الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد تناظرا في مسألة فلم يتفقا، فلما التقيا أخذ الشافعي بيده، وقال:"يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة؟ "(1).
وعليه فلو أن مفتيًا فردًا أو مجمعًا فقهيًّا أفتى فتيا في شأن نوازل الأقليات وكانت خطأ لسبب أو لآخر -فإن هذا لا يُعَدُّ بذاته سببًا كافيًا للقدح في دين أحد أو تجريحه، فضلًا عن أن القطع في مثل هذه الفتاوي بالخطأ أمر ليس باليسير؛ وذلك لما يحتفُّ بواقع تلك المسائل، وحال أهلها من أمور تلتبس وتخفى على كثيرين؛ مما قد يتطرق معه الخطأ في الفتيا من جهة تصويرها أو تكييفها أو تطبيق الأدلة عليها.
فلا غنى عن الانضباط بأدب الخلاف، والورع عن الوقوع في أعراض العلماء، مع بيان الحق بدليله من غير إقذاع في عبارة، أو غمز في إشارة.
المطلب الثالث: الطريقة العامة لاستنباط حكم النازلة:
إن استباط حكم النوازل ولا سيما في بلاد الأقليات من أدقِّ مسالك الفقه وأصعبها؛ لأن الوقائع التي تحدث للأفراد والمجتمعات لا تتناهى صورها، ولا تقف أنماطها عند حد معين، وتزداد صعوبة هذا الفقه مع تعاقب الأجيال، وتطور الأعصار وسرعة التغير في معطيات الحضارة والتداخل الشديد بين الشعوب والمجتمعات، وعولمة الأعراف والعادات مما جعل الناظر في النوازل يَطرق أبوابًا لم تُطرق من قبل، ولا تُفتحُ هذه الأبواب -غالبًا- إلا بجهد مضاعف ودراسة وافية عميقة متكاملة.
وأكثرُ ما يحدث في ساحة الإفتاء المعاصرة من غلط وخلط إنما هو في الغالب من خطأ التصور للنازلة، أو التقصير في معرفة التكييف الصحيح لها، ومعلوم أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره،
= الشافعية، لابن السبكي، (2/ 171).
(1)
ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء، (10/ 16).
فإذا فسد التصور فبدهي أن يفسد الحكم؛ ولهذا قال الحجوي رحمه الله: "أكثر أغلاط الفتاوي من التصور"(1).
ومهما كان علم المفتي بالنصوص ومعرفته بالأدلة فإن هذا لا ينتج الحكم الصحيح ما لم يؤيد بمعرفة الواقع وفهمه على حقيقته وحسن تصوره.
وعليه فإن الناظر في نازلة من النوازل عليه أن يسلك المنهج الآتي بخطواته الثلاثة:
أولًا: التصور، ثانيًا: التكييف، ثالثًا: التطبيق (2).
قال الشيخ السعدي رحمه الله: "جميع المسائل التي تحدث في كل وقت سواء حدثت أجناسها أو أفرادها يجب أن تُتَصور قبل كل شيء، فإذا عُرفت حقيقتها وشُخصت صفاتها، وتصورها الإنسان تصورًا تامًّا بذاتها ومقدماتها ونتائجها طُبقت على نصوص الشرع وأصوله الكلية؛ فإن الشرع يحلُّ جميع المشكلات: مشكلات الجماعات والأفراد، ويحل المسائل الكلية والجزئية، يحلها حلًّا مرضيًا للعقول الصحيحة، والفطر السليمة.
ويشترط أن ينظر فيه البصير من جميع نواحيه وجوانبه الواقعية والشرعية" (3).
فهذه ثلاثة مدارك لا بدَّ لها من هذا الترتيب، فإن وقع خلل في أحدها نتج عنه ولا بدَّ خلل في الذي يليه، وصدق إياس بن معاوية (4) رحمه الله لما قال لربيعة بن أبي عبد الرحمن
(1) الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، لمحمد بن الحسن الحجوي الثعالبي، تحقيق: د. عبد العزيز القاري، المكتبة العلمية، المدينة المنورة، 1396 هـ، (4/ 571).
(2)
فقه النوازل، د. محمد حسين الجيزاني، (1/ 38).
(3)
الفتاوي السعدية، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مركز صالح ابن صالح الثقافي، عنيزة، ط 1، 1411 هـ، (7/ 137).
(4)
أبو واثلة، إياس بن معاوية بن قرة المزني، قاضي البصرة العلامة، روى عن سعيد بن المسيب، وأبيه، وأبي مجلز، ونافع، روى عنه ابن عجلان، وشعبة، وحماد بن سلمة، توفي سنة 121 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (2/ 282)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (5/ 155).