الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهل سهم المؤلفة قلوبهم باقٍ بعد أن أوقف عمر رضي الله عنه العملَ به، فَيُعْطَى منه الكفار ولو في سبيل دعوتهم إلى الله إذا رُجِيَ إسلامهم؟ أم أنه قد نُسِخَ، أو وقع إجماع على زوال هذا المصرف؟
وهل يتأتَّى دفعها في تلك الديار للتأليف على الإسلام من غير وجود إمامٍ شرعيٍّ مُمَكَّنٍ، وهو الذي يُنَاطُ به -في الأصل- القيام بجمع الزكاة وتفريقها، والنظر في دفعها إلى غير المسلمين تأليفًا على الإسلام؟ وتحقيقًا لمصالح أهل ولايته.
ومن غير شك فإن هذه المسألة التي تُطْرَحُ اليوم -في سياق ما تسعى الأقليات المسلمة لتحقيقه من ترسيخ وجودها، وتقوية شوكتها، وإقامة دينها في غير بلاد المسلمين، والتي لا تدخل تحت سلطان الشريعة، وفي ظِلِّ ظروف بالغة التعقيد -لهي قضية جديرة بالبحث والدرس.
وتكييف هذه المسألة راجع إلى فقه الزكاة ومصارفها، وحكم دفعها لغير المسلمين، ومصرف المؤلفة قلوبهم على وجه الدقة، وتتعلق أيضًا بقيام أهل الحَلِّ والعقد عند الاقتضاء مقامَ الإمام، أو نائبه، وتحقيق المصلحة عند التصرف في أمر الرعية أو الأقلية.
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على عدم جواز أو إجزاء دفع الزكاة لكافر من غير المؤلفة قلوبهم (1).
قال ابن المنذر رحمه الله: "أجمع أهل العلم على أن لا يجزئ أن يُعْطَى زكاةَ المال أحدُ من أهل الذمة"(2).
وخالف في هذا الحكم ابنُ سيرين، والزهريُّ، وزفر من الحنفية فأجازوا دفعها للكافر الذمي غير الحربي (3).
(1) الإجماع، لمحمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، تحقيق: فؤاد عبد المنعم أحمد، دار المسلم، ط 1، 1425 هـ - 2004 م، (ص 47)، موسوعة الإجماع، لسعدي أبي جيب، (2/ 519)، الفتاوي الهندية، (1/ 207).
(2)
الإشراف على مذاهب العلماء، لأبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، تحقيق: د. أبي حماد صغير أحمد الأنصاري، مكتبة مكة الثقافية، الإمارات العربية المتحدة، ط 1، 1425 هـ - 2004 م، (3/ 75، 80، 99).
(3)
المجموع، للنووي، (6/ 228)، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، لفخر الدين عثمان بن علي الزيلعي، =
وعمدةُ أدلةِ الجماهيرِ حديثُ معاذ رضي الله عنه لمَّا بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال له:
". . . ادعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فَأَعْلِمْهُمْ أنَّ الله افترض عليهم خمسَ صلواتٍ في اليوم والليلة؛ فإن هم أطاعوا لذلك، فَأَعْلِمْهُمْ أن الله افترض عليهم صدقةً في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وتُرَدُّ على فقرائهم"(1).
فالمقصود بها فقراء المسلمين لا غير، ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أعطى أحدًا من أهل الذمة شيئًا من الزكاة بوصف الفقر، ولم يثبت أن أحدًا من الصحابة قد أعطى منها يهوديًّا مع كثرة اليهود بالمدينة، أو قراباتهم من أهل الشرك بالجزيرة، لا في زمن الهدنة ولا في غيرها.
وكلُّ ما عساه أن يُنْقَلَ في هذا الصدد محمولٌ على أنه من الصدقةِ المستحبةِ، لا الزكاةِ الواجبةِ، وذلك نحو قوله تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]
وقد وقع الإجماع على جواز التصدق على الكافر، وإعطائه من صدقة التطوع، وشرط بعض الفقهاء ألَّا يكون في إعطاء الحربي تقويةٌ له على قتال أهل الإسلام (2).
واتفقوا -أيضًا- على أن الأَوْلَى في صدقات التطوع أن تكون لأهل الإسلام، إلَّا أن يدعوَ إلى الصدقة على غير المسملين داعٍ معتبرٌ رجحانُهُ.
قال السرخسي رحمه الله: "لأنهم يتقوون (يعني: المسلمين) على الطاعة وعبادة الرحمن، والذمي يتقوى بها على عبادة الشيطان"(3).
= المطبعة الأميرية، القاهرة، ط 1، 1315 هـ، (1/ 300).
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب: وجوب الزكاة، (1395)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام مطوَّلًا (19) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
المبسوط، للسرخسي، (3/ 111)، المغني، لابن قدامة، (4/ 114)، المجموع، للنووي، (6/ 240)، الفتاوي الهندية، (1/ 207).
(3)
المبسوط، للسرخسي، (3/ 111).
بعد التسليم بأن سهم المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة الثمانية والمنصوص عليه بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].
اختلف العلماء في بقاء هذا المصرف من مصارف الزكاة أو عدم بقائه بعد أن أوقفه عمر رضي الله عنه وهذا هو محل الخلاف في المسألة.
فقد ادُّعِيَ الإجماعُ على سقوط هذا السهم بما قاله عمر رضي الله عنه للأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، ومنعه لهما منه، وقد فعله بمحضر من الصحابة من غير نكير عليه منهم.
وقد عُورِضَتْ دعوى الإجماع بأنه لا يسلم؛ لأنه لا يُنْسَخُ، ولا يُنْسَخُ به، ولو سلم لكان في عيينة والأقرع فحسب؛ لعدم حاجة أهل الإسلام إليهما بعد العزة والتمكين.
ولا يمتنع أن يكون بالمسلمين في ديار الأقليات حاجة تدعو إلى تألُّفِ الكفار بأموال الزكاة، وإيقاف العمل بهذا السهم ليس نسخًا للحكم، وإنما هو تخلُّفٌ له؛ لعدم وجود علته ومقتضيه.
ومما ينبغي أن يُعْلَمَ أن المؤلفة قلوبهم صنفان: مسلمون، وكافرون.
فأمَّا المسلمون فصنفانِ أيضًا: صنفٌ كانت نياتهم على الإسلام ضعيفة فتألفهم النبي صلى الله عليه وسلم تقويةً لنياتهم.
وصنف كانت نياتهم حسنة فَأُعطوا تألُّفًّا لعشائرهم من المشركين.
وأما المشركون فصنفان كذلك:
صنف يقصدون المسلمين بأذى فتألفهم دفعًا لأذاهم؛ مثل عامر بن الطفيل.
وصنف كان لهم ميل إلى الإسلام تألفهم بالعطية؛ ليؤمنوا، كصفوان بن أمية (1).
فهم "رؤساء قومهم من كافر يرجى إسلامُه، أو كفُّ شرّهِ، ومسلم يرجى لعطيته قوةُ إيمانِهِ، أو يرجى إسلامُ نظيرِهِ، أو نصحُهُ في الجهاد، أو الدفعُ عن المسلمين، أو كَفُّ
(1) زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي، (3/ 457).