الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجُلُّ هذه الشروط لا ينطبق على النازلة محل البحث.
2 - قاعدة: تنزيل الحاجة منزلة الضرورة:
سبق عند الحديث التأصيلي دراسةٌ لهذه القاعدة، وبيانٌ بأن وضعَهَا قاعدةً فقهية أحدثَ ارتباكًا عند بعض الباحثين؛ حيث أباحوا بالحاجة دون استفصال، ودون نظر في شروط الاستصلاح، أو الاستحسان.
ولم يتنبهوا إلى أن الحاجة لا تؤثر فيما ثبت النهي عنه بأدلة قوية، بحيث تعتبر في مرتبة قوية من مراتب النهي، فلا تؤثر في تحليل الخمر والميتة والدم، وإنما تؤثر في عموم ضعيف كثرت أفراده وتناوله التخصيص، وفي مرتبة المنهيات التي لا توصف بأنها في أعلى درجات المنهيات.
فالمحرمات القطعية لا تبيحها إلا الضرورةُ الشرعية الخاصة.
ومرتبة الربا أشد من مرتبة الغرر في البيوع، أو الميسر ونحوه.
والفقهاء لم يمثلوا لقاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة بمحرمات قطعية كالزنا والربا والقتل، ونحو ذلك، مما عُلِمَ تحريمه بالضرورة من دين الإسلام، وإنما في الغالب يمثلون لها بعقود مشروعة، ويرون أنَّ مشروعيتها كانت على خلاف القياس رعايةً لجانب الحاجة كالإجارة والجعالة والسَّلَمِ والاستصناع، مع أنَّ بعض أهل العلم نازع في كون هذه العقود على خلاف القياس ابتداءً (1).
وقد تحفَّظَ الشيخ ابن بيه -وهو من القائلين بالجواز- على إطلاق القول بأن الحاجة وحدها تكفي في إباحة هذا التعامل، حيث قال: "والحقيقة: أن الحاجة لا تكفي في إباحة الربا، وإنما تعتمد الفتوى على قول العلماء القائلين بهذا مرجحًا بأصلٍ عامٍّ
(1) ومنهم ابن تيمية وغيره، وقفات هادئة، د. صلاح الصاوي، (ص 60).
شهد الشرع باعتباره، وهو الحاجة والتيسير" (1).
ومن هنا جاءت فروق بين الضرورة والحاجة في المشقة، ورتبة النهي، والدليل الذي يرفع حكمه بالضرورة، أو الحاجة (2).
وقد تُستعمَلُ قاعدة الحاجات هذه ها هنا أيضًا فتحدث شيئًا من التوسعة التي إن فاتت حصل عنتٌ ومشقة ظاهرانِ بالغانِ، فَيُرَخَّصُ للإنسان في شيء من التوسع من غير ترفهٍ، ولا تنعُّمٍ، ولا خروجٍ عن حدِّ الحاجة التي يؤدي تركها إلى ضرر في الحال، أو المآل، وهذا المعنى قرره إمام الحرمين الجويني: بجلاءٍ، فقال:
"لسنا نعني بالحاجة تَشَوُّفَ الناس إلى الطعام وتشوُّقَهَا إليه فربَّ مشتهٍ لشيء لا يضره الانكفافُ عنه، فلا معتبر بالتشهي والتشوق، فالمرعيُّ إذن دفع الضرار، واستمرار الناس على ما يُقيم قُواهم".
ثم قرر رحمه الله "أن الناس يأخذون ما لو تركوه لتضرروا في الحال، أو في المآل، والضرار الذي ذكرناه في أدراج الكلام عنينا به: ما يُتَوَقَّعُ معه فسادُ البنية أو ضعف يصدُّ عن التصرف والتقلب في أمور المعاش".
ثم قال: "فإن قيل: هلَّا جعلتم المعتبرَ في الفصل ما ينتفِعُ به المتناول؟ "
"قلنا: هذا سؤال عمَّ عن مسالك المراشد؛ فإنا إذا أقمنا الحاجة العامة في حقِّ الناس كافَّةً مقامَ الضرورة في حقِّ الواحد في استباحة ما هو محرَّمٌ عند فرض الاختيار؛ فمن الحال أن يسوغَ الازدياد من الحرام انتفاعًا وتَرَفُّهًا وتَنَعُّمًا، فهذا منتهى البيان في هذا الشأن"(3).
وفرضُ المسألة كما ذكره: أن يَعُمَّ الحرامُ الأرضَ وتفسد المكاسب كلها، ولا يجد
(1) صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 238).
(2)
سبق تفصيل لذلك في المبحث الرابع من الفصل الثالث من الباب الثاني.
