الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على هذا الحكم إيراداتٌ كثيرة في دقته وفي تخريجه وتعليله، وقد وافق بعض الباحثين (1) على ما انتهى إليه نظر المجلس جلبًا للمصالح، ودفعًا للمفاسد، وحسمًا للفوضى، وفي المبحث السابق نوقش هذا القول بما تضعف معه النتيجة التي انتهى إليها.
القول الثاني:
وهو لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا ومن وافقه من الباحثين، وبه صدر قرار المجمع في دورة مؤتمره الثاني بالدانمرك من 4 - 7 جمادى الأولى 1425 هـ، 22 - 25 يونيو 2004 م، وجاء فيه:
"لجوء المرأة إلى القضاء لإنهاء الزواج من الناحية القانونية لا يترتب عليه وحده إنهاء الزواج من الناحية الشرعية، فإذا حصلت المرأة على الطلاق المدني فإنها تتوجه به إلى المراكز الإسلامية ليتولى المؤهلون في هذه القضايا من أهل العلم إتمام الأمر من الناحية الشرعية، ولا وجه للاحتجاج بالضرورة للاعتداد بالتطليق المدني في هذه الحالة؛ لتوافر المراكز الإسلامية وسهولة الرجوع إليها في مختلف المناطق"(2).
وفي تعليل هذا القرار وتوجيهه قيل:
إن الأصل أن يكون للمسلمين قاضٍ مسلمٌ يحكم بينهم بشرع الله، ومن سلطة هذا القاضي التفريق للضرر بين الزوجين وتطليق الزوجة من زوجها في تلك الحالات التي يبيح له الشرع فيها ذلك؛ ونظرًا لانعدام القاضي المسلم المعين من قبل السلطان
(1) حجية الأحكام الصادرة بالطلاق من قبل المحاكم الغربية بحق الأقليات الإسلامية، د. محمد عبد الجواد النتشة، بحث مقدم إلى ندوة:"فقه الأقليات في ضوء مقاصد الشريعة: تميز واندماج" المنعقدة في كوالالمبور خلال الفترة من 9 - 11/ 11/ 2009 م، فسخ نكاح المسلمات من قبل المراكز الإسلامية في بلاد غير إسلامية، لأحمد تقي العثماني، ضمن بحوث مجلة المجمع الفقهي الإسلامي، التابع لرابطة العالم الإسلامي في الفترة 21 - 26 شوال 1422 هـ - يناير 2002 م، المجلد الأول، الجزء الثاني، (ص 389 - 391).
(2)
قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني للمجمع، (ص 75).
المسلم في البلدان غير الإسلامية، فإن المراكز الإسلامية تقوم مقام القاضي المسلم؛ إذ لا سبيل إلى تحكيم شرع الله في البلدان غير الإسلامية في أحكام الطلاق والنكاح والإرث ونحوها مما لا يستطيعه المسلمون إلا بذلك.
قال ابن قدامة رحمه الله: "القضاء من فروض الكفايات؛ لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه فكان واجبًا عليهم كالجهاد والإمامة. قال أحمد: لا بد للناس من حاكم، أتذهبُ حقوق الناس؟ "(1).
ثم أردف القرار تتميمًا:
"اللجوء إلى القضاء الوضعي لإنهاء الزواج من الناحية القانونية لا يترتب عليه وحده إنهاء الزواج من الناحية الشرعية، إلا إذا صدر الطلاق من الزوج، أو من المحكَّم من قِبَلِ المركز الإسلامي أو الجالية الإسلامية"(2).
وذلك بناءً على أن الأصل في المسلم ألا يتحاكم لغير شرع الله تعالى؛ لقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] ولذلك فلا يُعْتَدُّ بالطلاق إلا إذا كان صادرًا من الزوج؛ لأنه الذي أخذ بالساق، وفي الحديث النبوي:"إنما الطلاق لمن أخذ بالساق"(3)، أو من حاكم شرعي، وهو هنا المركز الإسلامي، كما تقدم، وأما القضاء الوضعي فحكمه لا يعتدُّ به شرعًا؛ ولذلك فتطليق القاضي الوضعي ليس بنافذ، وتظل المرأة شرعًا في عصمة زوجها حتى يصدر الطلاق منه، أو من حاكم شرعي، وإنما يباح اللجوء إلى القضاء الوضعي لمجرد الحصول على وثائق رسمية لتسهيل المعاملات المباحة، ولتسهيل الحصول على الحقوق الشرعية،
(1) المغني، لابن قدامة، (14/ 5 - 6).
