الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فقال:"يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته، ثم يريد أن يفرق بينهما، إنما الطلاق لمن أخذ بالساق"(1)، ومعنى الحديث: أن الطلاق حقُّ الزوج، الذي له أن يأخذ بساق المرأة لا حقَّ غيرِهِ، لكن أباح الشرع أن يُطَلِّقَ القاضي نيابةً عن الزوج، إذا كان الزوج عاجزًا عن الطلاق، أو ممتنعًا منه، وكان في بقاء عصمة الزوجية ضررٌ أو ضرارٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضررَ ولا ضرارَ"(2).
فللقاضي المسلم في بعض الأحوال أن يطلق على الزوج للإعسار في النفقة، أو الغيبة المنقطعة، أو الأسر والسجن، ونحو ذلك.
قال في الفتح: "والوطءُ والإسكانُ وغيرُهما من حقوق الزوج إذا شُرِطَ عليه إسقاطُ شيءٍ منها كان شرطًا ليس في كتاب الله فَيَبْطُلُ"(3)؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل، وإن كان مائة شرط"(4).
ولأن الاحتكام المذكور والرضى به ليس متَّفَقًا على جوازه، وإنما له صور كثيرة يتردَّدُ حكمُها بين الكفر والفسق وبين الجوازِ للضرورة.
فالاحتكام قد يكون:
كفرًا: إذا كان عن رضًا وقبولٍ؛ لأن حقيقة الإيمان هي التصديق والانقياد، ومن لم
(1) أخرجه ابن ماجة، كتاب الطلاق، باب: طلاق العبد، (2081)، والبيهقي في "الكبرى"، كتاب الخلع والطلاق، باب: طلاق العبد بغير إذن سيده، (7/ 360)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وحسنه الشيخ الألباني في "الإرواء"، (2041).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
فتح الباري، لابن حجر، (9/ 219).
(4)
أخرجه البخاري، كتاب المكاتب، باب: ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطًا ليس في كتاب الله، (2561)، ومسلم، كتاب العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق، (1504) -واللفظ له- من حديث أم المؤمنين عائشة في قصة بريرة المشهورة رضي الله عنهما.
يَحْصُلْ في قلبه التصديقُ والانقيادُ فهو غير مسلم (1).
قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّساء: 65].
قال ابن كثير رحمه الله: "يُقسم -تعالى- بنفسه الكريمة المقدسة ألَّا يُؤْمِنَ أحدٌ حتى يُحَكِّمَ الرسولَ صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور. . . "(2).
كما يقول رحمه الله: "فمن ترك الشرعَ المحكمَ المنزلَ على محمد بن عبد الله خاتمِ الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كَفَرَ، فكيف بمن تحاكم إلى اليَاسَا (3)، وقدَّمَهَا عليه؟ مَنْ فَعَلَ ذلك كَفَرَ بإجماع المسلمين"(4).
أو فسقًا: قال ابن تيمية -في شرح قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} [التوبة: 31]-: "إن هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم يكونون على وجهين. . . فذكر الأولَ وحكمَهُ، ثم قال: الثاني: أن يكون اعتقادُهُمْ وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتًا (5)، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصٍ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب"(6).
أو جائزًا للاضطرار: "ولا يلزم من هذا أن كلَّ مَنْ تحاكَمَ إلى المحاكم التي تحكم بالقوانين الوضعية لا بُدَّ أن يكون كافرًا، بل قد يُضطر المسلم لتخليص حقوقِهِ ونحو ذلك إلى التحاكم
(1) تحكيم الشريعة وصلته بالدين، د. صلاح الصاوي، (ص 13).
(2)
تفسير ابن كثير، (2/ 349).
(3)
اسم كتاب جنكيز خان الذي وضعه ليكون قانونًا يتبعه اتباعه وأولاده من بعده.
(4)
البداية والنهاية، للإمام ابن كثير، (17/ 162 - 163).
(5)
كذا بالأصل ولعله تصحيف من النساخ والأظهر أن العبارة هي "بتحريم الحرام وتحليل الحلال". صيانة مجموع الفتاوي، لناصر بن حمد الفهد، أضواء السلف، الرياض، ط 1، 1423 هـ - 2003 م، (ص 59).
(6)
مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (7/ 70).
إليها مع عدم رضاه عنها، فلا يكون كافرًا، بل يكون حكمُهُ حكمَ المضطرِ" (1).
وحتى لا يتعرضَ المضطر للإثم لا بُدَّ أن ينضبطَ بضوابِطِهِ، قال تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173].
