الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن الفقهاء من تقصر همته على تنزيل الأحكام في مواقعها، ومنهم من تتعدى همته الواقع الحاضر إلى المستقبل، وينفذ بصره من الحال إلى المآل، ويمتلك رؤية ارتيادية واستراتيجية في السياسة الشرعية؛ فيبصر مواقع المصلحة ويتوخاها، ومواقع المفسدة ويتخطاها.
ويرتب الأولويات ويرعاها، وهذا يمتلك ناصية ما يسمى بفقه التوقع بعد فقه الواقع!
ولا شك أن الصنف الأخير أندر من الكبريت الأحمر، وأنفس من الإبريز الأصفر.
ثالثًا: تطبيق بعض الفتاوي القديمة جزئيًّا أو كليًّا في المسائل المعاصرة:
الفتاوي السابقة ميدان فسيح ينتفع من خلاله الفقيه، ويستأنس به المجتهد، وهو علم لا غنى عنه للفقيه المعاصر؛ فهو علم تروى فيه الأحكام الصادرة عن الفقهاء في الوقائع الجزئية؛ ليسهل الأمر على القاصرين بعدهم (1).
ومعرفة تلك الفتاوي القديمة تعطي صورة عن النازلة في عهدها السابق وتطورها الذي جد في الوقت اللاحق، والفقيه حيث يطالع مسالك العلماء في تقرير حكمها يتمهد طريق بحثه، وتتذلل وعورة سبيله في بحث النازلة؛ فربما طبق على هذه الفتاوي مباشرة، وربما لمح أوجهًا للفرق والتمييز بين القديم والحديث.
يقول الشيخ الزرقاء رحمه الله: "وكُتُبُ الفتاوي هذه تمثل الناحية التطبيقية العلمية من الفقه، وتُظهر نتائج المبادئ النظرية والأحكام المقررة، ومدى ملاءمتها للمصلحة التطبيقية عند وقوع الحوادث المتوقعة كل وقت؛ لأن الحوادث المتأخرة كثيرًا ما تتشابه مع وقائع الماضي"(2).
وحين تُذكر الفتاوي القديمة تأتي في المقدمة فتاوي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم -كما قال ابن القيم رحمه الله-: "مثلوا الوقائع بنظائرها وشبهوها بأمثالها، وردُّوا بعضها إلى بعض
(1) مفتاح السعادة، لطاش كبرى زاده، (2/ 557 - 558).
(2)
المدخل الفقهي العام، للزرقا، (1/ 214).
في أحكامها، وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد، ونهجوا لهم طريقه، وبينوا لهم سبيله" (1).
ثم مَنْ بعدهم مِنْ التابعين وتابعيهم لهم تبع في هذا المنهج والمسلك.
ومن غير شك فإن النوازل المعاصرة ازدادت تعقيدًا بتعقيدات العصر، وبظهور مخترعات علمية مذهلة التطور، لا في مجال المعلومات فحسب، بل في كل مجال علمي، ودراسة الفتاوي القديمة تعطي تصورًا عن وضع النازلة الجديدة وإلى أي مدى يمكن اعتبارها نازلة من كل وجه، وهذا قد يفيد في تكييفها، ومن ثم استنباط الحكم المناسب لها.
وفي التراث الفقهي المذهبي القديم ما يشير بجلاء إلى مآخذ أحكام معاصرة، ومسائل نازلة كالتلقيح الصناعي، وقد ذَكَرَ الفقهاء حكم استدخال المرأة منيًّا في فرجها، وسواء أكان المني لزوجها، أم لغيره، وسواء أكان ذلك لشهوة، أم لا؟ وسواء أكان ذلك عن قصد، أم لا؟ بما يمكن أن يكوَّن أمارات ترشد إلى حكم التلقيح المجهري والصناعي اليوم (2).
وفي التراث الفقهي المذهبي ما يتناول حكم الوفاة الدماغية، وما يترتب عليها؛ فقد تناول الفقهاء حكم من جرح فلم تبقَ فيه إلا مثل حركة المذبوح بحيث يعمل قلبه وأعضاؤه تتحرك حركة لا إرادية؛ فهل يحكم له بالحياة، أم لا؟ وما حكم من جنى عليه في هذه الحالة، وهل يعد قاتلًا، أم لا؟ (3).
(1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 257).
(2)
الفتاوي الهندية، للشيخ نظام وجماعة من علماء الهند، تحقيق: عبد اللطيف حسن عبد الرحمن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1421 هـ - 2000 م، (4/ 124)، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، لعبد الرحمن بن محمد بن سليمان الكليبولي، المدعو بشيخي زاده، دار الكتب العلمية، بيروت، 1419 هـ (2/ 252)، حاشية ابن عابدين، (5/ 213)، فتاوي الرملي، (4/ 202)، حواشي الشرواني وابن قاسم على تحفة المحتاج، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1357 هـ - 1938 م، (8/ 231)، نهاية المحتاج، للرملي، (8/ 430 - 431)، كشاف القناع، للبهوتي، (5/ 73).
(3)
حاشية ابن عابدين، (3/ 130)، مغني المحتاج، للخطيب الشربيني، (4/ 12)، كشاف القناع، للبهوتي، (5/ 516).