الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
حكم بقاء من أسلمت تحت زوجها الكافر
تصوير المسألة وتكييفها:
بانتشار الدعوة إلى الله في أرجاء الدنيا تزايدَ دخولُ الناس في الإسلام رغبةً ومحبة، والنساء في هذا المجال أكثرُ استجابةً من الرجال، وقد يُسلم الرجل وتبقى زوجه على مِلَّتِها، وقد تُسلم المرأة ويبقى زوجها على مِلَّتِه.
والأمر من جهة الرجل قد يبدو أيسرَ وأقلَّ مؤنةً؛ فإنه إذا كانت زوجته كتابية فله أن يُمسكها ولا يؤثِّر إسلامه في استدامة عقد نكاحه؛ إذ يجوز للمسلم أن يتزوج من الكتابية ابتداءً إذا كانت ذمية، وليست حربية.
كما أن الزوج هو الطرف الأقوى في العلاقة الزوجية، وهو قادر على فكِّ الارتباط، إلا أنه أيضًا يترتب على الطلاق بالنسبة له مفاسدُ يحسن استحضارها، ومنها: أن زوجته الباقية على ملتها من الوثنية أو غيرها من ملل الشرك ستذهب بنصف ثروته، وبأولاده الصغار كحاضنة لهم، وذلك بموجب قوانين تلك البلاد غير المسلمة، وفي هذا من المشقة المالية والمعنوية ما فيه، ولا سيما وأنه يتطلع إلى المحافظة على ذريته، وأن يكونوا معه على الإسلام.
أما في حقِّ المرأة إذا أسلمتْ فإن الوضع يشتدُّ حراجةً فهي مأمورة بمفارقة غير المسلم مطلقًا، وجماهير أهل العلم يُبطلون عقد النكاح بمجرد إسلامها قبل زوجها.
وإذا كانت لا عائلَ لها إلا ذلك الرجل، فإنها تتعرض لمحنة مالية ومعنوية كبيرة، ولا سيما أن بلاد الأقليات لا يتمتع المسلمون فيها بقدرات مالية مميزة تمكِّنهم من إيواء هؤلاء النسوة وإعاشتهن.
وربما كان لها أولاد من ذلك الرجل هي متعلقة بهم، ولا تريد أن تفارقهم، كما تريد أن تقوم بواجب دعوتهم إلى الله، وتنشئتهم على الإسلام.
بل تتطلع أيضًا إلى دعوة ذلك الرجل الذي كانت زوجة له، لعله يدخل في دين الله، فتلتئم بذلك أسرتها، ويجتمع شملها مع زوجها وأولادها وتسعد في دنياها وأخراها.
تحرير محل النزاع:
1 -
وقع الإجماع على حرمة نكاح المشركات مطلقًا (1).
2 -
وقع الإجماع على حرمة نكاح الكافر للمسلمة مطلقًا (2).
3 -
وقع الإجماع على أنهما إذا أسلما معًا فهما على نكاحهما الأول، ما لم يكن بينهما نسب، أو رضاع مطلقًا (3).
قال ابن عبد البر رحمه الله: "أجمع العلماء على أن الزوجين إذا أسلما معًا في حالة واحدة، أن لهما المقام على نكاحهما، ما لم يكن بينهما نسب ولا رضاع"(4)، وقد أسلم خَلْقٌ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ونساؤهم، وأُقِرُّوا على أنكحتهم، ولم يسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شروط النكاح، ولا عن كيفيته، وهذا أمرٌ عُلِمَ بالتواتر والضرورة، فكان يقينًا (5).
4 -
وقع الإجماع على أنه إذا أسلم الزوج وكانت زوجه كتابية أنهما على نكاحهما الأول (6).
(1) الأم، للشافعي، (6/ 14)، البحر الرائق، لابن نجيم، (3/ 110)، تفسير القرطبي، (3/ 71)، المغني، لابن قدامة، (9/ 548)، موسوعة الإجماع، لسعدي أبي جيب، (2/ 1144)، الفتاوي، للشيخ شلتوت، (276)، مجلة المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، (2/ 1399).
(2)
قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية، لمحمد بن أحمد بن جُزي الغرناطي المالكي، تحقيق: عبد الرحمن حسن محمود، دار عالم الفكر، القاهرة، ط 1، 1406 هـ -1985 م، (ص 195)، الأم، للشافعي، (6/ 14)، الإقناع، للحجاوي، (3/ 186)، المبسوط، للسرخسي، (5/ 45).
(3)
بدائع الصنائع، للكاساني، (7/ 136)، بداية المجتهد، لابن رشد، (2/ 48)، تحفة المحتاج، للهيتمي، (7/ 329)، المغني، لابن قدامة، (10/ 7)، التمهيد، لابن عبد البر، (12/ 23).
(4)
التمهيد، لابن عبد البر، (12/ 23).
(5)
أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 641).
(6)
التمهيد، لابن عبد البر، (12/ 23)، أحكام أهل الذمّة، لابن القيم، (2/ 640)، المغني، لابن قدامة، (10/ 32).
5 -
وقع الإجماع على أنه بمجرد إسلام المرأة فقد حرم الجماع بينهما إذا كان الزوج وثنيًّا ووجب التفريقُ الحسيُّ.
قال الشافعي -رحمه الله تعالى- في كتاب الأم: "الناس لا يختلفون في أنه ليس له أن يطأها في تلك الحال إذا كانت وثنية"(1)، وقال البيهقي في السنن الكبرى:"باب الزوجين الوثنيين يسلم أحدهما فالجماع ممنوع حتى يسلم المتخلف منهما؛ لقول الله عز وجل: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، وقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] "(2).
وقال القرطبي رحمه الله: "وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه؛ لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام"(3).
وإن مما يجدر ذكره هنا -قبل الدخول في سرد مذاهب الفقهاء- رحمهم الله -في أثر إسلام أحد الزوجين، وبقاء الآخر مصرًّا على كفره- أنهم جميعًا -بعد نزول آية الممتحنة- يتفقون على أنه بإسلام أحد الزوجين وبقاء الآخر على الكفر تتوقف الحياة الزوجية بين الزوج الكافر والزوجة المؤمنة، وتتوقف الحياة الزوجية بين الزوج المؤمن والزوجة الوثنية الكافرة، فلا جماع ولا انكشاف ولا إنجاب، ولا أي شيء من المسِّ، ولا أي شيء من دواعي الجماع بينهما، ولا يحقُّ للكافر الوثني أن يعود إلى الحياة الزوجية ما دام على كفره، وإنما يحقُّ أن يعود إلى الحياة الزوجية إذا أسلم فرضِيَ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا (4).
قال ابن عبد البر: "لم يختلف العلماء أن الكافرة إذا أسلمت ثم انقضت عدتها أنه لا
(1) الأم، للشافعي، (6/ 396).
(2)
السنن الكبرى، للبيهقي، (7/ 185).
(3)
تفسير القرطبي، (3/ 72).
(4)
بحث: أثر إسلام أحد الزوجين في النكاح، د. محمد عبد القادر أبو فارس، ضمن بحوث المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء، العدد الثاني، (ص 327)، ذو القعدة 1423 هـ - يناير 2003 م.
سبيل لزوجها إليها، إذا كان لم يسلم في عدتها، إلا شيء رُوِيَ عن إبراهيم النخعي شَذَّ فيه عن جماعة العلماء، ولم يتبعه عليه أحد من الفقهاء، إلا بعض أهل الظاهر" (1).
قال د. محمد عبد القادر أبو فارس: "لم يَرِدْ نقلٌ صحيح عن عالم أو فقيه أو مفسر في جواز استمرار المؤمنة زوجةً لكافرٍ مصرٍّ على كفره، والاستمتاع بها ومجامعتها والإنجاب منها، وهي مؤمنة وهو كافر، ولم يَرِدْ نصٌّ أو نقلٌ صحيح عن فقيه أو عالم أو مفسر على جواز استمرار الحياة الزوجية بين مؤمن وكافرة تصرُّ على كفرها ووثنيتها، فتستمر المعاشرة والتكشف والجماع والإنجاب، وإن كانت الزوجة كافرة ومصرة على كفرها وقد عرض الإسلام عليها، بل الجميع يوقفون الحياة الزوجية ويمنعون العشرة بينهما بمجرد إسلام أحدهما، ولا تحل العشرة الزوجية إلا بإسلام الآخر"(2).
وبعد اتفاقهم على ما سبق فقد اختلفوا في إبطال العقد، وكيف يتم، ومتى يتم؟
وقد نقل بعض المعاصرين ثلاثة عشر قولًا في ذلك (3) أصلها عند ابن القيم في تسعة (4) أقوال، وهي تعود إلى ثلاثة أقوال رئيسة (5).
وفيما يلي ذِكْرُ هذه الأقوال الثّلاثة عشر ثم رَدُّها إلى الأقوال الثلاثة الرئيسة:
1 -
يبطل عقد النكاح بينهما بمجرد إسلام أحدهما قبل الآخر.
وهذا مذهب الحسن البصري في رواية، وعطاء بن أبي رباح في رواية، وعكرمة (6)،
(1) التمهيد، لابن عبد البر، (12/ 23).
(2)
أثر إسلام أحد الزوجين، د. أبو فارس، (ص 319).
(3)
بحث: إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه، د. عبد الله الجديع، ضمن بحوث المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء، العدد الثاني، 2003 م، (ص 149 - 151).
(4)
أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 641) وما بعدها.
(5)
بحث: إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه، لفيصل مولوي، ضمن بحوث المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء، العدد الثاني، 2003 م، (ص 265).
(6)
عكرمة مولى ابن عباس، القرشي مولاهم، المدني، البربري الأصل، العلامة، الحافظ، المفسر، حدَّث عن =
وقتادة السدوسي، وعمر بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (1)، وعبد الله بن شبرمة (2) في رواية، وأبي ثور (3)، وهو رواية عن أحمد بن حنبل، تبعه عليها بعض أصحابه، ومذهب أبي محمد بن حزم، كذلك هو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة إذا كانت الزوجة غيرَ مدخولٍ بها، وهو مذهب سفيان الثوري إذا كان الزوجان في دار الحرب خاصة.
2 -
يبطل عقد النكاح بينهما إذا سبق الزوجُ الزوجةَ بالإسلام، ولم تُسلم معه في نفس المجلس، وقد عرض عليها الإسلام، وليست كتابية، وهذا مذهب المالكية، وابن قيم الجوزية.
3 -
يبطل عقد النكاح بينهما إذا أسلم الزوج، ولم تُسْلِمِ الزوجة بعده في مدة يسيرة، وهذا مذهب بعض المالكية، كابن القاسم.
4 -
يبطل عقد النكاح بينهما إذا أسلم أحدهما قبل الآخر، ولم يُسلم الآخر منهما في عدة الزوجة، وهذا مذهب مجاهد المكي في الرواية الصحيحة عنه، وهو رواية عن الحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، وعمر بن عبد العزيز، وعبد الله بن شبرمة، كذلك هو مذهب الأوزاعي والليث بن سعد، والمالكية في الزوجة تُسلم أولًا،
= ابن عباس، وعائشة، وأبي هريرة، وابن عمر، توفي سنة 105 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (7/ 7)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (5/ 12).