وعليه: فإن اللجوء إلى القضاء الوضعيِّ لاستصدارِ حكمٍ بالطلاق من الجهة القانونية لا يكفي للحكم بانحلالِ عقدةِ النكاح وحصولِ الطلاق والفراقِ حتى يُطَلِّقَ الزوجُ بعبارته؛ ذلك أن الطلاق تصرُّفٌ قوليٌّ يُنَاطُ بالزوج؛ لأنه الذي بيده عقدة النكاح.
أوْ لا يتأتَّى أن يطلق الزوج بعبارته لامتناعِهِ أو لغير ذلك من الأسباب، وعندئذٍ يتأتَّى البحث عن جهة شرعية تُنَزَّلُ منزلةَ القاضي المسلم في الحكم بالتفريق، على أن ثمةَ حالاتٍ لا يُحتاجُ معها إلى بحث عن جهة تقوم هذا المقامَ، وهذه الحالات كالتالي:
1 -
إذا تقدَّم الرجل إلى المحكمة بطلب الطلاق، وصدر الحكم، فإن الطلاق يقع؛ لأن طلبه توكيلٌ، ولا يتحمل من الأعباءِ الماليةِ إلَّا مؤخرَ المهرِ، والنفقةِ أثناءَ العدةِ، والمتعة.
فإن فَرَضَتْ عليه المحكمةُ أقلَّ من الواجب الشرعي، فعليهِ أن يُكْمِلَهُ وإنْ فَرَضَتْ عليه أكثر من الواجب الشرعي، فعلى المرأةِ ألَّا تأخذَهُ إلَّا إذا رضي زوجُهَا، وإلَّا أثمتْ بأكلِها الحرامَ (2).
2 -
وإذا كانت المرأة هي الراغبة في الطلاق والطالبة للتفريق بسوءِ معاملتها بما لا يليقُ بمثلها، وصدر الحكم به في المحكمة وَقَعَ الطلاقُ؛ لأنه موافقٌ للشرع، قال ابن رشد رحمه الله:"والسلطان يُطلق بالضرر عند مالكٍ إذا تَبَيَّنَ"(3).
(1) ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة، لعبد الله القرني، (ص 134).
(2)
فقه الأسرة المسلمة ونوازلها في الغرب، عبد الرحمن البرزنجي، دار المحدثين، القاهرة، ط 1، 2008 م، (ص 354 - 355)، أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين في الغرب، د. سالم الرافعي، (ص 619).
(3)
بداية المجتهد، لابن رشد، (2/ 99).
على أن هذه الحالة الثانية فيها المحذورُ المذكورُ آنفًا، وإنْ وافقَ حكمُ القاضي الكافرِ مذهبًا لفقهاءِ المسلمين؛ إذ العلةُ في المنع ليست الموافقةَ أو المخالفةَ، وإنما أصلُ الولاية، والتي لا تكون لكافر على مسلم أو مسلمة.
وهذه الحالة تفارِقُ سابقتَهَا من حيث إن الزوج يقع الطلاق بإذنِهِ وطلبِهِ، ويمكن أن يُشْفِعَهُ بالتلفظ به بعد صدورِهِ لتوثيقه وتأكيده شرعًا.
3 -
وإن كانت الكراهية منهما معًا، فإنْ طَلَبَ الزوج التفريق وَقَعَ؛ لأنه توكيل، وعليه تبعاته، وإن طلبت الزوجة الفُرْقَةَ وصدر الحكم، وَوَقَّعَ عليه الزوج وَقَعَ؛ -لأنه إجازةٌ "والإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة"(1) -، وعليها تبعاته.
وبكلِّ حالٍ فإنه إذا صدر الطلاق ممن يملكه بصيغة شرعية صحيحة، فَلَا مانعَ من توثيقه مدنيًّا أمامَ المحاكمِ المختصَّةِ لحفظ الحقوق؛ إذ لا محذورَ شرعًا في التوثيق بمجرده، بل هو مطلوبٌ لتفادي التبعاتِ والمسئولياتِ التي قد تَنشأ عن بقاء هذا العقدِ قانويًا مع انحلالِهِ شرعًا.
وبناءً على ما سبق فإنه يبقى الأمرُ -في حالة امتناع الزوج عن التطليق مع حكم المحكمة غير المسلمة به- غيرَ معتبرٍ لافتقاد حقيقة الطلاق شرعًا، فإذا امتنع الزوج أو تعذر الوصول إليه فالمصير إلى من يقوم مقامَ القاضي في ديار الأقليات؛ لاستصدار حكم شرعي بالطلاق، وهذا ما سيتناوله المبحث الآتي بإذن الله.
(1) بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 231).