الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
راجحة وإفضاؤه قريبًا بكثرة أو غلبة فمنعها وتحريمها متجه (1).
وفي بلاد الأقليات يحتاج إلى هذه القاعدة سدًّا للذريعة، وأحيانًا فتحًا لها؛ لتحصيل مصالح أو لدفع مفاسد قد لا تتأتَّى إلا من خلال إعمال هذه القاعدة.
حادي عشر: شرع مَنْ قبلنا:
يقصد بشرع من قبلنا: الأحكام التي سنَّها الله تعالى لعباده على ألسنة الرسل المتقدمين على نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فيدخل في ذلك الشرائع الكتابية من يهودية ونصرانية، وغيرها من الشرائع (2).
وقد اختلف في شرع من قبلنا من حيث حجيته إلى ثلاثة أقسام؛ واسطةٍ وطرفين، طرف يكون فيه شرعًا لنا إجماعًا، وآخر لا يكون شرعًا لنا إجماعًا، وواسطة اختلفوا فيها (3).
فأما الأول: فما هو شرع لنا إجماعًا، وهو ما ثبت في شرعنا، وعليه فالحجة قائمة على مشروعيته من شريعتنا أولًا:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183].
وأما الثاني: فما ليس بشرع لنا إجماعًا وهو أمران:
أولهما: ما ثبت في شرعنا النهي عنه، أو نسخه ورفعه؛ كالآصار والأغلال التي كانت على من سبقنا من الأمم؛ قال تعالى {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]؛ قال الله تعالى: قدْ فَعَلْتُ (4).
ثانيهما: ما لم يثبت أنه كان شرعًا لمن قبلنا؛ كالمتلقَّى من الإسرائيليات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم
(1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 136)، الموافقات، للشاطبي، (2/ 359) وما بعدها.
(2)
المسودة، لآل تيمية، (ص 193).
(3)
أضواء البيان، للشنقيطي، (6/ 86)، الوجيز في أصول الفقه، د. عبد الكريم زيدان، دار الرسالة، بيروت، (ص 263 - 264).
(4)
أخرجه: مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، (126)، من حيث ابن عباس رضي الله عنهما.
نهانا عن تصديقهم وتكذبيهم فيها (1)، وما نهانا صلى الله عليه وسلم عن التصديق به لا يكون مشروعًا بالإجماع (2).
وأما الثالث فهو محل الخلاف: وهو ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لمن قبلنا، ولم يبين لنا في شرعنا أنه مشروع لنا، أم غير مشروع، وقد جرى الخلاف في هذه المسألة على قولين:
أولهما: شرع من قبلنا شرع لنا:
وهو مذهب جمهور الحنفية، وقول الشافعي، وأحمد في أصح الروايتين، وعليها أكثر أصحابه (3). وعزاه ابن تيمية إلى جماهير السلف والأئمة (4).
الثاني: شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا:
وهو قول كثير من الشافعية؛ كالغزالي والرازي والآمدي، ورواية عن أحمد (5).
واستدلَّ كل فريق بأدلة من الكتاب، والسنة، والنظر العقلي.
وعلى ترجيح القول الأول الذي قال به الأكثر فإن الخلاف فيما يبدو لا يترتب عليه كبير أثر في العمل؛ لأن المثبتين له يشترطون كونه ثابتًا بكتاب الله، أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فلا
(1) أخرجه: أبو داود، كتاب العلم، باب: رواية حديث أهل الكتاب، (3644)، والإمام أحمد في "مسنده"، (4/ 136)، وغيرهما، من حديث أبي نملة الأنصاري رضي الله عنه قال: بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده رجل من اليهود، مر بجنازة، فقال: يا محمد؛ هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أعلم! فقال اليهودي: إنها تتكلم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم؛ وقولوا: آمنا بالله ورسله، فإن كان باطلًا لم تصدقوه، وإن كان حقًّا لم تكذبوه". وصححه ابن حبان (14/ 151).
(2)
أضواء البيان، للشنقيطي، (6/ 86).
(3)
أصول السرخسي، (2/ 104)، أحكام القرآن، لابن العربي، (1/ 38)، التمهيد، للإسنوي، (441)، الإبهاج، لابن السبكي، (2/ 276)، روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 160 - 161)، المسودة، لآل تيمية، (ص 193).
(4)
دقائق التفسير الجامع لتفسير ابن تيمية، جمع وتحقيق: د. محمد السيد الجليند، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، ط 2، 1404 هـ - 1984 م، (2/ 55).
(5)
التبصرة في أصول الفقه، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، تحقيق: د. محمد حسن هيتو، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1980 م، (ص 285)، المستصفى، للغزالي، (1/ 165)، الإحكام، للآمدي، (4/ 147)، روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 161).
يرد عليهم أن تلك الشرائع السابقة قد اعتراها تحريف أو تبديل.
