الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف" (1).
خامسًا: درء التعارض بين صحيح النقل وصريح العقل:
مما ينبغي اعتقاده أن نصوص الكتاب والسنة الصحيحة والصريحة في دلالتها، لا يعارضها شيء من المعقولات الصريحة؛ ذلك أن العقل شاهد بصحة الشريعة إجمالًا وتفصيلًا.
فأمَّا الإجمال، فمن جهة شهادة العقل بصحة النبوة، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فيلزم من ذلك تصديقه في كل ما يخبر به من الكتاب والحكمة.
وأما التفصيل، فمسائل الشريعة ليس فيها ما يَرُدُّهُ العقل؛ بل كل ما أدركه العقل من مسائلها فهو يشهد له بالصحة تصديقًا وتعضيدًا، وما قصر العقل عن إدراكه من مسائلها، فهذا لعظم الشريعة، وتفوقها، ومع ذلك فليس في العقل ما يمنع وقوع تلك المسائل التي عجز العقل عن إدراكها، فالشريعة قد تأتي بما يحير العقول لا بما تحيله العقول.
فإن وُجِدَ ما يوهم التعارض بين العقل والنقل، فإما أن يكون النقل غير صحيح، أو يكون صحيحًا ليس فيه دلالة صحيحة على المدَّعَى، وإما أن يكون العقل فاسدًا بفساد مقدماته.
"والمقصود هو بيان أنه إذا ظهر تعارض بين الدليلين النقلي والعقلي، فلا بدَّ من أحد ثلاثة احتمالات:
الأول: أن يكون أحد الدليلين قطعيًّا، والآخر ظنيًّا، فيجب تقديم القطعي نقليًّا كان، أو عقليًّا، وإن كانا ظنِّيين فالواجب تقديم الراجح، عقليًّا كان، أو نقليًّا.
الثاني: أن يكون أحد الدليلين فاسدًا، فالواجب تقديم الدليل الصحيح على الفاسد سواء أكان نقليًّا، أم عقليًّا.
الثالث: أن يكون أحد الدليلين صريحًا والآخر ليس بذاك، فهنا يجب تقديم الدلالة
(1) فتح الباري، لابن حجر، (13/ 253).
الصريحة على الدلالة الخفية، لكن قد يخفى من وجوه الدلالات عند بعض الناس ما قد يكون بينًا وواضحًا عند البعض الآخر، فلا تعارض في نفس الأمر عندئذٍ.
أما أن يكون الدليلان قطعيين -سندًا ومتنًا- ثم يتعارضان، فهذا لا يكون أبدًا، لا بين نقليين، ولا بين عقليين، ولا بين نقليٍّ وعقليٍّ" (1).
وخلاصة اعتقاد أهل السنة في هذا الباب: "أن الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل، وأن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول، وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه، وما يدخل في العقل وليس منه"(2).
وقد أعمل الصحابة رضي الله عنهم هذا الأصل، وتلقاه عنهم التابعون، وتواترت عبارات أهل العلم بهذا المعنى.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "كل شيء خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط، ولا يقوم معه رأي ولا قياس، فإن الله تعالى قطع العذر بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد معه أَمْرٌ ولا نهي غير ما أمر هو به"(3).
وعليه فإذا كان التعارض بين نصين فعلى المستنبط العناية بالآتي مراعيًا الترتيب:
1 -
الجمع والتوفيق بين المتعارضين بوجه مقبول.
لأنه إذا أمكن ذلك، ولو من بعض الوجوه، كان العمل بهما متعينًا، ولا يجوز الترجيح بينهما؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما بالكلية.
2 -
الترجيح بين الدليلين بأحد المرجحات.
(1) منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة، لعثمان بن علي حسن، مكتبة الرشد، الرياض، ط 5، 1427 هـ - 2006 م، (1/ 366).
(2)
درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، (2/ 364).
(3)
الأم، للشافعي، (2/ 595).
3 -
النسخ لأحد الدليلين.
4 -
تساقط الدليلين إذا تعذرت الوجوه السابقة فيترك العمل بهما معًا، ويعمل بغيرهما من الأدلة، كأن الواقعة حينئذٍ لا نصَّ فيها، وهذه صورة فرضية لا وجود لها (1).
والمستنبط للأحكام الفقهية في النوازل المعاصرة قد يقع له إشكال من تعارض الأدلة، فلا بدَّ أن يتعرف على الطريق الذي يسلكه في التعامل مع هذا الإشكال بأيسر طريق.
ونحصر النقاط التي يتبعها المستنبط في ذلك فيما يأتي:
التأكد من حصول التعارض بين الدليلين، ويكون ذلك بالتحقق مما يلي:
1 -
تساوي الدليلين في القطعية والظنية من جهتي الثبوت والدلالة؛ فلا تعارض بين قطعي وظني، ولا بين نص وقياس.
2 -
تساوي الدليلين في قوة الدلالة، بأن تكون دلالتهما من نوع واحد، كدلالة العبارة، أو الإشارة، أو المنطوق، أو المفهوم؛ فإن تفاوت أحدهما على الآخر في القوة فلا تعارض.
3 -
اتحاد محل الحكم وزمانه، فإن اختلف المحل أو الزمن فلا تعارض (2).
فإذا توافرت هذه الأمور أعمل المنهج السابق في العمل عند التعارض، فعلى المجتهد في النوازل التزام القواعد والضوابط عند الترجيح والجمع، ولا يرجح بلا مرجح أو يجمع بدون داعي الجمع، يقول الشاطبي رحمه الله:"لا يصح إعمال أحد دليلين متعارضين جزافًا من غير نظر في ترجيحه على الآخر"(3).
(1) شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 599) وما بعدها، الموافقات، للشاطبي، (4/ 176) وما بعدها، أصول الفقه الإسلامي، للزحيلي، (2/ 1169) وما بعدها، المهذب في علم أصول الفقه المقارن، أ. د. عبد الكريم بن علي بن محمد النملة، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1420 هـ - 1999 م، (5/ 2411) وما بعدها.
(2)
شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 609 - 613)، البحر المحيط، للزركشي، (6/ 114 - 116)، إرشاد الفحول، للشوكاني، (2/ 1114 - 1115).
(3)
الموافقات، للشاطبي، (4/ 122).