(2)
قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني للمجمع، (ص 74 - 76).
(3)
سبق تخريجه.
وإباحة اللجوء إلى القضاء هنا مستندها القاعدة الفقهية التي ذكرها ابن نجيم وغيره: أن الحاجة العامة أو الخاصة تنزل منزلة الضرورة، والمراد بمنزلة الضرورة أنها تؤثِّر في الأحكام فتبيح ارتكابَ المحظور، أو تَرْكَ الواجب وغير ذلك، مما يستثنى من القواعد الأصلية (1).
وقد ذهب إلى هذا أو قريب منه الشيخ ابن بيَّه فقال: "ومع ما تقدم -أي: من استبعاده لمأخذ قرار المجلس الأوروبي للإفتاء في هذا الشأن- فإن القول بإنفاذ الطلاق لا يبعد، وذلك بإيجاب طلاق الزوجة على الزوج، وعلى جماعة المسلمين أن يحكموا بهذا الطلاق حتى لا تظل الزوجة على معصية، كما قدمنا عن المالكية في الزوجة الناشز؛ درءًا للمفسدة وتوسيعًا لمفهوم إنفاذ أحكام قضاة الجور المسلمين المُولَّيْنَ من طرف الكفار؛ ليشمل القضاة الكفار درءًا للمفسدة التي أشار إليها العز ابن عبد السلام في الحالة الأولى حيث قال: "ولو استولى الكفار على إقليم عظيم، فولَّوُا القضاءَ لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة؛ فالذي يظهر: إنفاذ ذلك كله جلبًا للمصالح العامة، ودفعًا للمفاسد الشاملة؛ إذ يبعد عن رحمة الشارع ورعايته لمصالح عباده تعطيلُ المصالح العامة، وتحمُّلُ المفاسد الشاملة؛ لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها ممن هو أهل لها، وفي ذلك احتمال بعيد" (2).
وحيث يقول أيضًا -في الشهادة، وهي صنو القضاء-: "بل لو تعذرت العدالة في جميع الناس لما جاز تعطيل المصالح المذكورة، بل قدمنا أمثل الفسقة، فأمثلَهم وأصلَحَهم للقيام بذلك فأصلَحَهم؛ بناءً على أنَّا إذا أُمِرْنا بأمر أتينا بما قدرنا عليه، ويسقط عنا ما عجزنا عنه، ولا شك أن حفظ البعض أولى من تضييع الكل، وقد قال شعيب عليه السلام:{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88]، وقال الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، فعلَّق تحصيل مصالح التقوى على الاستطاعة، فكذلك المصالح
(1) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 100)، الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 88).
(2)
قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 121 - 122).
كلها" (1)(2).
وقال ابن عابدين: "وأما في بلاد عليها ولاة كفار: فيجوز للمسلمين إقامة الجمع والأعياد، ويصير القاضي قاضيًا بتراضي المسلمين"(3).
وقال -قبل ذلك-: "ويتفرع على كونها دار حرب: أن الحدود والقود لا يجري فيها"(4).
فيفهم من كلامه: أن من تراضى عليه المسلمون يمكن أن يحكم بينهم فيما سوى الحدود والدماء.
وقد تقرر فيما سبق (5) قاعدة: "قيام أهل الحل والعقد مقام الإمام"، وقاعدة:"إقامة جماعة المسلمين مقام القاضي"، باعتبارها مستند تخويل المراكز الإسلامية صلاحيةَ البتِّ في قضايا التنازع بين الزوجين، وبخاصة في دعوى الضرر، وإيقاع الطلاق والخلع؛ ولما تقدم فإنه يجوز للمراكز الإسلامية -وما في حكمها مما يعتبر مرجعًا لجماعة المسلمين- أن تقرر تطليق المرأة التي قد صدر لها حكم من محكمة غير إسلامية، أو لم يصدر لها حكم، ورفع الزوجان أَمْرَهما إليها.
إلا أن عليها في كل الأحوال أن تُراجِعَ كل حالة لإثبات المقتضي وعدم المانع شرعًا، وأن تحاول الصلح ما وجدتْ إليه سبيلًا، وأن تستعين ببعض الفقهاء ما أمكن، وأن تسأل العلماء حتى تطمئن إلى سلامة إجراءاتها (6).
