الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(عائلة الزوج، وعائلة الزوجة).
وهنالك صورة أخرى من صور الزواج في بلاد الغرب أُورِدُهَا كما يلي:
يتزوج الرجل المرأة بصداق، ولكنه مضمر في نفسه، ويصرح لأصدقائه وأقاربه أن غرضه ليس الزواج، وإنما هو الحصول على الإقامة، فمتى حصل على الإقامة، طلق زوجته هذه، وهو لا يستطيع أن يصرِّح بهذا أمام المرأة؛ خوفًا من أن تطرده قبل الحصول على الإقامة" (1).
وفيما يلي بيان للإجابة عن هذه الأسئلة والتي يمكن من خلالها مدارسة هذه النازلة في بلاد الغرب خاصة.
الصورتان الأولى والثانية:
انتهى المجلس الأوروبي للإفتاء بتحريم الصورتين الأولى والثانية، وجاء في فتياه ما يلي:
"الجواب:
الصورة الأولى: حرام، يأثمان عليه، وذلك بسبب منافاة هذا العقد لمقصد الشريعة في الزواج؛ إذ هو عقد صوري مقصود به أمر آخر غير الزواج.
فهو لو استوفى شروط العقد؛ فإنه لا يحل لهذا المعنى، وكذلك لأجل أن قانون البلاد لا يسمح به، يتأكد المنع بمجيء هذه الصورة مخالفة لقانون البلد، والقانون هنا متفق مع المقصد الشرعي.
كما أن هذه الصورة لا تخلو من شَبَهٍ بنكاح المتعة الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث سبرة بن معبد أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا أيها الناس: إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان
(1) فتاوي وقرارات المجلس الأوروبي للإفتاء، (ص 55 - 57).
عنده منهن شيء، فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا" (1) - من جهة التوقيت الذي فيه إلى فترة الحصول على الإقامة، ثم يُفْسَخُ العقد بعد ذلك كما عبر السائل.
والصورة الثانية: مثل الأولى في التحريم، وفيها قضية مقطوع بحرمتها، وهي زواج المسلمة بغير المسلم؛ فإن مجرد العقد فاسد، سواء للغاية المذكورة في السؤال، أو لمجرد الزواج" (2).
وقد اتفق مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا مع المجلس الأوروبي في هذا المأخذ، فكان مما وَرَدَ في قرارات المجمع في دورته الثانية بالدانمرك:
"قرر المجمع: الزواج الصوري: هو الزواج الذي لا يَقْصِدُ به أطرافه حقيقة الزواج الذي شرعه الله ورسوله، فلا يتقيدون بأركانه وشرائطه، ولا يحرصون على انتفاء موانعه، بل يتفق أطرافه على عدم المعاشرة صراحةً أو ضمنًا، فهو لا يعدو أن يكون إجراءً إداريًّا لتحصيل بعض المصالح، أو دفع بعض المفاسد، فهو أشبه بنكاح التحليل، لا يُراد به النكاح حقيقة؛ بل لتحليل المرأة لمطلقها ثلاثًا.
والزواج الصوري على هذا النحو محرم في باب الديانة لعدم توجه الإرادة إليه، ولخروجه بهذا العقد عن مقاصدِهِ الشرعية، ولما يتضمنه من الشروط النافية لمقصوده، فلا يحل الإقدام عليه.
أما حكمه ظاهرًا فإنه يتوقف على مدى ثبوت الصورية أمام القضاء، فإن أقر الطرفان بصورية العقد، أو تيقن القاضي بذلك من خلال ما احتفَّ به من ملابسات وقرائن قضى ببطلانه، أمَّا إذا لم تثبتْ فإنه يحكم بصحته قضاءً متى تحقَّقَتْ أركان
(1) أخرجه مسلم، كتاب النكاح، باب: نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ. . .، (1406).
(2)
فتاوي وقرارات المجلس الأوروبي للإفتاء، (ص 57).
الزواج وانتفتْ موانعه.