(1)
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، القرشي العدوي المدني، مولى عمر بن الخطاب، وكان كثير الحديث ضعيفًا جدًّا، روى عن أبيه زيد بن أسلم، وأبي حازم سلمة بن دينار، وصفوان بن سليم، ومحمد بن المنكدر، توفي سنة 182 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (5/ 413)، تهذيب الكمال، للمزي، (17/ 114).
(2)
عبد الله بن شبرمة، الضبي، الإمام العلامة، فقيه العراق، قاضي الكوفة، حدَّث عن أنس بن مالك، وأبي الطفيل عامر بن واثلة، وأبي وائل شقيق، وعامر الشعبي، توفي سنة 144 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (6/ 350)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (6/ 347).
(3)
أبو ثور، إبراهيم بن خالد، الكلبي، الإمام الحافظ الحجة المجتهد، البغدادي الفقيه، مفتي العراق، أخذ الفقه عن الشافعي، سمع من سفيان بن عيينة، وعبيدة بن حميد، وأبي معاوية الضرير، ولد في حدود سنة 170 هـ، وتوفي سنة 240 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 92)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (12/ 72).
والشافعية، والحنابلة، وإسحاق بن راهويه.
5 -
يبطل عقد النكاح بينهما إذا انتقل المسلم منهما من دار الحرب إلى دار الإسلام، وهذا مذهب الحنفية خاصة.
6 -
يبطل عقد النكاح بينهما ساعةَ إسلامِ أحدِهِمَا، وذلك إذا كانا غيرَ كتابيين، أما إذا كانا كتابيين فيفرَّق بينهما، وهذا مذهب عطاء بن أبي رباح في رواية عنه، وظاهرُ المنقولِ عن طاوس (1) ومجاهد وسعيد بن جبير في بعض الروايات.
7 -
يبطل عقد النكاح بينهما إذا أسلم أحدهما في دار الحرب، وحاضت الزوجة ثلاث حيض، ولم يُسلم الآخر منهما، وهذا مذهب الحنفية خاصة.
8 -
يبطل عقد النكاح بينهما إذا أسلم أحدهما، ودُعِيَ الآخر إلى الإسلام فأبى أن يُسلم، وهذا قول عمر بن عبد العزيز في رواية، والزهري من وجه ضعيف.
9 -
لا يبطل عقد النكاح بينهما مطلقًا إلا بقضاء القاضي، وهذا مقتضى قول طاوس اليماني، وسعيد بن جبير، والحكم بن عتيبة (2)، وإحدى الروايات عن عمر بن عبد العزيز، وفي رواية ضعيفة عن الزهري، وهو ظاهرُ قولِ عبد الله بن عباس، كما كان يرى للزوجة المسلمة إبطالَهُ باختيارها، وترك زوجها الكافر.
10 -
لا يبطل عقد النكاح بينهما إذا كانا جميعًا في دار الإسلام إلا بقضاء القاضي، وهذا مذهب الحنفية، وسفيان الثوري.
(1) طاووس بن كيسان، اليماني، الخولاني، الفقيه القدوة، عالم اليمن، الفارسي، ثم اليمني، الحافظ، روى عن جابر، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، توفي سنة 106 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (4/ 500)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (5/ 38).
(2)
الحكم بن عتيبة الكندي، مولاهم الكوفي، الإمام الكبير، عالم أهل الكوفة، كان الحكم ثقة ثبتًا فقيهًا من كبار أصحاب إبراهيم، وكان صاحب سنة واتباع، ولد نحو سنة 46 هـ، وتوفي سنة 115 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (3/ 123)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (5/ 208).
11 -
لا يبطل عقد النكاح بينهما إلا بقضاء القاضي، أو بانتهاء العدة، وهذا مذهب الزهري في رواية.
12 -
ينتقل عقد النكاح بينهما إذا أسلم أحدهما دون الآخر إلى عقد جائز، ويكون النكاح موقوفًا، فإن أسلم الآخر منهما استمرَّ النكاح، ولها أن تنكح زوجًا غيره، وهذا رواية مضعفة عن أحمد بن حنبل، ومذهب داود بن علي الظاهري، وشيخ الإسلام ابن تيمية، كذلك هو مذهب ابن القيم في حالة سبق الزوجة بالإسلام.
13 -
ينتقل عقد النكاح بينهما إلى عقد جائز، يبيح للزوجة مفارقة الزوج إن شاءت، كما يبيح مكثها معه كزوجة إن شاءت، ما داما في موضعِ تمكينٍ، كدارِ إسلامٍ، وعليه تدل الرواية الصحيحة المحفوظة عن أمير المؤمنين عمر، والرواية عن أمير المؤمنين علي، وهو مذهب عامر الشعبي (1) وإبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان (2).
وهذه الأقوال يمكن رَدُّهَا -كما سبق- إلى ثلاثة أقوال رئيسة على النحو التالي:
الأول: بطلان عقد النكاح السابق بين المسلمة وغير المسلم، والخلاف ضمن هذا القول على وقت البطلان فقط، وهو يشمل الأقوال من اإلى 8، والقول الحادي عشر أيضًا، وهو أنه لا يبطل عقد النكاح إلا بقضاء القاضي، أو بانتهاء العدة، فهو يتوافق في النهاية مع من يقول ببطلان العقد بانتهاء العدة.
الثاني: لا يبطل عقد النكاح السابق إلا بقضاء القاضي مطلقًا، أو في دار الإسلام
(1) عامر بن شراحيل بن عبد الشعبي، الإمام، علامة العصر، حدَّث عن سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأبي موسى الأشعري، توفي سنة 104 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (6/ 246)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (4/ 294).
(2)
حماد بن أبي سليمان بن مسلم الكوفي، الأشعري، العلامة الإمام، فقيه العراق، روى عن أنس بن مالك، وتفقه بإبراهيم النخعي، وهو أنبل أصحابه وأفقههم، روى عنه تلميذه الإمام أبو حنيفة، وابنه إسماعيل بن حماد، والحكم ابن عتيبة، توفي سنة 120 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 83)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (5/ 231).
فقط، هذا هو القول التاسع والعاشر والحادي عشر أيضًا.
الثالث: ينتقل العقد السابق من عقدٍ لازمٍ إلى عقدٍ جائزٍ، يُجيزُ لها أن تفارِقَهُ وتنكحَ زوجًا غيره إن شاءتْ، ولا يجوز له أن يطأها مطلقًا في دار الحرب، أو في دار الإسلام، وفقَ القول الثاني عشر -قول ابن القيم- ويجوز الوطء بينهما ما دامت في دار الإسلام، وفقَ القول الثالث عشر -قول عمر وعلي- والذي تبناه -فيما بعد- عامر الشعبي، وإبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان.
وبفحص هذه الأقوال نجد أنه باعتماد القول بالتفريق والإبطال لما بينهما من العقد، فقد اخْتُلِفَ في مسائلَ، هي:
1 -
نوع الإبطال الذي يلحق عقد النكاح:
القول الأول: هو فسخ يجب بعد انقضاء العدة، وهو رأي الأئمة الأربعة.
القول الثاني: هو طلاق.
القول الثالث: يبقى النكاح مع عدم المسيس حتى يحكم القاضي بالتفريق.
القول الرابع: يكون موقوفًا.
بحيث يتحول العقد إلى عقد جائز من جهة الزوجة، فلها أن تبقى معه من غير مسيس، ولها أن تفارقه وتنكح زوجًا غيره.
2 -
كيفية الرد والاستئناف:
القول الأول: على القول بأنه فسخ بعد انقضاء العدة يكون الردُّ بعقد ومهر جديدين.
القول الثاني: يرجع الزوج إليها من غير احتياج إلى عقد جديد إذا أسلم قبل انقضاء عدتها.
القول الثالث: يرجع بعقد جديد، لكن بصداقها القديم.
القول الرابع: يستمر على النكاح القديم، ولو بعد انقضاء العدة، ولو طالت المدة!
3 -
المدة التي يمكن للمتأخر فيها الرد إلى الحياة الزوجية:
القول الأول: إذا أسلم المتأخر خلال عدتها استأنف حياته الزوجية، وإذا أسلم بعدها فلا سبيل له عليها، وهو مذهب الأئمة الأربعة.
القول الثاني: لا حدَّ للمدة التي يجوز فيها الردُّ، ما دامت لم تَنْكِحْ زوجًا غيره، وهو قول ابن تيمية وابن القيم.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
من القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وفتاوي الصحابة وفعلهم، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وأتباع مذاهبهم، وطوائف كثيرة من السلف والخلف (1).
وخلاصته: بطلانُ عقد النكاح إمَّا بانقضاء العِدَّةِ، كما هو مذهب الأغلبية، أو بقضاء القاضي، كما هو مذهب الزهري في رواية.
واستدلوا لمذهبهم بالكتاب، والسنة، وآثار الصحابة.
أولًا: القرآن الكريم:
1 -
(1) حاشية قليوبي على شرح المنهاج، (3/ 254)، زاد المحتاج بشرح المنهاج، لعبد الله بن الشيخ حسن الكوهجي، تحقيق: عبد الله الأنصاري، المكتبة العصرية، بيروت، 1988 م، (3/ 239 - 240)، المدونة الكبرى، رواية سحنون بن سعيد، (2/ 212)، الكافي، لابن عبد البر، (2/ 549 - 550)، كشاف القناع، للبهوتي، (5/ 118)، المحرر، للمجد ابن تيمية، (2/ 28)، بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 336)، الدر المختار، للحصكفي، (3/ 188 - 189).
وجه الدلالة:
نصت هذه الآية نصًّا صريحًا على عدم إرجاع المؤمنات المهاجرات إلى الكفار، وحرَّمَتْ بقاء المؤمناتِ زوجاتٍ للكافر، وأمرتْ كلَّ مؤمن يتزوج كافرة أن يفارقها، بقوله تعالى في الآية:{لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10].
قال ابن العربي -في قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]-: "بَيَّنَ أن العلة عدم الحل بالإسلام، وليس اختلاف الدارين"(1) والذي أوجب فُرْقَةَ المسلمة من زوجها هو إسلامها.
يقول الشوكاني: "إن عبارة: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] تعليل للنهي عن إرجاعهن، وفيه دليل على أن المؤمنة لا تحل لكافر، وأن إسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها لا مجرد هجرتها، والتكرير لتأكيد الحرمة، أو الأول لبيان زوال النكاح، والثاني لامتناع النكاج الجديد"(2).
2 -
قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10].
قال ابن كثير رحمه الله: "قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] تحريم من الله عز وجل، على عباده المؤمنين نكاحَ المشركات، والاستمرارَ معهن"(3).
وقال ابن العربي -في قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]-: "هذا
بيان لامتناع نكاح المشركة من جملة الكوافر، وهو تفسيره والمراد به. قال أهل التفسير: أَمَرَ الله تعالى كلَّ مَنْ كان له زوجة مشركة أن يُطَلِّقَهَا، وقد كان الكفار يتزوَّجون المسلمات، والمسلمون يتزوَّجون المشركات، ثم نَسَخَ الله ذلك في هذه الآية وغيرها،
(1) أحكام القرآن، لابن العربي، (4/ 230).
(2)
فتح القدير، للشوكاني، (5/ 286).
(3)
تفسير ابن كثير، (8/ 94).
وكان ذلك نسخ الإقرار على الأفعال بالأقوال" (1).
3 -
قال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221].
دلت هذه الآية على حكمين:
الأول: تحريم زواج المسلم من المشركة حتى ولو أعجبته، طالما بقيت على شركها.