ومما يُستدل به على مشروعية هذا العمل:
(1) المرجع السابق، (2/ 80).
(2)
صناعة الفتوى وفقه الأقليات، لابن بيه، (ص 277).
(3)
حاشية ابن عابدين، (6/ 289).
(4)
المرجع السابق، (6/ 288)، صناعة الفتوى وفقه الأقليات، لابن بيه، (ص 275 - 276).
(5)
المبحث التاسع من الفصل الثالث من الباب الثاني.
(6)
صناعة الفتوى وفقه الأقليات، لابن بيه، (ص 279).
1 -
دفع الحاجة ورفع الحرج، ولا شك أن ترك تزويج المرأة المسلمة الصالحة للزواج الراغبة فيه أَمْرٌ تترتب عليه مفاسد عظيمة، وبخاصة في المجتمعات الغربية، والمجتمعات التي تتساوى معها في عدم تحكيم شرع الله، وقد تنزلق المرأة بسبب ذلك في هاوية الفاحشة، وهذا أَمْرٌ فيه مضرة عليها في دينها وفي دنياها، وإن فرض أما استطاعت الصبر عن التزوج -مع الرغبة فيه- فلن يحصل ذلك إلا بحرج شديد.
قال الجويني رحمه الله: "فأما القول في المناكحات فإنَّا نعلم أنه لا بد منها، كما أنه لا بد من الأقوات، فإن بها بقاء النوع، كما بالأقوات بقاء النفوس، والنكاح هو المغني عن السفاح. . . والمناكح في حق عامة الناس في حكم ما لا بد منه"(1).
ومن المعلوم أن مثل هذه الحاجة ليست نادرة، بل هي في ديار الغرب ومجتمعات الأقليات المسلمة من الأمور الشائعة، فهي حاجة عامة، وقد ذكر العلماء أن الحاجة العامة تتنزل منزلة الضرورة الخاصة في حقِّ آحاد الناس (2).
2 -
تزويج المركزِ المسلمةَ التي ليس لها ولي في مثل هذا المجتمع يدفع ضررًا راجحًا يلحق بها في حال عدم التزويج، ورفعُ الضرر أصلٌ عظيم في الشريعة المطهرة استُفِيدَ من أدلة عديدة أفادت بمجموعها القطعَ بثبوت هذا الأصل؛ ومن ذلك: قوله تعالى -في شأن الزوجات-: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231]، وقوله:{وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6].
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "لا ضرر ولا ضرار"(3).
(1) غياث الأمم، للجويني، (ص 369)، وانظر: تفسير القرطبي، (3/ 76).
(2)
حكم تولي المراكز والجمعيات الإسلامية عقود تزويج المسلمين وفسخ أنكحتهم، د. حمزة بن حسين الفعر، ضمن بحوث مجلة المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي 2004 م، (ص 414).
(3)
سبق تخريجه.
3 -
الآيات التي تدل على أن المؤمنين أولياء لبعضهم، ومن ذلك: قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55]، وقوله:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71].
وهاتان الآياتان تثبتان ولاية المؤمن، والولاية جنس تدخل تحته كلُّ ولاية تبيح التصرف في شئون الآخر في النفس أو المال أو غير ذلك.
وولاية المسلم على المرأة المسلمة في المكان الذي ليس فيه ولي قريب ولا سلطان مما يدخل تحت هذا اللفظ.
وقد نقل القرطبي رحمه الله في تفسيره عن ابن خويز منداد (1) رحمه الله أنه قد روى عن الإمام مالك رحمه الله في بعض أقواله في تفسير الأولياء من هم؟ قوله: "كل من وضع المرأة في منصب حسن فهو وليها، سواء أكان من العصبة، أم من ذوي الأرحام، أم الأجانب، أم الإمام، أم الوصي"(2).
ونقل القرطبي -أيضًا- عن إسماعيل بن إسحاق (3) قوله: "لما أمر الله سبحانه بالنكاح جعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض، فقال تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] والمؤمنون في الجملة هكذا يرث بعضهم بعضًا، فلو أن رجلًا
(1) أبو بكر، ابن خويز منداد، محمد بن أحمد بن عبد الله، تفقه على الأبهري، من مصنفاته: كتاب كبير في الخلاف، وكتاب في أصول الفقه، وفي أحكام القرآن، وعنده شواذ عن مالك، طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 168) وسماه بابن الكواز، وتابعه عليه في معجم المؤلفين، ترتيب المدارك، للقاضي عياض، (7/ 77).
