الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: ضوابط الإفادة من المذاهب الفقهية في الحكم على النوازل
.
بعد أن تقررت أصول الأئمة الأربعة بشيء من الإيضاح وبان اتفاق الجميع على مرجعية الكتاب والسنة، وما استند إليهما من الإجماع، أو القياس، وتميزت ملامح اجتهاد كل مدرسة في التعامل مع الكتاب والسنة في دلالات ألفاظها وموقف كلٍّ من أحاديث الآحاد، والمراسيل، والحديث الضعيف، ورتبة ذلك في سُلَّم أولويات الاستنباط، والموقف من القياس وسائر الأدلة المختلف فيها؛ كالاستحسان، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، وقول الصحابي وغيرها -فقد تكشف البحث عن جملة حقائق مهمة:
أولاها: مذاهب الفقهاء الأربعة المتبوعين مناهج وطرق مشروعة لاستنباط أحكام الحوادث ومعرفة ما يجب حيال النوازل، وهي مدارس للتعلم وطرق للتعبد.
قال الشاطبي: "إذا ثبت أن الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع، وهو الذي كان عليه السلف الصالح فلينظر المقلد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق فهو أحق بالاتباع وأولى بالاعتبار، وإن كانت المذاهب كلها طرقًا إلى الله تعالى، ولكن الترجيح فيها لا بد منه؛ لأنه أبعد من اتباع الهوى، وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد"(1).
ثانيها: اعتمدت المذاهب جميعًا -على تفاوت بينها- النظر إلى المقاصد والمصالح، فمن متوسع في الأخذ بها متعمق في أغاويرها، دائر مع إيرادها وصدرها، ومن متشبث بالنصوص متمسك بأهدابها؛ فالتباين إنما هو في التنائي عن النص والشسوع عنه، أو اللياطة به واللصوق (2).
ثالثها: كل المذاهب -بدون استثناء- اعتمدت قادة مجتهدين، ومجتهدي مذهب، ومقلدين متبصرين، ومقلدين ناقلين، وجعلت مَنْ سلك سبيلهم من عوام المسلمين في
(1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 260 - 261).
(2)
صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 144).
سعة من دينه، وسداد في أمره.
كما أنها اعتمدت ما اشتهر من أقوال هؤلاء وتَرَجَّحَ، غير أنها ذكرت جواز العمل بغير الراجح وبغير المشهور منها؛ لضرورة أو حاجة تنزل منزلتها بضوابط معلومة، منها: عروض مصلحة تُستجلب، أو مفسدة تُستدفع، أو إحراز رفق بالعباد، أو تحقيق تيسير على الناس، وقد ذكر السبكي في فتاويه أنه يجوز تقليد الوجه الضعيف في نفس الأمر بالنسبة للعمل في حق نفسه، لا الفتوى والحكم، فقد نقل ابن الصلاح الإجماع على أنه لا يجوز (1).
وعند المالكية اشترطوا ألَّا يكون القول ضعيفًا جدًّا، وأن تثبت نسبته إلى قائل يُقْتَدَى به علمًا وورعًا، وأن تكون الضرورة محققةً، لا متوهمةً (2).
وقد نقل ابن عابدين جواز العمل بالقول الضعيف للمصلحة، وفي موضع ضرورة طلبًا للتيسير، وقال:"وبه عُلِمَ أن المضطر له العمل بذلك لنفسه كما قلنا، وأن المفتي له الإفتاء به للمضطر، وينبغي أن يلحق بالضرورة -أيضًا- ما قدمناه من أنه لا يُفْتَى بكفر مسلم في كفره اختلافٌ، ولو رواية ضعيفة؛ فقد عدلوا عن الإفتاء بالصحيح؛ لأن الكفر شيء عظيم"(3).
وقد حقَّق بعض الباحثين جواز العمل بالمرجوح والأخذ به عند الضرورة والحاجة التي تنزل منزلتها؛ وذلك لدفع مفسدة تعتبر شرعًا، لا لجلب مصلحة؛ استنادًا إلى أن الضرورات تبيح المحظورات، وجواز ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما قال القرافي رحمه الله: "إذا رأينا من فعل شيئًا مختلفًا في تحريمه وتحليله، وهو يعتقد تحريمه
(1) فتاوي السبكي، لتقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي، دار المعرفة، بيروت، (2/ 12)، نهاية المحتاج، للرملي، (1/ 47).
(2)
حاشية الدسوقي على الدردير، (4/ 130)، نشر البنود، لعبد الله الشنقيطي، (2/ 275 - 276).
(3)
شرح عقود رسم المفتي، لابن عابدين، (1/ 50).