الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سادسًا: التورع عن الفُتيا ما أمكن، وترك التكلف:
الفُتيا أمرها عظيم وخطرها جسيم، وقد تواتر عن الصحابة والتابعين وأئمة السلف مراعاة هذا الأمر والتأكيد عليه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"إذا أخطأ العالم أن يقول: لا أدري؛ فقد أُصيبت مقاتله"(1).
وما أكثر ما ينبغي أن تقال: "لا أدري" في مثل نوازل الأقليات اليوم.
وعن عقبة بن مسلم رحمه الله (2) قال: صحبت عبد الله بن عمر أربعة وثلاثين شهرًا، فكثيرًا ما كان يُسأل فيقول: لا أدري، ثم يلتفت إليَّ فيقول: تدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسرًا لهم إلى جهنم (3).
وقال ابن أبي ليلى رحمه الله (4): "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كان منهم محدث إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه الحديث، ولا مفتٍ إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه الفُتيا، يُسأل
(1) أخرجه: أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في "أخلاق العلماء"، تحقيق: إسماعيل بن محمد الأنصاري، نشر وتوزيع: رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، 1398 هـ - 1978 م، (ص 115) -ومن طريقه: الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقة"(1112) -، من حديث عبد الرزاق قال: كان مالك يذكر قال: كان ابن عباس يقول. . . فذكره. وأخرجه البيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى"، (813)، من حديث مالك بن أنس عن ابن عجلان قال: قال ابن عباس. . . فذكره.
(2)
أبو محمد، عقبة بن مسلم التجيبي، المصري، القاضي، إمام المسجد العتيق بمصر، روى عن عبد الله بن الحارث ابن جزء الزبيدي، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وروى عنه جعفر بن ربيعة الكندي، وحرملة بن عمران التجيبي، وحيوة بن شريح، توفي قريبًا من سنة عشرين ومئة. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (6/ 316)، وتهذيب الكمال، للمزي، (25/ 222)
(3)
أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، باب: ما يلزم العالم إذا سئل عما لا يدريه. . . (2/ 841) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
أبو عيسى، عبد الرحمن بن أبي ليلى، واسمه يسار بن بلال بن بليل بن أحيحة بن الجلاح الإمام العلامة الحافظ الأنصاري الكوفي، الفقيه، حدَّث عن عمر، وعلي، وأبي ذر، وابن مسعود، وبلال، وروى عنه عمرو بن مرة، والحكم بن عتيبة، وحصين بن عبد الرحمن، توفي سنة 82 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (6/ 109)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (4/ 263).
أحدهم عن المسألة فيردَّها إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجعَ إلى الأول" (1).
وعن ابن سيرين رحمه الله: أنه كان لا يفتي في الفروج بشيء فيه اختلاف (2).
وقال سفيان الثوري رحمه الله: "أدركت الفقهاء وهم يَكرهون أن يجيبوا في المسائل والفُتيا حتى لا يجدوا بدًّا من أن يفتوا، وقال: أعلم الناس بالفتيا أسكتهم عنها، وأجهلهم بها أنطقهم"(3).
وسئل مالك رحمه الله عن مسألة، فقال: لا أدري، فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة فغضب، وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله تعالى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5](4).
وقال أحمد رحمه الله في رواية ابن منصور (5): "لا ينبغي أن يجيب في كل ما يُستفتَى فيه"(6).
وقد قال أبو بكر الخطيب والصيمري (7) -رحمهما الله-:
"من حرص على الفتوى وسابقَ إليها وثابرَ عليها قلَّ توفيقه واضطرب في أمره، وإذا
(1) أخرجه الدارمي، المقدمة، باب: من هاب الفتيا، (1/ 248) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مقطوعًا، وقال محققه حسين سليم أسد: إسناده صحيح.
(2)
أخرجه الدارمي، المقدمة، باب: من هاب الفُتيا، (1/ 256) عن ابن سيرين مقطوعًا، وقال محققه حسين سليم أسد: إسناده صحيح.
(3)
الآداب الشرعية، لابن مفلح، (2/ 66 - 67).
(4)
المجموع، للنووي، (1/ 41).
(5)
أبو يعقوب، إسحاق بن منصور بن بهرام المروزي، نزيل نيسابور، الكوسج الإمام الفقيه الحافظ الحجة، هو أحد الأئمة من أصحاب الحديث من الزهاد والمتمسكين بالسنة، وهو صاحب المسائل عن أحمد بن حنبل، سمع سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، والنضر بن شميل، ويحيى بن سعيد القطان، ولد بعد السبعين ومائة، وتوفي سنة 251 هـ. طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، (1/ 303)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (12/ 258).
(6)
الآداب الشرعية، لابن مفلح، (2/ 62).
(7)
أبو القاسم، عبد الواحد بن الحسين بن محمد القاضي، الصيمري، نزيل البصرة، أحد أئمة المذهب، كان حافظًا للمذهب حسن التصانيف، ومن تصانيفه: الإيضاح فى المذهب نحو سبعة مجلدات، والكفاية، وكتاب في القياس والعلل، وكتاب صغير في أدب المفتي والمستفتي، وكتاب في الشروط، توفي بعد سنة 386 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 125)، طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (3/ 339)