(2)
تفسير القرطبي، (3/ 75).
(3)
أبو إسحاق، إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل، ابن محدث البصرة حماد بن زيد بن درهم الأزدي، مولاهم البصري، المالكي، قاضي بغداد، وصاحب التصانيف، الإمام العلامة، الحافظ، شيخ الإسلام، من مصنفاته: فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والاحتجاج بالقرآن في مجلدات، وأحكام القرآن، ولد سنة 199 هـ، وتوفي سنة 282 هـ، (ص 164)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (13/ 339).
مات ولا وارث له لكان ميراثه لجماعة المسلمين، ولو جنى جناية لعقل عنه المسلمون، ثم تكون ولايةٌ أقرب من ولايةٍ، وقرابةٌ أقرب من قرابةٍ، وإذا كانت المرأة بموضعٍ لا سلطان فيه، ولا ولي لها، فإنها تصير أمرها إلى من يوثق به من جيرانها، فيزوجها، ويكون هو وليها في هذه الحال؛ لأن الناس لا بد لهم من التزويج، وإنما يعملون فيه بأحسن ما يمكن، وعلى هذا قال مالك -في المرأة الضعيفة الحال-: إنه يزوجها من تسند أمرها إليه؛ لأنها ممن تضعف عن السلطان، فأشبهت من لا سلطان بحضرتها، فرجعت في الجملة إلى أن المسلمين أولياؤها" (1).
وإذا تحقق أن لأهل الحل والعقد وجماعة المركز الإسلامي حقًّا في التطليق فإنه يثبت به حق التزويج أيضًا عند المالكية؛ جاء في المعيار المعرب للونشريسي: "إذا لم يكن بالبلد قاضٍ زوَّج صالحو البلد من أراد التزويج.
وسئل أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي (2) عن امرأة أرادت التزويج، وهي ثيب ولا حاكم بالبلد، وأولياؤها غيب، ترفع أمرها إلى فقهاء البلد فيأمروا من يزوجها، وكيف إن لم يكن بالبلد عالم ولا قاضٍ أترفع أمرها إلى عدول البلد في البكر والثيب؟
فأجاب:
إذا لم يكن في البلد قاضٍ فيجتمع صالحو البلد ويأمرون بتزويجها.
كل بلد لا سلطان فيه فعدول البلد وأهل العلم يقومون مقامه في إقامة الأحكام. . .
وسئل أيضًا عن بلد لا قاضي فيه ولا سلطان أيجوز فعل عدوله في بيوعهم
(1) المرجع السابق، (3/ 76).
(2)
أبو جعفر، أحمد بن نصر الداودي، الأسدي، من أئمة المالكية بالمغرب، والمتسمين في العلم، المجيدين للتأليف، من مصنفاته: كتاب القاضي في شرح الموطأ، والواعي في الفقه، والنصيحة في شرح البخاري، توفي سنة 402 هـ ترتيب المدارك، للقاضي عياض، (7/ 102)، معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (2/ 194).
وأشريتهم ونكاحهم؟
فأجاب: بأن العدول يقومون مقامَ القاضي والوالي في المكان الذي لا إمامَ فيه ولا قاضي، قال أبو عمران الفاسي: أحكام الجماعة الذين تمتد إليهم الأمور عند عدم السلطان نافذ منها كلُّ ما جرى على الصواب والسداد، في كل ما يجوز فيه حكم السلطان، وكذلك كل ما حكم في عمال المنازل من الصواب ينفذ" (1).
وبهذا المعنى صدرت فتاوي متعددة في مذهب الشافعية، ومن ذلك:
ما جاء في فتاوي ابن حجر الهيتمي الشافعي أنه سئل عن امرأة لا ولي لها ولَّتْ أمرها رجلًا فزوَّجَهَا فهل يصح نكاحها أم لا؟
فأجاب: "يصح نكاحها إذا ولَّتْ أمرها رجلًا؛ لأن يونس بن عبد الأعلى (2) روى عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: إذا كان في الرفقة امرأة لا ولي لها فولَّت أمرها رجلًا فزوَّجها جاز، واختاره الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله، قال ابن مأمون -وكان رجلًا مشهورًا من جلة أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه-: سمعت المزني يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا كانت المرأة في جوار قوم ليس لها زوج، ولا هي في عدة من زوج، ولا لها ولي حاضر، فولَّتْ أمرها رجلًا من صالحي جيرانها فزوَّجها تزويجًا صحيحًا فالنكاح جائز. قال: المزني: فقلت للشافعي: فإنا نحفظ عنك في كتابك أن النكاح باطل، فقال
(1) المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل أفريقية والأندلس والمغرب، لأبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي، خرجه جماعة من الفقهاء بإشراف د. محمد حجي، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، المملكة المغربية، 1401 هـ - 1981 م، (10/ 102 - 103).