وإذا مسَّتِ الحاجةُ إلى تحصيل بعض المصالح التي لا يتسنى تحصيلها إلا من خلال الزواج فإن السبيل إلى ذلك هو الزواج الحقيقي الذي تتجه إليه الإرادة حقيقة، فَتُسْتوفى فيه أركانه وشرائطه، وتَنْتفي موانعه، ويُجْرَى على وفاق الشريعة المطهرة، فلا يصرح فيه بالتوقيت، ولا يعبث فيه أحد بغاياته ومقاصده" (1).
وقد وَرَدَ سؤالٌ إلى اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية، هذا نصه:
"هل يُسْمَحُ بالزواج من أمريكية مسيحية للحصول على (البطاقة الخضراء) عن طريقها دون معاشرتها، أو الانفراد بها (على الورق فقط) نيتي هي الزواج على النحو المذكور حتى أستطيع زيارة بلد الزوجة ومساعدة والِدَيَّ اللذَينِ يعيشان في وطني الأصلي، والعمل بالشهادة التي أحملها (برمجة كمبيوتر) وجزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: لقد عرضنا هذا السؤال على سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز فأجاب ليس هذا من مقصود النكاح في الشريعة الإسلامية أن يتزوج بغرض الحصول على حق الإقامة، ثم يطلق، والذي يظهر لي عدم الجواز. انتهى" (2)
وقد وجه مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا قراره هذا وعلله باشتمال الزواج الصوري على مفاسدَ كثيرةٍ، منها:
• ما تَقدَّم من العبث بمقاصد النكاح واتخاذ آيات الله هزوًا.
(1) قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني للمجمع المنعقد بالدانمرك، (ص 67 - 68).
(2)
فتاوي الإسلام سؤال وجواب قام بجمعها أبو يوسف القحطاني، بإشراف الشيخ محمد صالح المنجد، رقم (2886)، وفتاوي اللجنة الدائمة، (18/ 446 - 449)، والفتاوي بأرقام، (12087، 17030، 21140، 19540).
• ما تَقدَّم من فساده غالبًا؛ لعدم توفر أركانه أو شروط صحته.
• اشتماله أحيانًا على شروط فاسدة تُنافي مقصود العقد.
• التصريح بالتوقيت في بعض صوره فيكون نكاح متعة.
• التصريح بنية الطلاق في بعض صوره فيكون نكاحًا بنية الطلاق، وهو نكاح باطل عند بعض الفقهاء، وصحيح عند بعضهم، لكنه مع صحته قد يَلحق صاحبَهُ الإثمُ من جهة ما فيه من غشٍّ وخداع، أو من جهة ما يؤدي إليه في بلاد غير المسلمين من تشويه سمعة الإسلام والمسلمين.
• ما فيه من الشَّبَهِ بنكاح التحليل، حيث إنه نكاح دلسة لا نكاح رغبة.
• دخوله تحت باب التزوير والاحتيال على القوانين، وفي ذلك تشويه لسمعة الإسلام والمسلمين، وتوصل إلى أكل أموال الناس بالباطل إذا ترتب على هذا الزواج الصوري الحصول على امتيازات مالية.
فلأجل هذه الفاسد حَكَمَ المجمع بتحريم الزواج الصوري، لكنه فَصَّلَ في صحته أو بطلانه، وأَرشد إلى البديل الحلال.
ومع التسليم بشيء غير قليل من هذه الأسباب والتعليلات إلا أن ثمة مناقشات قد وَرَدَتْ على هذا الحكم، وفيما يلي بعض المناقشات والتعليقات حول تلك الصورتين اللتين شملتهما الفتيا المحرِّمة.
أولًا: يُسَلِّمُ الجميع بحرمة الزواجِ وبطلانه وعدم انعقاده، بل وكفر من استباحت الزواج من غير مسلم، كتابيًّا كان أو غيرَ كتابي، إذا كانت عالمة عامدة لا شبهة عندها.
حيث انعقد الإجماع على حرمة زواج المسلمة بغير المسلم، فإن هي أقامت هذا التعاقد فإنها تتعرض لجملة مفاسد، منها: أنها لا تستطيع الامتناع عنه إن هو راودها؛ إذ هي زوجة بحكم القانون.