الثاني: تحريم زواج المسلمة من المشرك حتى ولو أعجبها وأَعجبَ أهلها، طالما بقي على شركه.
وعلة التحريم في الحالتين هي الشرك باعتباره الوصفَ المؤثرَ (2).
موقع آية الممتحنة من آية البقرة:
" آية البقرة تمنع النكاح إطلاقًا بين المسلمين والمشركات، وبين المشركين والمسلمات، وقد جاء الإذن بعد ذلك (بآية المائدة) بزواج المسلمين من الكتابيات، وبقي المنع يشمل الباقي من النساء الكافرات أو المشركات، أما زواج المسلمة من غير المسلم فقد بقي ممنوعًا عملًا بعموم آية البقرة، وانعقد على ذلك الإجماع، كما هو معروف.
وجاءت آية الممتحنة تتناول عقود الزواج السابقة على الإسلام، ويهمنا في هذا البحث المرأة إذا أسلمت وبقي زوجها على دينه، وتركت بلادها -دار الكفر- والتحقت بدار الإسلام والهجرة، لقد نصت الآية بوضوح {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] وبينت علة ذلك، وهي عدم الحلية بين المؤمنات والكافرين.
(1) أحكام القرآن، لابن العربي، (4/ 231).
(2)
إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه، فيصل مولوي، (ص 249).
إذًا: آية البقرة منعت ابتداءً النكاح بين المسلمة والكافر.
وآية الممتحنة أكَّدت هذا المنع بالنسبة للعقود السابقة، وللعقود الجديدة {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} [الممتحنة: 10]-ولو بموجب عقود سابقة- {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] بموجب عقود جديدة.
وإذا كانت آية الممتحنة نزلت بمناسبة هجرة بعض المسلمات إلى المدينة، وجاء النهي عن إرجاعهن إلى الكفار، فإن تعليل هذا النهي لم يأتِ مبنيًّا على ظرف معين يقع فيه الإيذاء، أو التعذيب، أو الضغط على المرأة المسلمة من زوجها الكافر، وإنما جاء النهي معللًا (بعدم الحلية)، وهذا أمر لا علاقة له باختلاف الدَّار، ولا بالتعرض للأذى المحتَمَلِ.
فآية البقرة تمنع إنشاء عقود جديدة.
وآية الممتحنة تمنع استمرار العقود القديمة" (1).
ثانيًا: السنة المطهرة:
1 -
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَدِّ ابنتَهُ زينبَ على أبي العاص بن الربيع بمهرٍ جديد ونكاح جديد (2).
2 -
عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: رَدَّ النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بعد ست سنين بالنكاح الأول ولم يُحْدِثْ نكاحًا (3).
(1) إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه، فيصل مولوي، (257).
(2)
أخرجه الترمذي، كتاب النكاح، باب: ما جاء في الزوجين المشركين يسلم أحدهما، (1142)، وابن ماجة، كتاب النكاح، باب: الزوجين يسلم أحدهما قبل الآخر، (2010)، وقال الترمذي:"هذا حديث فيه مقال".
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب الطلاق، باب: إلى متى تُرَدُّ عليه امرأته إذا أسلم بعدها، (2240)، والترمذي، كتاب النكاح، باب: ما جاء في الزوجين المشركين يسلم أحدهما، (1143)، وقال:"ليس بإسناده بأس، ولكن لا نعرف وجه هذا الحديث، ولعله قد جاء هذا من قبل داود بن حصين من قبل حفظه".
درجة الحديث الأول:
قال الترمذي رحمه الله-بعد رواية الحديث-: هذا حديث في إسناده مقال، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم أن المرأة إذا أسلمت قبل زوجها، ثم أسلم زوجها وهي في العدة أن زوجها أحقُّ بها ما كانت في العدة، وهو قول مالك بن أنس، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحق (1).
وفي نيل الأوطار: وفي إسناده حجاج بن أرطاة، وهو معروف بالتدليس، وأيضًا لم يسمعه من عمرو بن شعيب، كما قال أبو عبيد، وإنما حمله عن العرزمي وهو ضعيف، وقد ضعَّفَ هذا الحديثَ جماعةٌ من أهل العلم (2).
درجة الحديث الثاني:
قال الترمذي رحمه الله-قبل أن يرويه-: وفي الحديث الآخر أيضًا مقال. وقال -بعد أن رواه-: هذا حديث ليس بإسناده بأسٌ، ولكن لا نعرف وجه هذا الحديث، ولعله قد جاء هذا من قِبَلِ داود بن الحصين من قِبَلِ حفظه. فعبارة الترمذي واضحة أنه لم يصححِ الحديثَ، بل ذَكَرَ ضعفَ ضبطِ داودَ بنِ الحصين وحفظه، وقد رَدَّ كثير من العلماء رواية داود بن الحصين وبخاصة إذا روى عن عكرمة، وتجنبوا روايته (3).
وجه الدلالة من الحديثين:
1 -
أن الرسول صلى الله عليه وسلم حبس ابنته زينب عن أبي العاص بعد غزوة بدر والمنِّ عليه،
(1) سنن الترمذي، (3/ 447).
(2)
فتح الباري، لابن حجر، (9/ 423)، نيل الأوطار، للشوكاني، (6/ 194)، ويراجع ميزان الاعتدال في نقد الرجال، لشمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، ومعه ذيل ميزان الاعتدال، لأبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي، تحقيق: علي محمد عوض، وعادل أحمد عبد الموجود، وعبد الفتاح أبي سنة، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1416 هـ - 1995 م، (2/ 197).
(3)
المرجع السابق، (3/ 6 - 7).
على أن يبعث زينب، وجاء بها زيد بن حارثة وظلَّتْ عند أبيها.
2 -
عند هجرتها وحياتها في المدينة انقطعتِ العشرةُ الزوجية بينها وبين أبي العاص.
3 -
بقيت العِشرة الزوجية منقطعة حتى أسلم أبو العاص، فأعادها الرسولُ صلى الله عليه وسلم إليه بعد إسلامه، فبعضُهُمْ يقولُ: وكانت في عدتها بعد نزول آية الممتحنة: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] فأعادها إليه، وهي في عدتها، ومنهم من يقول: أعادها إليه بعد عدتها بعقد جديد ومهر جديد.
4 -
ولفظُ: رَدَّ الرسولُ زينبَ على أبي العاص يدلُّ بوضوح على ما تقدَّمَ من انقطاع العشرة الزوجية والخلوة وسائر أسباب الجماع ودواعيه (1).
ثالثًا: فعل الصحابة رضي الله عنهم وفتاويهم:
1 -
ثبت أن عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- كان له زوجتان مشركتان (2) قبل نزول هذه الآية، فلما نزلت قام بفراقهما، وهما: قريبة وأم كلثوم الخزاعية.
2 -
أن عياض بن غنم رضي الله عنه كانت تحته أم الحكم بنت أبي سفيان، وكانت مشركة فطلَّقَهَا فتزوجها عبد الله بن عثمان الثقفي (3)، وكانت أروى بنت ربيعة بن عبد المطلب مشركة تحت طلحة بن عبيد الله، فطلَّقَهَا (4).
3 -
صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى في المرأة التي تسلم ويصر زوجها على الكفر أن يفرق بينهما.
وذلك أن رجلًا من بني تغلب يقال له عباد بن النعمان كان تحته امرأة من بني تميم،
(1) أثر إسلام أحد الزوجين، د. محمد أبو فارس، (ص 322).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب: الشروط فى الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، (2731).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب نكاح من أسلم من المشركات وعدتهن، (5287).
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم، (10/ 3350)، قال الحافظ في فتح الباري، (9/ 419):"سنده حسن".
فأسلمت فدعاه عمر، فقال: إما أن تُسْلِمَ، وإما أن أنزعها منك، فأبى أن يُسْلِمَ فنزعها منه (1).
4 -
وعن جابر بن عبد الله بن حرام رضي الله عنهما أنه قال -لما سئل عن نكاحِ المسلمِ اليهوديةَ والنصرانيةَ-:
"لا يَرِثْنَ مسلمًا ولا يَرِثُهُنَّ، ونساء أهل الكتاب لنا حِلٌّ ونساؤنا عليهم حرام"(2).
وعبارة: "نساؤنا عليهم حرام" عبارة عامة تشمل العقد والوطء، فيحرم على المسلمة أن تنكح كافرًا كتابيًّا، ويحرم عليها أن تمكِّنَهُ من الوطء كذلك، والعبرة -كما هو معلوم- بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
5 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرمت عليه"(3).
وعنه أيضًا رضي الله عنه في اليهودية أو النصرانية تكون تحت اليهودي أو النصراني فَتُسْلِمُ، فقال:"يُفَرَّقُ بينهما، الإسلامُ يعلُو ولا يُعْلَى عليه"(4)، وسنده صحيح (5).
وقد أفتى بهذا من التابعين عطاءُ بن أبي رباح، ومجاهد، والحسن، والحكم بن عتيبة، وسعيد ابن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، وطاوس، وقتادة وغيرهم (6).
القول الثاني:
وخلاصته: لا يبطل عقد النكاح إلا بقضاء القاضي مطلقًا، أو في دار الإسلام فقط، وهو خلاصة القول التاسع والعاشر والحادي عشر أيضًا، وهو ظاهر قول ابن عباس، كما كان يرى للزوجة المسلمة إبطاله باختيارها، وترك زوجها الكافر.
وهو مقتضى قول طاوس، وسعيد بن جبير، وسفيان الثوري، والزهري في رواية
(1) المرجع السابق، (5/ 91).
(2)
السنن الكبرى، للبيهقي، (7/ 172)، المحلى، لابن حزم، (7/ 312).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب: إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي أو الحربي، (5287).
(4)
شرح معاني الآثار، للطحاوي، (3/ 257).
(5)
فتح الباري، لابن حجر، (9/ 421).
(6)
مصنف ابن أبي شيبة، (5/ 90 - 91)، المحلى، لابن حزم، (7/ 312)، فتح الباري، لابن حجر، (9/ 421).
عنه، وهو مذهب الحنفية (1).
ومذهب الحنفية: أن المرأة إذا أسلمت وهاجرت من دار كفر إلى دار الإسلام، فإن اختلاف الدارين يفرق بينها وبين زوجها، بمجرد صيرورتها في دار الإسلام.
وتفصيل ما أُجْمِلَ من مذهبهم في هذه القضية على المسائل التالية:
المسألة الأولى: أن يكون الزوجان من أهل دار الإسلام بالذمة، فإذا أسلم الزوج وزوجته ليست كتابية عرض عليها الإسلام، فإن أبت فَرَّقَ بينهما القاضي.
وكذلك إذا أسلمت الزوجة، فيعرض الإسلام على الزوج فإن أسلم وإلا فَرَّقَ بينهما القاضي (2).
وبناءً عليه فإنه ما لم يفرق بينهما القاضي فهي امرأته (3).
المسألة الثانية: أن يكون الزوجان من أهل دار الحرب، فإذا أسلم أحدهما ولم يهاجر، فهي امرأته حتى تحيض ثلاث حيض إن كانت من ذوات الحيض، أو تمضي ثلاثة أشهر، فإذا مضت هذه المدة ولم يُسْلِمِ الآخرُ منهما وقعت الفُرْقَةُ بينهما (4).
وليست هذه بعدَّةٍ لشمولها غيرَ المدخول بها؛ إذ لا يفرقون بينهما (5).
