص 57 - 58).
القائلون بالجواز مطلقًا:
استدل القائلون بالجواز بأدلة، منها: أن الأصل جوازه ما لم يثبت منعه بدليل شرعي من كتاب، أو سنة، أو إجماع، ولم يوجد، كما أن الحال في عهد أوائل الأمة كان على ذلك، حيث عمل العامة بالتلفيق من لدن الصحابة فمن بعدهم، وذلك من غير نكير، وقد ذهب إلى جوازه طائفة من علماء المذاهب أنفسهم، يقول الشيخ مرعي الحنبلي (1) في رسالة في جواز التلفيق للعوام:". . . والذي أذهب إليه وأختاره القول بجواز التقليد في التلفيق، لا بقصد تتبع ذلك؛ لأن من تتبع الرخص فسق، بل حيث وقع ذلك اتفاقًا، خصوصًا من العوام الذين لا يسعهم غير ذلك. . . ولا يسع الناس غير هذا، ويؤيده أنه في عصر الصحابة والتابعي رضي الله عنهم ومع كثرة مذاهبهم وتباينهم -لم ينقل عن أحد منهم أنه قال لمن استفتاه: الواجب عليك أن تراعي أحكام مذهب من قلدته؛ لئلَّا تلفق في عبارتك بين مذهبين فأكثر، بل كل من سئل منهم عن مسألة أفتى السائل بما يراه، مجيزًا له العمل من غير فحص ولا تفصيل، ولو كان ذلك لازمًا لما أهملوه، خصوصًا مع كثرة تباين أقوالهم"(2).
وقال الدسوقي المالكي في حواشيه على (شرح خليل) في بحث الفتوى من خطبة الكتاب: وفي كتاب الشبراخيتي (امتناع التلفيق) والذي سمعناه من شيخنا نقلًا عن شيخه الصغير وغيره أن الصحيح جوازه وهو فسحة.
قال الدسوقي: وبالجملة ففي التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين طريقتان:
المنع: وهو طريقة المصاروة.
(1) مرعي بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد الكرمي المقدسي الحنبلي، مؤرخ أديب ومن كبار الفقهاء الحنابلة من مصنفاته: غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى، وتوقيف الفريقين على خلود أهل الدارين، وتنوير بصائر المقلدين في مناقب الأئمة المجتهدين. توفي سنة 1033 هـ. الأعلام، للزركلي، (7/ 203)، ومعجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (12/ 218).
(2)
تجريد زوائد الغاية والشرح، لحسن الشطي، مطبوع مع مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، لمصطفى السيوطي الرحيباني، المكتب الإسلامي، دمشق، 1961 م، (1/ 699 - 671).