(3)
غياث الأمم، للجويني، (ص 346).
الناس إلى طلب الحلال سبيلًا، فهل يقف الناس حينئذٍ عند حدود سدِّ الرمق ودفع غائلة الموت، أم لهم أن يأخذوا منه قدرَ الحاجة؟ وبيَّن أن الثاني هو الذي لا مفرَّ منه.
ثم تحدَّثَ: عن المساكن بصفة خاصة، وقرَّرَ أنَّ مسكن الرجل من أظهر ما تمسُّ إليه حاجته، ولا غناء به عنه، لكنه لم يترك الباب مشرعًا، بل بين أن الترخص في استباحة المحرم لتحصيله له شروط وضوابط، فقال:
"وهذا الفصل مفروضٌ فيه إذا عَمَّ التحريم ولم يجد أهل الأصقاع والبقاع متحَوَّلًا عن ديارهم إلى مواضعَ مباحةٍ ولم يستمكنوا من إحياءِ مواتٍ وإنشاءِ مساكنَ سوى ما هم ساكنوها"(1).
ثم قال: "ثم يتعين الاكتفاء بقدر الحاجة ويحرم ما يتعلق بالترف والتنعم"(2).
ثم يؤكد ما سبق ذكره قائلًا: "ومما يتعلق بتتمة البيان في ذلك أنَّ جميع ما ذكرناه فيه إذا عمَّتِ المحرماتُ وانحسرتِ الطرقُ إلى الحلال، فأمَّا إذا تمكَّنَ الناس من تحصيل ما يَحِلُّ فيتعين عليهم تركُ الحرام واحتمالُ الكل في كسب ما يَحِلُّ، وهذا إذا كان ما يتمكنون منه مغنيًا كافيًا، دارئًا للضرورات، سادًّا للحاجة، فأمَّا إذا كان لا يسدُّ الحاجة العامة، ولكنه يأخذ مأخذًا أو يسدُّ مسدًّا فيجب الاعتناء بتحصيله، ثم بقية الحاجة تُتَدَارَكُ بما لا يَحِلُّ على التفصيل المتقدِّمِ.
فإن قيل: ما ذكرتموه فيه إذا طبقت المحرمات طبق الأرض، واستوعب الحرامُ طبقاتِ الأنام، فما القول فيه إذا اختصَّ ذلك بناحيةٍ من النواحي؟
قلنا: إن تمكَّنَ أهلُهَا من الانتقال إلى مواضعَ يقتدرون فيها على تحصيلِ الحلال تعيَّنَ
(1) المرجع السابق، (ص 350).
(2)
المرجع السابق، (ص 350).
ذلك، فإن تعذَّرَ ذلك عليهم وهم جَمٌّ غفيرٌ وعددٌ كبيرٌ، ولو اقتصروا على سدِّ الرمق وانتظروا انقضاء أوقات الضرورات لانقطعوا عن مطالبهم، فالقول فيهم كالقول في الناس كافَّةً فليأخذوا أقدارَ حاجاتِهِمْ كما فصلناها. . . (1).
وقال: "ثم المحجور عليه المفلس يترك عليه دست ثوب يليق بمنصبه، ويكتفي بأقل المنازل مع رعاية منصبه؛ فالوجه أن نقول: إذا عمَّ التحريم اكتفى كلٌّ بما يترك عليه من الثياب لو حجر عليه".
وقَدَّرَ رحمه الله سؤالًا، وهو:
"لم لا يترك على المفلس مسكنه، ويتعين عليه أن يكتفي بأقل المنازل مع رعاية منصبه؟
ثم قال: قلنا: سبب ذلك أنَّه في الغالب يجد كنًّا بأجرة نزرة فليكتفِ بذلك" (2).
فأين هذا من الترفُّهِ لتحصيل ميزات المسكن المملوك عن المستأجر، كما هو واقع الأمر في هذه النازلة؟!
ثم إنه لا بد من التمييز بين مرتبة الحاجيات، والتحسينات في تحقيق المصالح؛ فإن
الحاجة هي ما يؤدي فواتُهَا إلى العنت والمشقة، وهي كما يقول العلامة الشاطبي:
"ما يُفْتَقَرُ إليه من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوات المطلوب، فإذا لم تُرَاعَ دخل على المكلفين على الجملة الحرجُ والمشقةُ؛ ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة"(3).
وأما مرتبة التحسينات فهي -كما يقول الشاطبي-:
"الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنُّبِ الأحوال المدنسات التي تأنفها
(1) المرجع السابق، (ص 351).
(2)
المرجع السابق، (ص 349 - 350).
(3)
الموافقات، للشاطبي، (2/ 10 - 11).