(2)
أبو موسى، يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة بن حفص بن حيان، الإمام الكبير، الصدفي المصري الفقيه، المقرئ، وسمع الحديث من سفيان بن عيينة، وابن وهب، والشافعي وأخذ عنه الفقه، وروى عنه مسلم، والنسائي، وابن ماجة، وأبو عوانة، وانتهت إليه رياسة العلم بديار مصر، ولد سنة 170 هـ، وتوفي سنة 264 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 99)، طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (2/ 170).
الشافعي: إن الأمر إذا ضاق اتسع. . .
قال الإمام الأزرق (1): وحكم المواضع التي لا حاكم فيها، ولا يمتد إليها أمر الحكام من الرفقة فيما يظهر لي: جواز تولي أمرها إلى عدل" (2).
وجاء أيضًا في فتاوي الرملي بأنه سئل عما لو حَكَّمَتِ امرأةٌ لا ولي لها إلا الحاكمُ عدلًا في تزويجها وليس بمجتهد، فهل يجوز له تزويجها؟
فأجاب بأنه لا يجوز تزويجه إيَّاها إلا عند فَقْدِ القاضي؛ إذ الضرورة تتقدَّرُ بقدرها، وهذا يفيد جواز تزويج العدل للمرأة التي لا ولي لها عند فَقْدِ القاضي (3).
وقريب من هذا ما عند الحنابلة من فتاوي، ومنها:
ما ذكره ابن قدامة رحمه الله في المرأة التي لا يُوجد لها "ولي، ولا ذو سلطان أنه يُزوِّجُهَا رجلٌ عدلٌ بإذنها، فإنه قال في دهقان قرية: يزوِّجُ من لا ولي لها إذا احتاط لها في المهر والكفء، إذا لم يكن في الرستاق قاضٍ"(4).
وجاء في مجموع فتاوي ابن تيمية رحمه الله أنه سئل عن أعراب نازلين على البحر وأهل البادية، وليس عندهم ولا قريبًا منهم حاكم، فهل يصح عقد أئمة القرى لهم مطلقًا لمن لها ولي ولمن ليس لها ولي؟
فأجاب بأن من كان لها ولي من النسب، فهو وليها الذي يزوجها، وإن كانت معتقة فمعتقها هو الولي.
(1) أبو الحسن، موفق الدين، ونور الدين، علي بن أبي بكر بن خليفة، اليماني الشافعي، عرف بابن الأزرق، من مصنفاته: نفائس الأحكام، ومختصر المهمات للإسنوي، والتحقيق الوافي بالإيضاح الشافي في نحو ثلاثة أسفار، توفي سنة 809 هـ. الضوء اللامع، للسخاوي، (5/ 200)، الأعلام، للزركلي، (4/ 266).
(2)
الفتاوي الفقهية الكبرى، لابن حجر الهيتمي، (4/ 88).
(3)
انظرها في: الجزء الثالث من حاشية الفتاوي، لابن حجر الهيتمي، (3/ 157).
(4)
المغني، لابن قدامة، (9/ 362).
"وأما من لا ولي لها فإن كان في القرية أو الحلة نائب حاكم زوَّجَهَا هو وأمير الأعراب ورئيس القرية، وإذا كان فيهم إمام مطاع زوَّجَهَا -أيضًا- بإذنها"(1).
وأما المذهب الحنفي فمعلوم أنه لا يشترط الولي في الراجح المفتى به عندهم (2).
إلا أن المشكلة لديهم في أمر الطلاق، أو الفسخ، وليس في المذهب الحنفي تأصيل لهذه النازلة.