المسألة الثالثة: أن يكون الزوجان من أهل دار الحرب، فَيُسْلِمُ أحدهما، ثم يخرج إلى دار الإسلام، فهنا تقع الفُرْقَةُ لاختلاف الدار (6).
(1) مصنف ابن أبي شيبة، (5/ 91 - 92)، أحكام القرآن، للجصاص، (5/ 330 - 331)، بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 336)، فتح القدير، لابن الهمام، (3/ 419)، حاشية ابن عابدين، (4/ 354 - 355، 359).
(2)
حاشية ابن عابدين، (4/ 354 - 355، 359).
(3)
فتح القدير، لابن الهمام، (3/ 419)، حاشية ابن عابدين، (4/ 359).
(4)
أحكام القرآن، للجصاص، (5/ 330)، شرح معاني الآثار، للطحاوي، (3/ 258).
(5)
فتح القدير، لابن الهمام، (3/ 419)، حاشية ابن عابدين، (4/ 363).
(6)
شرح معاني الآثار، للطحاوي، (3/ 259)، أحكام القرآن، للجصاص، (3/ 430).
أدلة القول الثاني:
أما ما يتعلق بالمسألة الأولى، فبعد اتفاق الحنفية مع الجمهور في إبطال النكاح، وإيجاب الفُرْقة، واستدلالهم لذلك بأدلتهم، استدلوا الاشتراط القاضي بأدلة، منها:
1 -
قضاء عمر بالفُرْقَةِ: حيث كان رجل من بني تغلب نصراني، تحته امرأة نصرانية فأسلمَتْ فَرُفِعَتْ إلى عمرَ، فقال له: إن أسلمتَ وإلَّا فرَّقْتُ بينكما، فقال له: لم أَدَعْ هذا إلا استحياءً من العرب أن يقولوا: إنه أسلم على بُضْعِ امرأة، قال: ففرَّقَ عمر بينهما (1).
وجه الدلالة:
لو أن الفُرْقَةَ تقع بمجرد الإسلام لم يكن للتفريق الصادر عن عمر رضي الله عنه معنًى، وقد وقع بمحضر الصحابة فكان إجماعًا (2).
2 -
القياس والمعقول من وجهين:
أ - لا يجوز أن يكون مجرد الإسلام مبطلًا للنكاح؛ لأن الإسلام إنما عرف عاصمًا للأملاك، فكيف يكون مبطلًا لها، وإذا كان قد صحح ابتداءً عقد النكاح بين كافر وكافرة فالإبقاء عليه عند إسلام أحدهما أسهل وأولى (3).
ب - إن إضافة انقطاع النكاح للإسلام لا نظير له في الشرع، ولا أصل يلحق به قياسًا بجامع صحيح معتبر، ولا يوجد نقلٌ سمعي يفيده، فكان مضافًا إلى قضاء القاضي (4).
وأما في حالة أن يكون الزوجان من أهل دار الحرب، وعدم وجدان القاضي أو ولي الأمر، وهي المسألة الثانية في مذهبهم فيقام شرط البينونة في الطلاق الرجعي مقام القاضي،
(1) مصنف ابن أبي شيبة، (5/ 90 - 91)، الحجة على أهل المدينة، لمحمد بن الحسن الشيباني، تحقيق: مهدي حسن الكيلاني القادري، دار عالم الكتب، بيروت، (4/ 6 - 7)، التاريخ الكبير، للبخاري، (4/ 212).
(2)
بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 337).
(3)
المرجع السابق، (2/ 337).
(4)
فتح القدير، لابن الهمام، (3/ 419).
وإقامة الشرط مقام العلة عند تعذر اعتبار العلة جائز، فنزل انقضاء ثلاث حيضات مقام تفريق القاضي (1).
على أن الحنفية لا يعتبرونها عدة، وإنما سببًا أو شرطًا لوقوع الفُرْقَةِ.
وأما المسألة الثالثة: وهي اعتبار اختلاف الدار موجبًا لوقوع الفُرْقَةِ في حال كون الزوجين من أهل دار الحرب، فَيُسلم أحدهما، ثم يخرج إلى دار الإسلام، فهنا تقع الفرقة، لاختلاف الدار (2).
وقد وَرَدَ ما يفيد هذا الاعتبار عند المالكية أيضًا (3).
ومعنى اختلاف الدارين الذي تتحقق به الفُرْقَةُ عند الحنفية ومن معهم هو أن يكون أحد الزوجين من أهل دار الإسلام حقيقةً أو حكمًا، بالإسلام أو الذمة، والآخر من أهل دار الكفر -أي: كافرًا حربيًّا- كأن يُسلم أحد الزوجين في دار الكفر، ثم يهاجر إلى دار الإسلام، أو يخرج أحد الزوجين من دار الكفر إلى دار الإسلام، ذميًّا، أو مستأمنًا، ثم يُسلم أو يعقد عقد الذمة، أو يخرج المسلم من دار الإسلام إلى دار الكفر مرتدًّا عن دينه، أو يخرج الذمي من دار الإسلام إلى دار الكفر ناقضًا للعهد، ففي جميع هذه الأحوال تجب الفرقة بين الزوجين؛ لتباين الدارين بينهما.
أما إذا كان الزوجان مسلمين، فخرج أحدهما إلى دار الكفر بأمان أو بغيره، فلا تقع الفُرْقَةُ؛ لأنهما من أهل دار واحدة، وإن كان أحدهما مقيمًا في دار الكفر، والآخر في دار الإسلام، فاختلاف الدار لا أثر له بالنسبة للزوجين المسلمين (4).
(1) بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 338)، فتح القدير، لابن الهمام، (3/ 422).
(2)
أحكام القرآن، للجصاص، (5/ 330)، شرح معاني الآثار، للطحاوي، (3/ 259).
(3)
أحكام القرآن، لابن العربي، (4/ 230)، تفسير القرطبي، (18/ 63 - 64).
(4)
المبسوط، للسرخسي، (5/ 51)، تبيين الحقائق، للزيلعي، (2/ 176).
وقد استدلوا لمذهبهم بأدلة من القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والمأثور، والمعقول، والقياس.
أولًا: القرآن الكريم:
1 -
وجه الدلالة:
دلت الآية على وقوع الفرقة بين الزوجين متى اختلفت الدار بينهما من وجوه عديدة:
أ - دلَّ قوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ. . .} [الممتحنة: 10] على أنَّ الفرقة تقع بين الزوجة التي أسلمت بدار الكفر، ثم هاجرت إلى دار الإسلام، وبين زوجها الذي تركته بدار الكفر كافرًا، فإن الأمر بعدم إرجاعها إلى زوجها الكافر في دار الكفر، دليل على انقطاع العصمة بينهما بسبب اختلاف الدار بينهما.
ب - ودلَّ قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] على وقوع الفُرْقَةِ
بين الزوجين، متى اختلفت الدار بينهما؛ لأن عدم الحل إنما يكون عند رفع النكاح وزواله.
ج - ودلَّ قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] على وقوع الفُرْقَةِ بسبب اختلاف الدار؛ لأن الأمر بِرَدِّ مهر الزوجة المسلمة المهاجرة إلى دار الإسلام على زوجها الكافر المقيم بدار الكفر دليلٌ على انقطاع عصمة الزوجية بينهما؛ لأن الزوجية لو كانت باقية لما استحق الزوج رَدَّ المهر إليه؛ لأنه لا يجوز أن يستحق البضع وبدلَهُ.
د - ودلَّ قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] على وقوع الفُرْقَةِ بين الزوجين، بسببِ اختلافِ الدارِ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أحلَّ المسلماتِ المهاجراتِ إلى دارِ الإسلامِ للمؤمنين من غيرِ شرطٍ، إلا إعطاؤهُنَّ المهورَ، وهذا دليلٌ على عدم بقاء زواجِهِنَّ الأولِ؛ لأنه لو كان النكاح الأول باقيًا، لما جاز للمؤمنين نكاح المهاجرات بإسلامهن.
هـ - ودلَّ أيضًا قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] على وجوب الفُرْقَةِ بين الزوجين، بسبب اختلاف الدار بينهما؛ لأن الله سبحانه وتعالى نهى المؤمنين أن يُمْسِكُوا بعصمِ الكوافر فالكافر الذي أسلم في دار الكفر، ثم هاجر إلى دار الإسلام، وترك زوجته الكافرة في دار الكفر، يفرَّق بينهما؛ لأن اختلاف الدار أوجبَ انقطاعَ العصمة بينهما، والمراد بالعصمة هنا: النكاح، فقد انقطع النكاح بينهما؛ لاختلاف الدار بينهما (1).
ثانيًا: السنة المطهرة:
استدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم رَدَّ ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد، ونكاح جديد (2).
وجه الدلالة:
دلَّ الحديث على أن تباين الدارين يوجب الفرقة بين الزوجين؛ لأن العقد الجديد كان بالمدينة.
ثالثًا: المأثور:
ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما أراد أن يهاجر إلى المدينة، نادى بمكة:"من أراد أن يرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي"(3).
رابعًا: المعقول، وذلك من أربعة أوجه:
الوجه الأول:
(1) أحكام القرآن، للجصاص، (5/ 330)، المبسوط، للسرخسي، (5/ 51)، الجوهر النقي مع سنن البيهقي، (7/ 188).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه: ابن الأثير في أسد الغابة، (3/ 648، 649)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وضعفه الألباني في دفاع عن الحديث النبوي، (ص 52 - 53).
أن تباين الدارين مُفَوِّتٌ لمقاصد النكاح؛ لأنه مع اختلاف الدار لا يتمكن الزوجان من الانتفاع بالنكاح عادةً، فلم يكن لبقائه فائدة فيزول؛ إذ يكون الزوجان بحال يتعذر معها انتظام التعاون المنشود، كالمسلم إذا ارتدَّ عن الإسلام، ولحق بدار الحرب، فإنه يزول ملكه عن أمواله، وتعتق أمهات أولاده، فكذلك إذا اختلفت الدار بين الزوجين، زالت الفائدة من النكاح (1).
الوجه الثاني:
ولأن أهل دار الحرب كالموتى في حق أهل دار الإسلام؛ ولهذا لو التحق بهم المرتد جَرَتْ عليه أحكام الموتى، فكما لا تتحقق عصمة النكاح بين الحي والميت، فكذلك لا تتحقق عند تباين الدارين حقيقةً وحكمًا (2).
الوجه الثالث:
ولأن الدار اختلفت بين الزوجين حقيقةً وحكمًا، فوجب أن تقع الفرقة بينهما، كالحربية إذا دخلت دار الإسلام بأمان، ثم أسلمت، فإن الفرقة تقع بينها وبين زوجها الذي في دار الحرب في الحال (3).
الوجه الرابع:
ولأن اختلاف الدارين يؤثر في انقطاع العصمة، كما يؤثر في المنع من الميراث، ألا ترى أن الذمي لو مات في دار الإسلام وخلَّفَ مالًا وله ورثة من أهل الحرب في دار الحرب، لم يستحقوا من إرثه شيئًا، وجُعِلَ مالُهُ في بيت المال؛ لاختلاف الدارين، ولو كان ورثته ذميين في دار الإسلام لكانوا هم أحقَّ بتركتِهِ من جماعة المسلمين؛ لأنه لم تختلف الدار بينهم؛ لأن الجميع من أهل دار الإسلام (4).
(1) المبسوط، للسرخسي، (5/ 51).
(2)
بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 338).
(3)
أحكام القرآن، للجصاص، (5/ 330 - 331).