وما من شك أنها أضعف طرفي هذه العلاقة من جهة كونها امرأةَّ، ومن جهة عدم قانونية إقامتها بتلك البلاد إلَّا عن طريق تلك الإقامة المبنية على عقد زواجها المدني الباطل شرعًا بالإجماع، وقال تعالى:{وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 221]، قال تعالى:{فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] وعليه فلا اختلاف بين أهل العلم على حكم هذه الصورة، قال القرطبي:"وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه"(1)، وفي موسوعة الإجماع:"الإجماع على تحريم نكاح الكافر للمرأة المسلمة"(2)، وبهذا أفتى المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي (3).
ثانيًا: يُتفق مع هذه الفتيا في حَقِّ زواج المسلم من الحربية في دار الحرب، فإن الراجح هو حرمة هذا الزواج ولو قصد إليه الزوج، وفساده إذا وقع، فإن المختار في هذا السياق الزماني والأحوال المعاصرة حرمة نكاح الحربية من أهل الكتاب والإقامة بها في دار الحرب، وقد نصَّ كثير من أهل العلم على ذلك.
ونصُّوا على دُورِ حربٍ في زمانهم، ولا يبعد القول بزيادة عدد هذه الدور بزيادة عدد الدول المحاربة للإسلام فعلًا وفي مواقع كثيرة، بنفسها وبغيرها.
وإلا فماذا تفعل الجيوش الأمريكية والبريطانية اليوم بديارنا في العراق وأفغانستان، ومن الذي يظاهر الكيان الصهيوني على أرض فلسطين المباركة؟!
ثالثًا: على قول من يجيز نكاح الكتابية الحربية في دار الحرب مع الكراهة الشديدة فإنه يشترط أن تكون متدينة بدين أهل الكتاب، ولو كان محرَّفًا، لا أن تكون وثنية، أو لا دينية ملحدة، وعليه فالإجماع منعقد أيضًا على حرمة نكاح المشركة البوذية، أو الهندوسية، أو
(1) تفسير القرطبي، (3/ 72).
(2)
موسوعة الإجماع، لسعدي أبي جيب، (2/ 1196).
(3)
مجلة المجمع، العدد الثالث، (2/ 1399).
اللادينية الملحدة، ومن لا ينتسبون إلى اليهودية أو النصرانية بحال من الأحوال.
رابعًا: صورة الزواج المدني الذي تتولاه المحاكم خارج ديار الإسلام، واستنادًا إلى قوانين تلك الديار الوضعية لا ينعقد به نكاح شرعًا؛ وذلك لأمور اجتمعت فيه، بحيث لم يقل فقيه واحد بصحة العقد مع اجتماع تلك المخالفات في عقد واحد، وهذه المخالفات هي:
1 -
خلو العقد عن الولي، على اعتبار أن المرأة إذا بلغت سنَّ الرشد فإنها تزوج نفسها.
2 -
يُكتفَى في هذا العقد المدني بشاهد غير مسلم.
3 -
يخلو هذا العقد عن المهر فلا يشار إليه أصلًا.
4 -
لا يتضمن تلفظًا بإيجاب أو قبول، وإنما هي أوراق تكتب وإجراءات تعمل.
5 -
لا يتضمن مثل هذا العقد إشهارًا، أو إعلانًا في طريقة إجرائه.
ومعلوم أن الجمهورَ يمنعون صحةَ الزواج إذا خلا عن ولي خلافًا للحنفية (1).
وأنهم لا يجيزون نكاح السرِّ أو نكاحًا خلا عن الشهود واتُّفِقَ على كتمِهِ (2) وأنهم أجمعوا على أن شهادة غير المسلمين على عقد نكاح المسلمين غير مقبولة، وأجاز أبو حنيفة وأبو يوسف شهادة الكتابيين على زواج مسلم من كتابية (3).
كما اتفقوا على أن المهر شرط من شروط العقد، وليس لها ولا لزوجها التراضي على تركه والتواطؤ على إسقاطه إلا بعد تحققه وثبوته، وعليه فلا يوجد من يبيح أو يصحح عقدًا اشتمل على هذه المفاسد مجتمعة دفعة واحدة في عقد واحد.
وعليه: فإذا اجتمعت تلك المفاسد في مثل هذه العقود فإنها فاسدة باطلة، لا أثر
(1) بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 247)، البحر الرائق، لابن نجيم، (3/ 117).