ولا شك أن ما أصَّله المالكية يفتح بابًا للسعة، وإعماله ليس بجديد على الأمة، فقد مَسَّتِ الحاجة بذلك في الديار الهندية في زمن الاستعمار البريطاني؛ حيث إن الاستعمار كان قد قضى على المحاكم الشرعية بتاتًا، ونصب قضاة من غير المسلمين لفصل قضايا المسلمين، حتّى في أحوالهم الشخصية، وكانت أغلبية سكان الهند من المسلمين على مذهب الحنفية، وبالرغم من ذلك فإن فقهاء الحنفية أفتوا في هذا الباب بمذهب المالكية.
وقد ألف الشيخ أشرف التهانوي (3) كتابًا اسمه: الحيلة الناجزة للحليلة العاجزة، وفيه جرى على مذهب المالكية، ووافقه عليه جميع علماء الهند، وموافقتهم مثبتة في ذلك الكتاب (4).
وبمثل ما عمل مشايخ الهند أفتى فضيلة شيخ الأزهر جاد الحق علي جاد الحق رحمه الله-وهو حنفي المذهب- في معرض جوابه على سؤال وجهه إليه مدير معهد علوم الشريعة الإسلامية بجنوب أفريقيا حول مدى شرعية أن يتولى قاضٍ غيرُ مسلمٍ
(1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (32/ 35 - 34 - 35).
(2)
بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 247)، البحر الرائق، لابن نجيم، (3/ 117).
(3)
أشرف علي بن عبد الحق الحنفي التهانوي، عالم فقيه واعظ معروف بالفضل والأثر، كان مرجعًا في التربية والإرشاد، من مؤلفاته: بيان القرآن، وتحذير الإخوان من تزوير الشيطان، ولد سنة 1280 هـ وتوفي سنة 1362 هـ. نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر، لعبد الحي ابن فخر الدين الحسيني، دار ابن حزم، بيروت، ط 1، 1420 هـ - 1999 م، (8/ 1187).
(4)
فسخ نكاح المسلمات من قبل المراكز الإسلامية في البلاد غير الإسلامية، لأحمد تقي العثماني، (ص 394 - 395).
القضاءَ في شئون الأحوال الشخصية للمسلمين، ومدى صلاحية حكمه في أي قضية ذات علاقة بالشريعة الإسلامية، فقال:"والمسلمون إذا كانوا أقلية في بلد غير إسلامي يرجعون إلى تعاليم الإسلام بتوجيه من علماء المسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم وأحوالهم الشخصية، وكل ما يعرض لهم من أمور دينهم، وإذا عَيَّنَ الحاكمُ غيرُ المسلم قاضيًا غيرَ مسلمٍ أو محاميًا في شئون الأحوال الشخصية الإسلامية، أو من يقوم بإدارة أموالهم لم يجز هذا في قول عامة الفقهاء؛ حيث لا يصح أن يتقلد القضاءَ إلا المسلمُ المؤهَّلُ لذلك بالشروط المقررة لمثله. . . " إلى أن قال: "ومن ثَمَّ لا يحل للمسلمين التحاكمُ إلى قاضٍ غير مسلم إلا عند الضرورة، وعلى الأقلية الإسلامية في هذه الحال العملُ على الخلاص؛ إما باستقلال، أو بهجرة، أو بالتحاكم إلى محكمين مسلمين علماء ويرضاهم المتخاصمون، لا سيما في مسائل الحلال والحرام، ومنها: أمور الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ونسب وميراث، وهذا خير لدينهم ولدنياهم من التحاكم إلى قاضٍ غير مسلم عَيَّنَهُ الحاكم"(1).
وفي مشروعية هذا التحكيم وإلزامية ما يصدر عنه من أحكام صدر قرار مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا الآتي:
"إذا كان للقائم على المركز الإسلامي صفة الحكم سواء باتفاق الطرفين، أو لاصطلاح الجالية المسلمة عليه فإنه يعتد بما يجريه من التفريق بسبب الضرر، أو الشقاق، أو سوء العشرة أو لعدم النفقة أو الغيبة أو السجن أو الأسر، ونحوه بعد استيفاء الإجراءات القانونية التي تقيه من الوقوع تحت طائلة القانون".
"وعلى المحكمين اتباع الخطوات الشرعية اللازمة في مثل هذه الحالات، كالاستماع إلى
(1) بحوث وفتاوي إسلامية، لشيخ الأزهر جاد الحق علي جاد الحق، (2/ 317 - 318).