(4)
أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 736).
خامسًا: القياس:
أن الفُرْقَةَ تقع بين الزوجين في الحال إذا ثبت أن بينهما رضاعًا أو نسبًا.
فكذلك إذا اختلفت الدار فُرِّقَ بينهما في الحال (1).
القول الثالث:
وخلاصة هذا القول: أن العقد ينتقل من عقد لازم إلى جائز، يجيز للمرأة أن تفارق وتنكح زوجًا آخر إن شاءت، ويكون العقد موقوفًا، ولا يَحِلُّ له أن يطأها مطلقًا، لا في دار حرب أو إسلام، وهذا مذهب ابن القيم وشيخه رَحِمَهُمَا اللهُ.
ويجوز الوطء بينهما ما دامت في دار الإسلام، ولم يكن زوجها محاربًا لدينها؛ وفقًا لما رُوِيَ عن عمر وعلي، وبه قال الشعبي والنخعي وحماد بن أبي سليمان (2) وانتصر له الجديع، ورأى أنه أعظم في تأليف القلوب، وألصق بما قامت عليه الدعوة النبوية (3).
أدلة القول الثالث:
من القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والأصول، والمعقول، وحاصلها ما يلي:
أولًا: القرآن الكريم:
1 -
آية سورة الممتحنة:
وجه الدلالة:
آية الممتحنة لم تَقُلْ: إن عقد النكاح قد انقطع بين المهاجرة وزوجها الكافر المحارب، إنما أباحت لها النكاح، وجاءت قصة زينب فأثبتت استمرارَ العقد القديم،
(1) فتح القدير، لابن الهمام، (3/ 424).
(2)
مصنف ابن أبي شيبة، (5/ 92)، مصنف عبد الرزاق، (6/ 84)، (7/ 175).
(3)
إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه، د. عبد الله الجديع، (ص 184).
ونفيُ الحِلِّ لا يعني إبطال العقد السابق؛ لأنه لم يبطل عقد زواج زينب، وإنما يعني: منع تمكين العدو الكافر المحارب من المسلمة.
2 -
قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10].
وجه الدلالة:
لو أفادت هذه الآيةُ انقطاعَ الزواجِ ما احتاجَ عمرُ إلى أن يطلق زوجتيه اللتين كانتا بمكة مشركتين.
ثانيًا: السنة المطهرة:
قصة زينب وغيرها في السنة النبوية، وقد تقدمت.
وجه الدلالة:
ما جرى عليه العمل بعد الهجرة، فبقاء طائفة من المؤمنين بمكةَ أمرٌ مقطوع به؛ لقوله تعالى:{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء: 98]، ولقوله تعالى:{وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ} [الفتح: 25]، ومن المحتمل أن يكون بين هؤلاء امرأة مسلمة مع زوج كافر، أو رجل مسلم مع زوجة كافرة، بل ما يؤكد وقوع ذلك قصة أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية زوجة العباس بن عبد المطلب، وقد أسلمت قبله وبقيت عنده، وقال ابن عباس رضي الله عنهما:"كنت أنا وأمي من المستضعفين، أنا من الولدان، وأمي من النساء"(1)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما:"إنه لم يكن مع أبيه على دين قومه"، وعلَّق الذهبي على ذلك بقوله:"فهذا يُؤْذِنُ بأنهما أسلما قبل العباس وعجزا عن الهجرة"(2)، وكذلك قصة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم ومُكْثها تحت
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات، هل يصلى عليه؟، (1357)، عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا.
(2)
سير أعلام النبلاء، للذهبي، (2/ 315).
زوجها أبي العاص بن الربيع، وهي مسلمة وهو يومئذ كافر، هاتان القصتان دلَّتا أنه بعد الهجرة استمرَّ العمل على أن اختلاف الدين لم يكن يفرِّقُ بين المرأة وزوجها، وأنه لم تأتِ الشريعة بما يضادُّ ذلك قبل آية الممتحنة.
ثالثًا: الأدلة الأصولية:
شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يَرِدْ في شرعنا ما ينسخه، واختلاف الدين لم يوجب على نوح ولوط مفارقة زوجتيهما الكافرتين، ولم يوجب على آسية مفارقة زوجها فرعون.
رابعًا: المعقول:
1 -
إن أنكحة الكفار فيما بينهم صحيحة، ولا تبطل إذا أسلم الزوجان، إلا إذا كانت المرأة لا تحل لزوجها حسب أحكامنا الشرعية، ولا يؤمر الزوجان بتجديد النكاح.
وهذا ما جرى عليه العمل بين المسلمين قبل الهجرة، فهو دليل على أن تغيير الدين لم يكن مؤثِّرًا في صحة عقد النكاح السابق.
2 -
إن التفريق بمجرده لا يحقق مصلحة، بل هو مفسدة، ولا يناسب التبشير بدين الإسلام، وقد قال ابن القيم رحمه الله:"إن المرأة إذا علمت، أو الزوج أنه بمجرد إسلامه يزول النكاح، ويفارق من يحبُّ، ولم يَبْقَ له عليها سبيلٌ إلا برضاها ورضا وليها ومهر جديد، نَفَرَ عن الدخول في الإسلام، بخلاف ما إذا علم كل منهما أنه متى أسلم فالنكاح بحاله، ولا فراق بينهما إلَّا أن يختار هو المفارقة، كان في ذلك من الترغيب في الإسلام ومحبته ما هو أدعى إلى الدخول فيه"(1).
مناقشة الأدلة:
أولًا: مذهب الجمهور:
(1) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 694).
1 -
نوقشت دلالة قوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] بأن الآية لا تدلُّ على بطلان عقد النكاح، وإنما تدل على النهي عن رَدِّ المسلمات المهاجرات إلى أزواجهن الكفار، فأين في هذا ما يقتضي أما لا تنتظر زوجها حتى يصير مسلمًا مهاجرًا إلى الله ورسوله، ثم تُرَدُّ إليه؟ (1).
2 -
ونوقشت دلالة قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، بأنها لا تدلُّ على البطلان؛ لأن عمر وغيره عمدوا إلى تطليق نسائهم المشركات بمكة امتثالًا لها، ولم ينفسخ عقد النكاح بينهم وبينهن بمجرد نزولها، فهو طلاق وليس بفسخ.
3 -
كما نوقشت قصةُ زينبَ وردُّها إلى زوجها بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُحْدِثْ شيئًا حين رَدَّهَا، أي: لا نكاحًا ولا صداقًا، وإنما رَدَّهَا إليه بنفس النكاح الأول، ويدلُّ هذا على أنه لم ينفسخ نكاحها لا بإسلامها ولا بهجرتها.
وأجاب الجمهور عن دلالة آية الممتحنة مع آية البقرة على فسخ النكاح، وتحريم بقاء المسلمة في عصمة زوجها الكافر بما يلي:
1 -
التحريم يمنع العقد والوطء معًا وليس الوطء فحسب، كما أن التحريم يعني: المنع حالًا واستقبالًا وإذا كان ما سبق عمله في الماضي قائمًا في الحاضر فإنه يطلب منعه والتوقف عنه فورًا.
قال تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221]، فإذا استمرَّ النكاح السابق دون إسلام المشرك كان هذا مخالفة صريحة للنص، إلا أن يقوم دليل التخصيص أو التقييد، ولقد تقرَّرَ عند الأصوليين أن النهي يقتضي الفورَ والدوامَ والتكرارَ (2).
(1) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 686).
(2)
التمهيد في أصول الفقه، لأبي الخطاب الكلوذاني، (1/ 363 - 364).
2 -
علة التحريم هي اختلاف الدين، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وهذه العلة موجودة في العقود السابقة على التحريم، والأصل في التحريم أن يشمل العقودَ الجديدة، ومَنْعَ استدامة العقود القديمة.
3 -
قاعدة: يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء (1)، أو البقاء أسهل من الابتداء (2)، محلها حيث لا توجد مخالفات تتعلق بصلب العقد، فإذا كان الأمر متعلقًا بصلب العقد ومحله وهو الزوجة فلا محل لها، كما لو ثبت بينهما رضاع أو نسب فلا بد من التفريق ولا ترد هذه القاعدة، وعليه: فآية البقرة تمنع ابتداءَ عقودٍ جديدةٍ، وآية الممتحنة تمنع امتدادَ عقودٍ سابقةٍ.
4 -
بعد التسليم بوجود خلاف قديم ومتقدم يظهر أنه بعد وفاة حماد بن أبي سليمان الذي كان يروي قول النخعي ويفتي به بعد الشعبي لم يسمع هذا القول بعد ذلك، فالإجماع يُسلَّم بعد زمن حماد، لا سيما وأن سائر المذاهب السنية الأربعة والظاهرية مع الشيعة الزيدية لم يُرْوَ عنهم إلا إبطال النكاح والتفريق، باستثناء ابن تيمية رحمه الله وابن القيم رحمه الله والشيعة الجعفرية، فإنهم اعتبروا العقد موقوفًا، ولا يَحِلُّ به الوطءُ.
فكان المنع من الوطء والتفريق موطنَ إجماع صحيح منعقد.
ثانيًا: مذهب الحنفية ومن معهم:
1 -
مناقشة أدلتهم من القرآن:
استدلالهم بآية سورة الممتحنة يجاب عنه بأن الذي أوجب الفرقة بين المسلمة المهاجرة إلى دار الإسلام وزوجها الكافر في دار الكفر هو إسلامها، لا هجرتها، أي: هو
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر، (1/ 94).
(2)
درر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر، (1/ 95).
اختلاف دينِها عن دينِه، لا دارِها عن دارِه.
وفي هذا يقول ابن العربي: "الذي أوجب فُرْقَةَ المسلمة من زوجها هو إسلامُها، لا هجرتُها؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد قال: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] فبيَّنَ أن العلة عدم الحِلِّ بالإسلام، وليس باختلاف الدارين"(1)، ووافقه القرطبي حيث قال:"هذا أدلُّ دليلٍ على أن الذي أوجب فُرْقَةَ المسلمة من زوجها إسلامُها، لا هجرتُهَا. . . وقال ابن عبد البر: لا فَرْقَ بين الدارين، لا في الكتاب والسنة، ولا في القياس، وإنما المراعَى في ذلك الدينانِ، فباختلافهما يقع الحكم وباجتماعهما، لا بالدار، والله المستعان"(2).
وقال ابن القيم: "قال الجمهور: لا حجة لكم في شيء من ذلك؛ فإن قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} [الممتحنة: 10] إنما هو في حال الكفر؛ ولهذا قال: {وَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] ثم قال: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] وأما قوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] فقد تنازع الناس فيه، فقالت طائفة: هذا منسوخ، وإنما كان ذلك في الوقت الذي كان يجب فيه رَدُّ المهر إلى الزوج الكافر إذا أسلمت امرأته، وأما من لم يَرَهُ منسوخًا فلم يجب عنده رَدُّ المهر لاختلاف الدارين، بل لاختلاف الدين، ورغبة المرأة عن التربص بإسلامه؛ فإنها إذا حاضت حيضة ملكت نفسها، فإن شاءت تزوجت وحينئذٍ تَرُدُّ عليه مهرَهُ، وإن شاءت أقامت وانتظرت إسلامه.
وأما قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] فإنما ذلك بعد انقضاء عدتها ورغبتها عن زوجها، وعن التربص بإسلامه، كما قال تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230] والمراد بعد انقضاء عدتها ورضاها، وأما قوله: {وَلَا
(1) أحكام القرآن، لابن العربي، (4/ 230).