(2)
بداية المجتهد، لابن رشد، (2/ 17)، موسوعة الإجماع، لسعدي أبي جيب، (2/ 1187).
(3)
المبسوط، للسرخسي، (5/ 33)، البحر الرائق، لابن نجيم، (3/ 97).
ينعقد أو يترتب عليها، ويكون ضربًا من العبث أو التلاعب.
وهذا التوثيق المدني أو العقد المدني لا يوجب للعقد تصحيحًا من الناحية الشرعية.
وعليه: فمن اقتصر عليه سواء لتحصيل الإقامة أو لغير ذلك من المقاصد المقبولة شرعًا فإنه لا ينعقد شرعًا، ولا يستباح به ما كان محرَّمًا قبله.
وعليه: فمن احتاج إلى هذا التوثيق فلا بد من أن يجري العقد بعد ذلك بصيغة شرعية تتضمن أركان العقد وواجباته وشروطه، ولا شك أن التوثيق لا صلة له بصحة العقد.
خامسًا: كثيرًا ما يتضمن هذا العقد تأقيتًا عند إبرامه وعقده، فينقلب مباشرة إلى نكاح مؤقت فيكون متعة باطلة، فإذا تأقت عقد النكاح بطل عند أهل السنة بالإجماع.
وقال القاضي عياض: "وقع الإجماع على تحريمها من جميع العلماء"(1).
وقال المازري: "انعقد الإجماع على تحريمه"(2).
وفي البحر الرائق: "إجماع الصحابة على حرمته، وما نقل عن ابن عباس من إباحتها فقد صح رجوعه"(3).
وقال ابن بطال: "وأجمعوا على أنه متى وقع الآن أُبطل، سواء قبل الدخول أم بعده"(4).
وفي موسوعة الإجماع: "الإجماع على تحريم نكاح المتعة"(5).
وبناءً على ذلك فكل نكاح كان إلى أجل مؤقت فهو شبيه بنكاح المتعة، سواء أكان المقصود منه تحصيل المتعة أو شيئًا آخر كحلِّ المطلقة ثلاثًا لزوجها الأول، أو تحصيل منفعة دنيوية، وهو محرم وباطل بالإجماع بعد الكتاب والسنة.
(1) شرح صحيح مسلم، للنووي، (9/ 181) بتصرف.
(2)
المرجع السابق، (9/ 179).
(3)
البحر الرائق، لابن نجيم، (3/ 115) باختصار.
(4)
فتح الباري، لابن حجر، (9/ 173).
(5)
موسوعة الإجماع، لسعدي أبي جيب، (2/ 1207).
سادسًا: إذا استجمع العقد المدني أسباب الصحة وكانت المرأة ممن يصلح نكاحها من أهل الكتاب بالشروط المعتبرة، ولم تكن من أهل دار الحرب، وخلت عن سائر الموانع، ثم أراد رجل مسلم أن يتزوجها بعد اتفاقٍ قبل العقد على مقصوده من تحصيل الإقامة بتلك البلد للحاجة المشروعة والمعتبرة شرعًا، فتواطآ على هذا الشرط قبل العقد، ثم خلا العقد عند إبرامه عن هذا الشرط فما حكم النكاح؟
تقدَّم أن جهتين كبيرتين أفتتا ببطلان هذا العقد وفساده وأنهما بَنَتَا الحرمةَ والفسادَ على أمورٍ ذُكِرَتْ آنفًا.
ومن تلك العلل: أن النكاح لم يشرع لتحصيلِ مقاصدَ كهذه التي ذُكِرَتْ من طلب الإقامة ونحوها، وأن الزواج إنما شرع للبقاء والديمومة، وهذا الصوري ينافي ذلك.
وقد يُنَاقَشُ هذا القول بأن "بطلان هذا العقد ليس صحيحًا؛ فالزواج في الإسلام ليس مقصودًا منه الديمومة والبقاء، وإنما له قصود مختلفة، ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "تنكح المرأة لأربع خصال؛ لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها. . . " (1).
وقد ذكر الشاطبي قصودًا كثيرة قائمة من الحديث؛ كالتناسل القائم من حديث: "تزوجوا الولود الودود"(2)، والقيام على مصالح الزواج القائم من حديث جابر (3).