طرفي الخصوم، وضرب أجل للغائب منهما، وتجنب التسرع في الحكم، وإقامة العدل بينهما ما أمكن" (1).
واستند قرار المجمع إلى النصوص الشرعية التي أباحت الخلع، مثل: قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].
ومثل: حديث امرأة ثابت بن قيس أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ما أنقم على ثابت في دِينٍ ولا خلق إلا أني أخاف الكفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أتردين عليه حديقته"؟ قالت: نعم فردَّتها عليه، وأمره ففارقها (2).
وإلى ما قرره الفقهاء من أن الخلع إما أن يكون بين الزوجين بتراضيهما، وإما بأن يخلع المرأة من زوجها حاكمٌ، أو من يقوم مقامه وهو المراكز الإسلامية، وذلك في حالة التنازع بين الزوجين، ففي مغني المحتاج:"وإن أبى الفيئة والطلاق، فالأظهر الجديد أن القاضي إذا رفعته إليه يطلق عليه طلقةً نيابةً عنه؛ لأنه لا سبيل إلى دوام إضرارها، ولا إجباره على الفيئة؛ لأنها لا تدخل تحت الإجبار، والطلاق يقبل النيابة فناب الحاكم عنه، عند الامتناع كما يزوِّج عن العاضل، ويستوفي الحق من المماطل، فيقول: أوقعت على فلانة عن فلان طلقةً، كما حكي عن الإملاء، أو حكمتُ عليه في زوجته بطلقةٍ، فإن قال: أنت طالق ولم يقل عن فلان، لم يقع"(3).
وعلى القائمين على الأمر في هذه المراكز أن يقدروا الأمر قدره، وأن يستوفوا الإجراءات التي يتعين استيفاؤها؛ لتصح أحكامهم، من الاستماع إلى كلا الطرفين، وعدم القضاء في أي واقعة بناء على سماع من طرف واحد فيها، وإبلاع أطراف النزاع
(1) قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني للمجمع، (ص 77).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب: الخلع وكيف الطلاق فيه، (5273) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا.
(3)
مغني المحتاج، للخطيب الشربيني، (3/ 351).
بموعد نظر الخصومة، وضرب أجل للغائب، ولمن أراد أن يُعِدَّ دفاعه، أو يستدعي شهوده، إلى غير ذلك من الإجراءات المعهودة في نظر الدعاوي أمام المحاكم الشرعية وتبقى نقطة أخيرة في تنظيم إجراءات تلك المراكز، وأسلوب نظر تلك القضايا، وهذا مما قد تتعدد فيه الاجتهادات وتتفاوت فيه التقديرات، ويختلف باختلاف الأماكن والبيئات.
ولا بأس هنا أن نشير إلى بعض ما ذكره فقهاء المالكية من تحديدات وتقييدات في نقاط محددة:
أولًا: عدد الجماعة الذين يُفَوَّضُ إليهم النظر في هذه القضايا:
ذهب بعض المالكية كالشيخ محمد عليش رحمه الله إلى أن أقلَّ العدد ثلاثة.
فقال: "وتعبير المصنف كغيره بجماعة يقتضي أن الواحد لا يكفي، وكذا الاثنين"(1).
إلا أن الدردير في شرحه الكبير قال: "وأراد بجماعة المسلمين اثنين عدلين فأكثر"(2).
وعليه فإن الأحوط ألا يقلَّ العدد عن ثلاثة خروجًا من الخلاف، وكما هو ظاهرُ لفظِ الجماعة، ولأن النقص في العدالة يُجْبَرُ بتكثير العدد، كما أن الثقة بالعدد الأكثر أكبر، واستبداد الواحد بالقضاء ربما أفضى إلى شيء من التهمة، ولا شك أن أعمال المحاكم الشرعية المعاصرة والوضعية معًا فيها هذه اللجنة الثلاثية.
صفات المحكمين:
من بداهة الأمر أن يكون هؤلاء المحكمون من أصحاب الكفاية والدراية في المسائل الشرعية والفقهية خاصة، فلو كانت هذه اللجنة تحكم في أمور النكاح والطلاق ونحوهما فلا غنى بها أن يكون القائمون عليها والمشاركون في عضويتها من أهل العلم بأسباب المفاسخات، والطرائق الشرعية للإثبات، وما يرتبط بذلك من إجراءات،
(1) منح الجليل، لعليش، (4/ 318).
(2)
الشرح الكبير، للدردير، (2/ 153).