(2)
تفسير القرطبي، (18/ 63 - 64).
تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] فهذا لا يدلُّ على وقوع الفرقة باختلاف الدار، وإنما يدلُّ على أن المسلم ممنوعٌ من نكاح الكافرة المشركة، ونحن لا نقول ببقاء النكاح مع شركها، بل نقول: إنه موقوفٌ فإن أسلمتْ في عدتها أو بعدها فهي امرأته" (1).
وأجاب الحنفية عن ذلك:
بأن الآية الكريمة واردة في بيان حكم المؤمنات المهاجرات من دار الحرب إلى دار الإسلام، مفارقات أزواجهن المشركين في دار الحرب، والحكم الذي وردت به الآية هو وقوعُ الفُرْقَةِ بينَ المؤمنة المهاجرة إلى دار الإسلام، وبين زوجها الكافر في دار الحرب، وإباحة نكاحها لمن شاءت من المسلمين، فدلالة الآية على وقوع الفرقة باختلاف الدارين واضحة (2).
وقوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] نصٌّ في وقوع الفُرْقَةِ بين الزوجين باختلاف الدار؛ لأن الزوجية لو كانت باقية بينهما لكان هو أحق بها (3).
وأجيب عن ذلك:
بأن الآية الكريمة لا دلالةَ فيها على وجوب الفُرْقَةِ بين الزوجين في الحال عند اختلاف الدار بينهما، بل غاية ما تدلُّ عليه، هو أن الذي يوجب الفُرْقَةَ بين المسلمة وزوجها الكافر هو إسلامُها لا هجرتُها؛ لأن الله تعالى يقول:{لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] فبين أن العلة عدم الحل بالإسلام، وليس باختلاف الدارين (4).
وكذلك قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] لا دلالةَ فيها على
(1) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 731 - 732).
(2)
أحكام القرآن، للجصاص، (3/ 430)، أحكام القرآن، لابن العربي، (4/ 230)، تفسير القرطبي، (18/ 63 - 64).
(3)
الجوهر النقي، لابن التركماني، (7/ 189).
(4)
أحكام القرآن، لابن العربي، (4/ 230)، تفسير القرطبي، (18/ 63).
وجوب الفُرْقة بينهما عند اختلاف الدار، بل غاية ما تدلُّ عليه الآية -كما قال ابن القيم-: أن المسلم لا يجوز له أن يتزوج المشركة، وإذا أسلم لا يبقى النكاح بينهما إلا إذا أسلمت أثناء العدة، أما إذا لم تُسْلِمْ، فَيُفَرَّق بينهما؛ لاختلاف الدين بينهما (1).
2 -
مناقشة أدلتهم من السنة:
الحديث الذي استدلوا به، ضعيف الإسناد (2)، فقد قال الإمام أحمد عن هذا الحديث: إنه ضعيفٌ أو واهٍ، ولم يسمعه الحجاج (3) من عمرو بن شعيب إنما سمعه من محمد ابن عبيد العرزمي (4)، والعرزمي حديثه لا يساوي شيئًا، والحديث الصحيح:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّهما على النكاح الأول"(5)، وقال الترمذي:"في إسناده مقال"(6)، وقال الدارقطني:"هذا الحديث لا يثبت، وحجاج لا يُحْتَجُّ به، والصواب حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رَدَّها بالنكاج الأول"(7).
وعلى فرض صحته، فهو معارَض بحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي سبق بيانه، وهو أصح منه.
قال البيهقي: "بلغني عن أبي عيسى الترمذي أنه قال: سألت عنه البخاري
(1) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 732).
(2)
لأن فيه الحجاج بن أرطأة، قال عنه ابن حجر:"كثير الخطأ والتدليس"، تقريب التهذيب، (1/ 152).
(3)
هو الحجاج بن أرطأة بن ثور بن هبيرة النخعي الكوفي، قاضٍ من أهل الكوفة، صدوق كثير الخطأ والتدليس، توفي بخراسان أو بالري سنة 145 هـ. تقريب التهذيب، (1/ 152)، وتاريخ بغداد، (8/ 230)، وميزان الاعتدال، (1/ 213).
(4)
هو محمد بن عبيد الله بن أبي سليمان العرزمي الفزاري الكوفي، أبو عبد الرحمن، كان يحفظ الحديث ويرويه، وليس بثقة، ضاعت كتبه فحدَّث من حفظه، فأتى بمناكير، ولد سنة 77 هـ، وتوفي سنة 155 هـ، تقريب التهذيب، (2/ 187)، والأعلام، (6/ 258).
(5)
مسند الإمام أحمد، (1/ 351).
(6)
سنن الترمذي، (3/ 447).
(7)
سنن الدراقطني، (4/ 374).
-رحمه الله فقال: حديث ابن عباس أصح في هذا من حديث عمرو بْن شعيب" (1).
وأجيب عن ذلك:
بأن حديث عمرو بن شعيب، وإن كان ضعيفًا إلا أنه يتقوَّى بغيره من الأدلة التي أَوجبت الفُرْقَةَ بين المسلمة المهاجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، وزوجها الكافر المقيم بدار الحرب.
قال ابن التركماني: "الحديث عندنا صحيح"(2).
وقال ابن عبد البر: "وحديث عمرو بن شعيب تُعَضِّدُهُ الأصول"(3)، وقد صرَّح فيه بوقوع عقد جديد، والأخذ بالصريح أولى من الأخذ بالمحتمل، ويؤيده مخالفةُ ابن عباس رضي الله عنهما لما رواه، كما حكى ذلك عنه البخاري أنه قال:"إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرمت عليه"(4).
وقال الترمذي: "قال يزيد بن هارون: حديث ابن عباس أجود إسنادًا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب"(5).
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما وإن كان أصح منه، لكنه منسوخ كما قال ابن عبد البر:"وهذا الخبر -يعني: خبرَ ابن عباس- وإن صح فهو متروك منسوخ عند الجميع؛ لأنهم لا يجيزون رجوعه إليها بعد خروجها من عادتها، وإسلام زينب كان قبل أن ينزل كثير من الفرائض"(6).
(1) السنن الكبرى، للبيهقي، (7/ 188).
(2)
الجوهر النقي مع السنن الكبرى، (7/ 189).
(3)
التمهيد، لابن عبد البر، (12/ 24).
(4)
سبق تخريجه.
(5)
سنن الترمذي، (3/ 449).
(6)
التمهيد، لابن عبد البر، (12/ 20 - 21).
وعلى فرض أن الحديث ليس منسوخًا، يمكن الجمعُ بين الحديثين، بأن معنى حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رَدَّهَا عليه بالنكاح الأول، يريد على مثل النكاح الأول من الصداق وغيره، ولم يُحْدِثْ زيادةً على ذلك من شرطٍ ولا غيرِهِ (1).
وأجيب عن ذلك:
بأن حديث عمرو بن شعيب لا يقوى على معارضة حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأنه أصح فيقدم عند التعارض.
وقولهم: بأن حديث عمرو بن شعيب، وإن كان ضعيفًا، فإن الآية تؤيده وتشهد له، فهذا غير مسلَّم؛ لأن الآية لا دلالة فيها على وجوب وقوع الفرقة بين الزوجين في الحال، عند اختلاف الدار بينهما.
وبهذا يضعف استدلال الحنفية بهذا الحديث.
3 -
مناقشة أدلتهم من المأثور:
أثرُ عمر رضي الله عنه الذي استدلوا به، لا وجود له إلا في كتبهم، وليس موجودًا، في كتب السنن والآثار المشهورة، وهذا مما يُضْعِفُ الاستدلالَ به.
وعلى فرض وجوده، فلا دلالةَ لهم فيه؛ لأن عمر رضي الله عنه عندما قال: من أراد أن تَبِيْنَ امرأته منه فليهاجِرْ، قصد بذلك أنها تبين منه بالإسلام، لا باختلاف الدار؛ لأن اختلاف الدار لا أثر له في الفُرْقَةِ، وإنما الأثر لاختلاف الدين.
4 -
مناقشة أدلتهم من المعقول:
الرد على الوجه الأول:
قولهم بأن تباين الدارين مُفَوِّتٌ لمقاصدِ النكاحِ، هذا غير صحيح؛ لأن اختلاف
(1) المرجع السابق، (12/ 24)، نيل الأوطار، للشوكاني، (6/ 195).
الدار إنما يؤثِّر في انقطاع الولاية وعدم السيادة، وهما لا يوجبان انقطاعَ الزواج، وليس لهما تأثيرٌ في الفُرْقَةِ؛ ولهذا لو أسلمت المرأة في دار الكفر، ويقي زوجها الكافر مستأمنًا بدار الإسلام، لا تقع الفُرْقَةُ بينهما بمثل هذا التباين، ولا تقع الفُرْقَةُ بينهما إلا باختلاف الدِّينِ.
وكذلك لو دخل المسلم دار الكفر بأمان لا تقع الفُرْقة بينه وبين زوجته المسلمة التي في دار الإسلام، وأيضًا لو كان لانقطاع الولاية تأثير على الزواج لوقعت الفُرْقة بين الزوجينِ الذَينِ أحدهما في دار البغي، والآخر في دار العدل، وليس كذلك (1).
الرد على الوجه الثاني:
قولهم بأن أهل دار الحرب كالموتى في حقِّ أهل دار الإسلام، هذا غير صحيح؛ لأن هناك فرقًا بين الموت، واختلاف الدار، فالموت قاطع للأملاك، ومن بينها: عصمة النكاح، أما اختلاف الدار فهو غير قاطع للأملاك، وبهذا يكون لا أثر له في انقطاع العصمة بين الزوجين.
الرد على الوجه الثالث:
قولهم بأن الدار اختلفت بين الزوجين حقيقةً وحكمًا، فوجب أن تقع الفرقة بينهما، كالحربية إذا دخلت دار الإسلام بأمان، ثم أسلمت، فإن الفرقة تقع بينها وبين زوجها الذي في دار الحرب في الحال.
قال ابن القيم رحمه الله-في الرد عليه-: "هذا مُنْتَقَضٌ بانتقالِ المسلم إلى دار الحرب، ودخول الحربية إلى دار الإسلام ودخول الحربي بأمان لتجارة أو رسالة، فإن الفرقة لا تقعُ، وأمَّا الحربية إذا دخلت دار الإسلام وأسلمت؛ فالموجِبُ للفُرْقة هناك اختلاف الدِّين دون اختلاف الدارين، ألا ترى أنه لو وُجِدَ في دار واحدة كان الحكم كذلك"(2).
(1) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 729 - 730).
(2)
المرجع السابق، (2/ 732).
الرد على الوجه الرابع:
قولهم بأن اختلاف الدارين يقطع الميراث؛ فالذمي إذا مات في دار الإسلام، وخلف مالًا وله ورثة في دار الحرب، لم يستحقوا من ماله شيئًا؛ لاختلاف الدارين بينهم، فكذلك يقطع عصمة النكاح.
قال ابن القيم -في الرد عليه-: "انقطاع الإرث بينهما لم يرجع إلى اختلاف الدارين، لكن رجع إلى قطع الموالاة والنصرة؛ ولهذا لو كان ذميًّا في دار الإسلام فَدَخَلَ قريبُهُ الحربيُّ مستأمنًا ليقيم مدة ويرجع إلى دار الحرب لم يتوارثا، وإن كانت الدار واحدة"(1).