ولهذا. . . فلا عبرة بقصد الطلاق عند النكاح؛ لتحقق هذه القصود أو بعضها بالنكاح، وفي هذا قال الشاطبي:
(1) سبق تخربِحه.
(2)
أخرجه: أبو داود، كتاب النكاح، باب: من تزوج الولود، (2050)، والنسائي، كتاب النكاح، باب: كراهية تزويج العقيم، من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه مرفوعًا. وقال الحاكم في المستدرك، (2/ 162): هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذا السياق، ووافقه الذهبي.
(3)
أخرجه: البخاري، كتاب البيوع، باب: شراء الحمير والدواب. . .، (2097)، ومسلم، كتاب الرضاع، باب: استحباب نكاح البكر، (715).
"الأسباب -من حيث هي أسباب شرعية لمسببات- إنما شُرعت لتحصيل مسبباتها، وهي المصالح المجتلبة، أو المفاسد المستدفعة.
والمسببات بالنظر إلى أسبابها ضربان:
أحدهما: ما شرعت الأسباب لها إمَّا بالقصد الأول، وهي مُتعلق المقاصد الأصلية، أو المقاصد الأُوَل أيضًا، وإما بالقصد الثاني، وهي متعلق المقاصد التابعة، وكلا الضربين مبين في كتاب المقاصد.
والثاني: ما سوى ذلك، مما يُعْلَمُ أو يُظَنُّ أن الأسباب لم تُشرع لها، أو لا يعلم ولا يظن أما شُرِعَتْ لها، أو لم تُشرع لها؛ فتجيء الأقسام ثلاثة:
أحدها: ما يُعلم أو يُظن أن السبب شرع لأجله؛ فَتَسَبُّبُ المتسبِبِ فيه صحيح؛ لأنه أتى من بابه، وتوسل إليه بما أَذِنَ الشارع في التوسل به إلى ما أذن أيضًا في التوسل إليه؛ لأنا فرضنا أن الشارع قصد بالنكاح -مثلًا- التناسل أولًا، ثم يتبعه اتخاذ السكن، ومصاهرة أهل المرأة لشرفهم أو دينهم، أو نحو ذلك، أو الخدمة، أو القيام على مصالحه، أو التمتع بما أحل الله من النساء، أو التجمل بمال المرأة، أو الرغبة في جمالها، أو الغبطة بدينها، أو التعفف عما حرم الله، أو نحو ذلك، حسبما دلت عليه الشريعة. . . فصار إِذَنْ ما قصده هذا المتسبب مقصود الشارع على الجملة، وهذا كافٍ، وقد تبين في كتاب المقاصد: أن القصد المطابق لقصد الشارع هو الصحيح، فلا سبيل إلى القول بفساد هذا التسبُّبِ" (1).
"وفي مذهب مالك من هذا كثير جدًّا؛ ففي (المدونة) فيمن نكح وفي نفسه أن يفارق: أنه ليس من نكاح المتعة، فإذا تزوج المرأة ليمين لزمته أن يتزوجَ على امرأته، فقد فرضوا
(1) الموافقات، للشاطبي، (1/ 243 - 244).
المسألة، وقال مالك: إن النكاح حلال، فإن شاء أن يقيم عليه أقام، وإن شاء أن يفارق فارق، وقال ابن القاسم: وهو مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم مما علمنا أو سمعنا.
قال: وهو عندنا نكاح ثابت: الذي يتزوج يريد أن يَبَرَّ في يمينه، وهو بمنزلة من يتزوج المرأة للذة يريد أن يصيب منها، لا يريد حبسها، ولا ينوي ذلك، على ذلك نيته وإضماره في تزويجها، فأمرُهما واحد، فإن شاءا أن يقيما أقاما؛ لأن أصل النكاح حلال. ذكر هذا في (المبسوطة).
وفي (الكافي) في الذي يقدم البلدة، فيتزوج المرأة ومِن نيته أن يطلقها بعد السفر: أن قول الجمهور جوازه.