وبالجملة فما من حكم من أحكام الشرائع السابقة قصَّهُ الله تعالى علينا، أو بينه الرسول صلى الله عليه وسلم لنا إلا وفي شريعتنا ما يدلُّ على نسخه أو بقائه في حقنا (1).
ومما يرجح القول الأول أن في الأخذ به إثراءً للفقه الإسلامي وتأهيلًا لاستيعاب الوقائع والنوازل، وتنوعًا لمدارك الأحكام في الفقه، ولقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم خير الصيام وأفضله لبعض أصحابه، وبيَّن أنه صيام داود عليه السلام (2)، كما قصَّ النبي صلى الله عليه وسلم قصة سليمان مع المرأتين اللتين اختصمتا إلى سليمان بعد أبيه عليهما السلام (3)، والقصة من جملة شريعة مَنْ سبقنا، ومع هذا فإن شراح الحديث استنبطوا من تلك القصة فوائدَ، حتى إن ابن القيم ذكر خمسًا من السنن في ذلك الحديث (4).
ومما يجدر التنبيه إليه: أن بعض المقيمين بديار الأقليات بالغرب دعا إلى مراجعة نقدية للفقه الموروث، مطالبًا بتنقية الفقه مما علق به وأُدخل فيه مما ليس منه عند التحقيق.
ويضرب لما أراد مثلًا فيقول معلقًا على قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}
(1) الوجيز في أصول الفقه، لعبد الكريم زيدان، (ص 265).
(2)
أخرجه: البخاري، كتاب التهجد، باب: مَن نام عند السحر، (1131)، ومسلم، كتاب الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوَّت به حقَّا أو. . .، (1159)، من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:"أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحب الصيام إلى الله صيام داود: وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، ويصوم يومًا ويفطر يومًا".
(3)
أخرجه: البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30]. . .، (3427)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب: بيان اختلاف المجتهدين، (1720)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما؛ فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك! فتحاكمتا إلى داود؛ فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما! فقالت الصغرى: لا، يرحمك الله! هو ابنها! فقضى به للصغرى". وهذا لفظ مسلم.
(4)
الطرق الحكمية، لابن القيم، (ص 8 - 10).
[المائدة: 45]: "إذا ببعض الفقهاء يذهبون إلى الأخذ بمنطوق الآية بناءً على قاعدة: شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يَرِدْ ناسخ، أو على عموم النص لنا ولهم، أو على غيرها من أصول، مع نسيان مفهوم الهيمنة القرآنية، والتصديق، ونسخ شرعة الآصار والأغلال؛ فقرروا القصاص في الجروح، فوقعوا وأوقعوا الأمة معهم في حرج كبير"(1).
ولا شك في أن هذا الكلام ينطوي على مفاسدَ ظاهرةٍ؛ فإن فقهاءَنا حين قرروا ذلك الحكمَ قرروه استنادًا إلى آيات وأحاديث عدَّة، فبخلاف الآية المذكورة: قول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص في كسر ثنية جارية كسرت ثنيتها الرُّبَيِّعُ رضي الله عنها، وقال:"كتاب الله القصاص"(2).
أي: حكم كتاب الله وجوب القصاص في السن (3).
وقد نقل الإجماعَ غيرُ واحد من الأئمة على إعمال الآية المذكورة في شريعتنا؛ كابن تيمية (4) وابن كثير (5) وابن عبد البر (6).
على أن الفقهاء حين قالوا بوجوب القصاص في الجروح قالوا بذلك بشروط ثلاثة:
(1) مقاصد الشريعة، لطه جابر العلواني، دار الهادي، بيروت، ط 1، 1421 هـ - 2001 م، (ص 46).
(2)
أخرجه: البخاري، كتاب الصلح، باب: الصلح في الدية، (2703)، من حديث أنس رضي الله عنه أنَّ الربيع -وهي ابنة النضر- كسرت ثنية جارية، فطلبوا الأرش وطلبوا العفو؛ فأبوا! فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالقصاص؛ فقال أنس ابن النضر: أتكسر ثنية الربيع يا رسول الله؟! لا -والذي بعثك بالحق- لا تكسر ثنيتها! فقال: "يا أنس كتابَ الله القصاص"؛ فرضي القوم. . . الحديث. وهو في مسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها، (1675)، من حديث أنس رضي الله عنه أيضًا، بنحو هذه القصة، إلا أنَّ بينهما اختلافًا، راجعه في "جامع الأصول"، (10/ 270) -مع تعليق الإمام ابن الأثير رحمه الله عليه-.
(3)
شرح صحيح مسلم، للنووي، (11/ 163).
(4)
مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (14/ 76).
(5)
تفسير ابن كثير، (3/ 121).
(6)
الاستذكار، لابن عبد البر، (8/ 167، 183، 187)، المغني، لابن قدامة، (11/ 530 - 531).