أما قياسهم الفُرْقَةَ بين الزوجين عند اختلاف الدارين بينهما على الفُرْقَةِ بينهما بنسب أو رضاع فهو قياس مع الفارق، وغير معتبر؛ لأن الفُرْقَةَ بين الزوجين بنسب أو رضاع قد تكون في دار واحدة بخلاف الفُرْقَةِ باختلاف الدارين؛ فإنها لا تكون في دار واحدة.
ثالثًا: الرد على أصحاب القول الثالث:
الدليل الأول: آية سورة الممتحنة:
هذه الآية لم تَقُلْ صراحة بفسخ عقد النكاح، ولكنها قررت عدمَ الحِلِّيَّةِ، وهذا يقتضي فسخَ العقد، وقررت إباحة الزواج للمسلمة المهاجرة من زوج آخر، وهذا يقتضي فسخَ العقد الأول، وقصة زينب أثبتتْ أن العقدَ لا يزالُ موجودًا، ولكنَّ التفريقَ الحسيَّ عن زوجها كان قائمًا؛ ولذلك رَدَّهَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى زوجها بعد إسلامِهِ، فالعقد موجود، لكن التفريقَ الحسيَّ واجبٌ ريثما يتمُّ فسخُهُ، أو يُسْلِمُ الزوجُ.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]:
إن تطليق عمر لزوجتيه المشركتين المقيمتين بمكة يدلُّ على أن الأمر الإلهي
(1) المرجع السابق، (1/ 371).
بالطلاق ليس طلاقًا مباشرًا، بل لا بد أن يُنَفِّذَ المسلمُ هذا الأمرَ ويُطَلِّقَ، فإنْ لم يفعلْ فقد وقع في المحذور، ومثل هذا الحكم ينطبقُ على المرأة المرتبطة بعقد سابقٍ حين تُسلم ويبقى زوجها على دِينِهِ.
الدليل الثالث: من السنة المطهرة:
قولهم بأن العمل بعد الهجرة استمرَّ على أن اختلاف الدِّينِ لم يكن يُفَرِّقُ بين المرأة وزوجها، بدليلِ بقاءِ المستضعفاتِ في مكة مع أزواجِهِنَّ، ومنهن أُمُّ الفضل زوجةُ العباسِ، وزينبُ بنتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم زوجةُ أبي العاص بن الربيع.
فيجاب عنه على النحو التالي:
1 -
أما أُمُّ الفضل لبابةُ بنتُ الحارث زوجةُ العباس بن عبد المطلب، فقد أسلمتْ قَبْلَ العباس، وكان ابنها عبد الله بن عباس مسلمًا تبعًا لها، وهو من الوِلْدَانِ، وقد صح عنه أنه قال:"كنت أنا وأمي من المستضعفين، أنا من الوِلْدَانِ، وهي من النساء"، وقد علَّقَ عليه الذهبي بقوله: فهذا يُؤْذِنُ بأنهما أسلما قبل العباس وعجزا عن الهجرة (1).
وهذا يعني: أن أُمَّ الفضل كانت مع العباس مسلمةً وهو كافر، قبل أن ينزلَ حكمُ وجوبِ التفريق بين الزوجين باختلاف الدِّين، فلا حرج عليها، وإن كانت قد بقيتْ عنده بعد نزول هذا الحكم ومعرفتها به؛ إذ ربما نزل الحكم ولم تَعْرِفْ به؛ لأنها ليست في دار الإسلام، فهي معذورة؛ لأنها كانت مستضعفة، والإعذار هنا حكمٌ عامٌّ مبنيٌّ على رفع الحرج في هذا الدِّين.
2 -
أما زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم زوجة أبي العاص بن الربيع، فقد هاجرت بعد رجوع زوجِها من أَسْرِهِ ببدر، وكان ذلك يقينًا قبل نزول آية البقرة، وآية الممتحنة، فعندما
(1) سير أعلام النبلاء، للذهبي، (2/ 315).
كانت مع زوجها في مكة لم يكن حكمُ التفريق بسبب اختلاف الدِّينِ قد نزل، وعندما نزل هذا الحكم كانت مفارِقةً لزوجها، وإن بقي العقدُ معلَّقًا موقوفًا، وإذا كانت رواية ابن إسحاق عن أَسْرِ أبي العاص وإجارَتهِ من قِبَلِ زوجَتِهِ زينبَ، وقبولِ رسولِ الله هذا الجوارَ، وقولِهِ لها:"أي بُنَيَّةُ، أكرمي مثواهُ، ولا يخلصَنَّ إليكِ، فإنك لا تَحِلِّينَ له". رواية ضعيفة وفق تحقيق الشيخ الجديع، إلَّا أنها هنا لم تنشئ حكمًا جديدًا حتى نحتاج إلى توثيقها، بل هي تأكيد للحكم الثابت بالنص:{لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]؛ ولأنه حتى ولو لم تَرِدْ هذه الروايةُ أصلًا فإن مفارقةَ زينب لزوجها بعد بدر وانقطاعَ الحياة الزوجية بينهما فعلًا ونزول آيتي البقرة والمتحنة قبل ذلك يجعلُ التفريقَ بين زينب وأبي العاص أمرًا ظاهرًا، وإن لم يتمَّ بعد فسخ العقد نهائيًّا، وعلى من يريد القول بأن جوارَ زينبَ لأبي العاص وإطلاقَ أَسْرِهِ أدَّى إلى عودة العلاقة الزوجية بينهما أثناءَ وجوده في المدينة وهو على كفرِهِ- أن يثبت ذلك؛ لأنه ادِّعاء خلاف الظاهر، والصحيح أنه لم تَرِدْ أية روايةٍ -ولو ضعيفة- تتحدث عن هذا الأمر، فتبقى رواية: لا يخلصَنَّ إليكِ؛ فإنكِ لا تَحِلِّينَ له، مقبولةً، ولو كانت ضعيفة؛ لأنها متوافقة مع النصوص، ومع الواقع، وهي لم تشرع حكمًا جديدًا، ولكنها تأكيد لحكم ثابت.
إن قصة زينب تؤكد -إذًا- أن اختلاف الدِّين فَرَّقَ بينها وبين زوجِهَا، ولو حصل ذلك بعد سنواتٍ طويلةٍ من حياتهما المشتركة، ويزيد ذلك تأكيدًا ما ثبت من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَدَّ زينب إلى زوجها أبي العاص بعد إسلامه بالنكاح الأول، فلماذا الرَّدُّ إذا لم تكنِ الفُرْقَةُ حاصلةً؟
3 -
ليس مقبولًا القولُ بأن العمل استمرَّ بعد الهجرة على أن اختلاف الدِّين لم يكن يُفَرِّقُ بين المرأة وزوجها، استدلالًا بالقصتين السابقتين، وقد بيَّنَا أن أُمَّ لبابة
معذورةٌ؛ لأنها كانت من المستضعَفات بمكة، وأن زينب كانت مفارِقة لزوجها.
بينما نجد أن كثيرًا من الروايات الصحيحة، تؤكد أن العمل بعد الهجرة -وخاصة بعد نزول آيتي البقرة والممتحنة - على أن اختلاف الدِّينِ يُفَرِّقُ بين المرأة وزوجها، وحسبنا من هذه الروايات ما ثبت عن ابن عباس:"كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، كانوا مشركينَ أهلَ حربٍ يقاتِلُهم ويقاتلونه، فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تُخْطَبْ حتى تحيضَ وتطهرَ، فإذا طهرتْ حَلَّ لها النكاح، فإنْ هاجَرَ زوجُهَا قبل أن تنكح رُدَّتْ إليه"(1).
الدليل الرابع: من الأدلة الأصولية:
قولهم شرعُ مَنْ قَبْلَنَا شرعٌ لنا ما لم يَرِدْ في شرعنا ما يَنسخُهُ، مردود بثبوت الناسخ، وهوَ آيةُ سورةِ البقرةِ: وما دام أن النسخ صحَّ بهذه الآية الواضحة القاطعة، ثم أجمع عليه المسلمون بعد ذلك فقدْ سقط الاستدلال بقصة امرأتي نوح ولوط وآسية زوجة فرعون، مع الإشارة إلى أن زوجة فرعون كانت مكرَهة، وبالتالي فإن اعتبارَ الإكراهِ حالةٌ تبيحُ للزوجة المسلمة أن تظلَّ مع زوجها الكافر هي حالةٌ موجودةٌ عندنا لدى النساء المستضعَفات بمكة، وقد عَذَرَهُنَّ الله تعالى.
الدليل الخامس: من المعقول:
القول بأن أنكحة الكفار فيما بينهم صحيحة بإطلاق طالما هم على الكفر -مسلَّم، لكنها ليست صحيحة إذا أسلم الزوجان أو أحدهما، بل هي أنواع:
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات، هل يصلى عليه؟، (1357)، عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا، فقه الإمام البخاري، د. محمد أبو فارس، دار الفرقان، عمان، (2/ 577).
النوع الأول: أن لا يكون في أنكحة الكفار، إذا أسلموا أو أسلم أحد الزوجين، أيُّ سببٍ من أسباب الفساد لو أردنا إجراءَهَا الآنَ، فهذِهِ تستمِرُّ على الصحة بلا خلافٍ.
النوع الثاني: أن يكون في أنكحة الكفار، إذا أسلموا أو أسلم أحد الزوجين -سببُ فسادٍ يرجعُ إلى حرمة المحلِّ، أي: أن هذه المرأة لا يحلُّ لها الزواجُ من هذا الرجل لو أردنا إجراءَ عقدِهَا الآن، كأن تكونَ محرَّمَةً عليه بالقرابةِ أو بالمصاهرَةِ أو بالرَّضاع، أو أن يكون للزوج -عندما أسلم- أكثرُ من أربعِ زوجاتٍ، أو أن تكون ممن لا يحلُّ للرَّجلِ أن يجمع بينها وبين زوجةٍ ثانيةٍ، ففي هذه الحالةِ يجبُ فسخُ النكاحِ بينَ الرَّجُلِ والمرأة المحرَّمَةِ عليه، وبينه وبين ما يزيدُ عن الأربع زوجات، وبينه وبين إحدى الزوجتين التي لا يجوز الجمعُ بينهما، وبالتالي يجب التفريقُ بين الزوجين إذا أسلما أو أسلم أحدهما، وكل ذلك ثابتٌ بالسنة الصحيحة، ولا خلافَ عليه.
النوع الثالث: أن يكون في أنكحة الكفار سببُ فسادٍ، ولكنه لا يرجع إلى حرمة المحلِّ، كأن يكون العقد قد تمَّ بغير شهود، أو بدون إذن الولي، بحيث إننا لو أردنا عقدَ الزواج الان يمكننا أن نستدرِكَ هذه الأسبابَ فنأتي بالشهودِ، أو نحصل على موافقة الولي، ففي مثل هذه الحالة تعتبر عقود الكفار صحيحة.
الدليل السادس: من المعقول:
وهو أن العمل بين المسلمين قبل الهجرة كان على صحة العقود السابقة للإسلام وبقائها بعد الإسلام، مما يدلُّ على أن تغيير الدِّينِ لم يكنْ مؤثرًا في صحة عقود النكاح السابقة.