وذكر ابن العربي مبالغة مالك في منع نكاح المتعة، وأنه لا يجيزه بالنية؛ كأن يتزوجها بقصد الإقامة معها مدة، وإن لم يلفظ بذلك، ثم قال: وأجازه سائر العلماء، ومثَّلَ بنكاح المسافرين، قال: وعندي أن النية لا تؤثر في ذلك، فإنا لو ألزمناه أن ينوي بقلبه النكاح الأبدي. . . لكان نكاحًا نصرانيًّا، فإذا سلِم لفظه لم تضره نيته، ألا ترى أن الرجل يتزوج على حسن العشرة، ورجاء الأدمة، فإن وجدها وإلَّا فارق، كذلك يتزوج على تحصيل العصمة فإن اغتبط ارتبط، وإن كره فارق، وهذا كلامه في كتاب (الناسخ والمنسوخ).
وحكى اللخمي (1) عن مالك: فمن نكح لغربة أو لهوى؛ ليقضي إربه ويفارق فلا بأس.
فهذه مسائل دلَّتْ على خلاف ما تقدَّم في القاعدة المستدل عليها، وأشدها مسألة حل اليمين؛ لأنه لم يقصد النكاح رغبة فيها، وإنما قصد أن يَبَرَّ في يمينه، ولم يشرع النكاح لمثل هذا.
ونظائر ذلك كثيرة، وجميعها صحيح مع القصد المخالف لقصد الشارع، وما ذلك
(1) أبو الحسن، علي بن محمد الربعي، اللخمي، كان فقيهًا فاضلًا دَيِّنًا مفتيًا متفننًا، ذا حظ من الأدب والحديث، جيد النظر، حسن الفقه، جيد الفهم، توفي سنة 478 هـ ترتيب المدارك، للقاضي عياض، (8/ 109)، الأعلام، للزركلي، (4/ 328).
إلَّا لأنه قاصد للنكاح أولًا، ثم الفراق ثانيًا، وهما قصدان غير متلازمين، وإلَّا فإن جعلتهما متلازمين في المسألة الأولى بحيث يؤثر أحدهما في الآخر فليكن كذلك في هذه المسائل، وحينئذٍ يبطل جميع ما تقدم.
فعلى الجملة: يلزم إما بطلان هذا كله، وإما بطلان ما تقدم" (1).
قال الشيخ عليش (2): "حقيقة نكاح المتعة الذي يفسخ مطلقًا النكاح الذي ذكر الأجل عند عقده للولي أو للمرأة أو لهما معًا، وأما إن لم يذكر ذلك، ولم يشترط، وقصده الزوج في نفسه وفهمت المرأة ووليها منه ذلك -فإنه يجوز، قاله الإمام مالك رضي الله عنه، وهي فائدة جليلة تنفع المتغرب. . . وصدر الشارح في شروحه وشامله بفساده أيضًا، ثم حكى عن الإمام الصحة فإن لم تفهم المرأة ما أراد الزوج صح اتفاقًا"(3)(4).
وعند الشافعية: "وإن قدم رجل بلدًا، وأَحَبَّ أن ينكح امرأة ونيته ونيتها أن لا يمسكها إلا مقامه بالبلد، أو يومًا، أو اثنين، أو ثلاثة كانت على هذا نيته دون نيتها، أو نيتها دون نيته، أو نيتهما معًا دون نية الولي، غير أنهما إذا عقدا النكاح مطلقًا لا شرط فيه، فالنكاح ثابت، ولا تفسد النية من النكاح شيئًا؛ لأن النية حديث نفس، وقد وُضع عن الناس ما حدثوا به أنفسهم"(5).
وعند الحنابلة: "وإن تزوجها بغير شرط إلا أن في نيته طلاقها بعد شهر، أو إذا
(1) الموافقات، للشاطبي، (1/ 247 - 248).
(2)
أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن محمد، عليش، فقيه من أعيان المالكية، من مصنفاته: فتح الجليل على شرح ابن عقيل، فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك، منح الجليل على مختصر خليل، وغير ذلك، ولد سنة 1217 هـ، وتوفي سنة 1299 هـ. الأعلام، للزركلي، (6/ 19)، معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (9/ 12).
(3)
منح الجليل، لعليش، (3/ 304).
(4)
صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 430 - 432).
(5)
الأم، للشافعي، (6/ 206).