وأجيب:
هذا صحيح، ولكنه ليس دليلًا في موضع النزاع؛ لأن الذين يقولون بإبطال العقود السابقة بسبب اختلاف الدِّين، أو الذين يقولون بوجوب التفريق بين الزوجين إذا أسلمت المرأة وبقي زوجها على دِينِهِ، يستندون إلى آيتي البقرة والممتحنة؛ إذ هي التي
تبين الحكم الشرعي في هذه المسألة، ومن المعروف أن القرآن الكريم نزل منجمًا، وأن الأحكام الشرعية وردتْ أيضًا بالتدريج، ولا يخالف أيٌّ من العلماء في أن تحريم زواج المسلمة من غير المسلم شُرِعَ بعد الهجرة مع نزول آية البقرة، ولا يقول أحد: إن تحريم بقاء المسلمة مع زوج غير مسلم كان قبل نزول آية الممتحنة.
نعم، إن تغيير الدِّينِ لم يكن قبلَ الهجرة مؤثِّرًا على صحة عقودِ النكاح السابقة؛ لأنه لم يكنْ قد وَرَدَ الدليلُ المخالفُ لذلك، وأصبح مؤثِّرًا ومؤدِّيًا إلى التفريق بين الزوجين بعد نزول آية الممتحنة، كما ذكرنا.
الدليل السابع: من المعقول:
وهو أن التفريق لا يحقق مصلحة، بل هو مفسدة؛ لأنه يُنَفِّرُ من الدخول في الإسلام. أقول:
1 -
معلوم أن الشرع إذا أَمَرَ بشيء فهو مصلحة، وإذا نهى عن شيء فهو مفسدة، ولو لم يدركْ ذلك الناسُ بعقولهم؛ لأن المصلحة أو المفسدة تتبع النصَّ الشرعيَّ، إن وُجِدَ، وإذا ظَنَّ الناسُ وجودَ مصلحة في مخالفة النصِّ فهي مصلحة متوَهَّمة، وليست حقيقية.
وعليه: فإن تفريق المرأة المسلمة عن زوجها غير المسلم هو المصلحة؛ لأنه أَمْرُ الله، وهو لا يُنَفِّرُ من الدخول في الإسلام أكثر من تفريق المرأة المسلمة إذا كانت محرَّمَةً على زوجها الكافر بسبب القرابة، أو المصاهرة، أو الرضاع، أو غير ذلك، وهذه زينب فَرَّقَهَا الإسلام عن زوجها أبي العاص ولم يَنْفِرْ، بل دخل في دين الله حين قُدِّرَتْ له الهداية.
الترجيح:
بعد عرض الأدلة ومناقشتها يتبين: أن أَولى الأقوال وأرجحَها وأوسطَها قولُ ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى.
وخلاصته: أن المرأة إذا أسلمتْ فلها أن تقيم مع زوجها متربصةً به الإسلام، على
ألَّا تُمَكِّنَهُ من نفسها، ويكون عقدها هنا موقوفًا فإن اختارت الفُرْقَةَ وأن تنكح غيره فلها ذلك، وإن أحبت البقاءَ من غير وطءٍ فالأمْرُ إليها.
وهو قولٌ يَجمعُ بين رعاية المرأة وترغيبها في الإسلام، ورعاية الرجل والأسرة وترغيبهم أيضًا في الإسلام.
ولا شك أن في هذا القول إعمالًا لقوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] إلا أن هذا القول يُفَارِقُ الجمهورَ فيما لو دخل الزوجُ إلى الإسلام بعد العِدَّةِ فإنه لا يعود إليها إلا بعقدٍ ومهرٍ جديدين، عند الجمهور، وأما شيخ الإسلام، وابن القيم فيعيدانه إليها بنفسِ العقدِ الأول، وهو قولٌ يستفيد من واقعة زينب وزوجها رضي الله عنهما.
وقد نص المجلس الأوربي للإفتاء على أرجحية هذا القول وتبنَّاهُ، مقدِّمًا إيَّاهُ على قول الجمهورِ، فجاء في بيانه الختامي في دورته العادية الثامنة:
القرار (3/ 8) في موضوع: إسلام المرأة وبقاء زوجها على دِينِهِ، ما يلي:
بعد اطلاع المجلس على البحوث والدراسات المختلفة في توجهاتها، والتي تناولت الموضوع بتعميق وتفصيل في دورات ثلاث متتالية، واستعراض الآراء الفقهية وأدلتها، مع ربطها بقواعد الفقه وأصوله، ومقاصد الشرع، ومع مراعاة الظروف الخاصة التي تعيشها المسلمات الجديدات في الغرب حين بقاء أزواجهن على أديانهم؛ فإن المجلس يؤكد أنه يحرم على المسلمة أن تتزوج ابتداءً من غير المسلم، وعلى هذا إجماع الأمة سلفًا وخلفًا، أما إذا كان الزواج قبل إسلامها فقد قرر المجلس في ذلك ما يلي:
أولًا: إذا أسلم الزوجان معًا ولم تكن الزوجة ممن يحرم عليه الزواج بها ابتداءً كالمحرمة عليه حرمةً مؤبدةً بنسب أو رضاع فهما على نكاحهما.
ثانيًا: إذا أسلم الزوج وحده، ولم يكن بينهما سببٌ من أسباب التّحريم، وكانت
الزوجة من أهل الكتاب فهما على نكاحهما.
ثالثًا: إذا أسلمتِ الزوجةُ وبقي الزوج على دينه فيرى المجلس:
أ - إن كان إسلامُهَا قبل الدخولِ بها فتجبُ الفُرْقَةُ حالًا.
ب - إن كان إسلامها بعد الدخولِ، وأسلم الزوج قَبْلَ انقضاءِ عِدَّتِهَا، فهما على نكاحِهِمَا.
جـ - إن كان إسلامها بعد الدخول، وانقضتِ العدةُ، فلها أن تنتظرَ إسلامَهُ، ولو طالتِ المدةُ، فإن أَسْلَمَ فهما على نكاحهما الأول، دون حاجة إلى تجديد له.
د - إذا اختارت الزوجة نكاحَ غيرِ زوجها بعد انقضاء العدة، فيلزمُهَا طلبُ فسخِ النكاح عن طريق القضاء.
رابعًا: لا يجوز للزوجة -عند المذاهب الأربعة- بعد انقضاء عدتها البقاءُ عند زوجها، أو تمكينُهُ من نفسها. ويرى بعضُ العلماء أنه يَجُوزُ لها أن تمكثَ مع زوجها بكامل الحقوق والواجبات الزوجية، إذا كان لا يضيرها في دينها، وتطمعُ في إسلامه؛ وذلك لعدم تنفير النساء من الدخول في الإسلام إذا عَلِمْنَ أنهن سيفارِقْنَ أزواجهن ويتركْنَ أُسَرَهُنَّ، ويستندون في ذلك إلى قضاءِ أميرِ المؤمنين عمر بن الخطاب في تخيير المرأة في الحيرة التي أسلمتْ ولم يُسْلِمْ زوجها:"إن شاءتْ فارقته، وإن شاءتْ قَرَّتْ عنده"، وهي رواية ثابتة عن يزيد بْن عبد الله الخطمي، كما يستندون إلى رأي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إذا أسلمتِ النصرانيةُ امرأةُ اليهودي أو النصراني كان أحقَّ ببضعها؛ لأن له عهدًا، وهي أيضًا رواية ثابتة. وثبت مثل هذا القول عن إبراهيم النخعي، والشعبي، وحماد بن أبي سليمان (1).
وهو بيانٌ يعكس وجودَ آراء متعارضة داخل المجلس، وتساهلًا مع القول
(1) المجلة العلمية للمجلس الأوربي، العدد، (2)، (445 - 446).
الضعيف الذي يبدو واهيَ الاعتبار، في حين جاء بيان مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا متحفظًا ومتوافقًا مع مذهب الجمهور، من غير إشارة إلى مذهب شيخ الإسلام إلَّا عند تسبيب قرار المجمع وتوجيهه، حيث نَصَّ على وجاهة مذهب ابن تيمية وابن القيم من غير أن يتبناه المجمع، مع مسيس حاجة مسلمات الغرب إليه.
ومن غير التفاتٍ إلى القول القائل باستدامة الحياة والعشرة، بشرط أن تطمع في إسلامه وألَّا يؤذيَهَا في دينها؛ وذلك لضعفه الظاهر.
وهذا القرار جاء متوافقًا مع قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في هذا الشأن، حيث جاء فيه:
"بمجرد إسلامِ المرأةِ، وإباءِ الزوجِ الإسلامَ ينفسخ نكاحُهُمَا، فلا تَحِلُّ معاشرتُهُ لها، ولكنها تنتظر مدة العدة، فإن أَسْلَمَ خلالها عادت إليه، بعقدهما السابقِ، أمَّا إذا انقضت عدتها ولم يُسْلِمْ فقد انقطع ما بينهما، فإنْ أَسْلَمَ بعد ذلك، ورغبا في العودة إلى زواجهما عادا بعقد جديد، ولا تأثير لما يُسَمَّى بحسن المعاشرة في إباحة استمرار الزواج"(1).
ويلاحَظُ أن القرار لم يحدد أو يطلب قضاءَ قاضٍ ليحكمَ بالبطلان أو الفسخ، في حين أن اتفاق المجلسين الآخرين على الرجوع إلى القضاءِ؛ ليتحقق إنهاءُ العقد السابق، وهو موقفٌ مستوحًى من مذهب الحنفية.
وذلك لأن انفساخ العقد يحتاج إلى توثيق قضائي على الأقل، وكذا فإن رأي ابن القيم وشيخه ابن تيمية، وهو أن الزواج موقوف حتى تنكح زوجًا غيره -على وجاهته- ضعيفُ التطبيقِ في العصر الحاضر؛ إذ لا يُسْمَحُ للمرأة -قضاءً- بالزواجُ من رجل آخر إلا بعد فسخ عقد زواجها السابق، وليس مقبولًا في قوانين جميع الدول،
(1) قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني، مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، (ص 116).
ومنها: قوانينُ الدول الإسلامية المستمَدَّةُ من الأحكام الشرعية، أن يُباحَ للمرأة عقدُ زواجٍ ثانٍ، وهي لا تزالُ على عصمة زوجها الأول، بحجة أن الزواج الأول ينحلُّ حين يُعْقَدُ الزواجُ الثاني، فإذا كان من حَقِّهَا بعد انتهاء العدَّةِ أن تنكح زوجًا آخرَ، فإن هذا الحق لا تستطيع ممارسته قانونيًّا إلا بعد فسخِ عقدِهَا السابقِ، فيكون هذا الفسخُ واجبًا على أقلِّ تقديرٍ لتمكينها من ممارسة حقِّهَا الشرعيِّ بالزواج من آخرَ.
أما طريقةُ فسخِ العقد فهي رفعُ الأمر إلى القضاء في جميع الحالات، ففي دار الإسلام يُعْرَضُ الإسلامُ على الزوج فإنْ أَبَى فَيُفَرِّقُ القاضي بينه وبين زوجتِهِ.
وفي غير دار الإسلام تَطْلُبُ الزوجةُ التفريقَ لأي سببٍ يَنْسَجِمُ مع قوانين بلادها، وعادةً تحكمُ المحاكم بالتفريق، ولو بعد زمن طويل، وإن كان في مذهب الحنفية أن الزوجة إذا أسلمتْ في دار الحرب أو في دار الإسلام تَبِيْنُ عن زوجها إذا لم يُسْلِمْ عند انتهاءِ فترةِ العدةِ، كما سبق بيانه، والله أعلم.