الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمجلات والصحف والإذاعات والفضائيات -يظهر بجلاء ذلك التنوع الضخم في أسئلة النوازل لدى تلك الأقليات الإسلامية فضلًا عن الأسئلة فيما لا يعد من قبيل المسائل المستجدة والقضايا المستحدثة، ولا تخطئ عين متفحص أن هذه الإجابات التي تصدر إلى تلك الأقليات الناشئة في مواطنها المقيمة في بلاد لا تحكم بشريعة ربها، والمتفاوتة في ظروفها وآلامها ومشكلاتها- ترجع إلى ثلاثة مناهج في تعاملها مع تلك الأسئلة، وتعاطيها مع تلك المشكلات.
وفيما يلي بيان مختصر لتلك المناهج:
المنهج الأول: منهج التضييق والإفراط:
وأصحاب هذا المنهج فريقان؛ أهل ظاهرية حديثة، وأهل مذهبية قديمة.
فأما الأولون فعلى الظواهر النصية يجمدون، وعن مقاصد الشريعة يعرضون، لا يقولون بالقياس، ويحمِّلون النصوص فوق ما قد تحتمله من دلالات، ويعتقدون النصوص وحدها وافية بأحكام كل نازلة بطريق النص عليها، أو بما لا يحتمل في الفهم إلا وجهًا واحدًا، وهم يحمِّلون الاستصحاب ما لا يحتمل، وينكرون تغير الفتيا بتغير الأوصاف والأعراف والمصالح والعلل.
وهؤلاء تحملهم ظاهريتهم على تحوطٍ يفضي إلى تشدد؛ لذا يبالغون في سدِّ الذرائع، ولا يعرفون في الفقه إلا رأيًا واحدًا هو الراجح المطلق، وما سواه عدم من العدم!
وعدم إدراك قواعد ومقاصد فقه الأقليات وإعمال تلك الأصول والضوابط يفضي بصاحبه إلى تشديد وتعسيرٍ الشريعةُ منه بريئة.
قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَليْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وفي الحديث: "يسِّروا ولا تعسِّروا وبشِّروا ولا تنفِّروا"(1).
(1) سبق تخريجه.
وقد قال الإمام أحمد: "من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدد عليهم"(1).
وليت هؤلاء حين شددوا في رأي أحالوا على غيرهم؛ فإنه يجوز للمفتي أن يحيل من استفتاه على غيره ممن يخالفه القول في أمر اجتهادي لا نصَّ فيه ولا إجماع، ولو كان شأنه خطيرًا؛ لأن قصارى ما عند هذا المفتي هو ما انتهى إليه رأيه، ولعله يتهم رأيه إن كان منصفًا، ولعل ما عند غيره من الرأي أولى وأفضل مما عنده!
وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن مسألة في الطلاق فقال: "إذا فعله يحنث". فقال له السائل: إن أفتاني أجد بأنه لا يحنث -يعني: يصح؟ - فقال: "نعم، تعرف حلقة المدنيين؟ "؛ فَدَلَّهُ على مفتٍ يخالفه في اجتهاده؛ لما في ذلك من السعة على المستفتي (2).
وبالجملة فإن هؤلاء الصنف يغلب عليهم التشديد، ويتجافون عن التيسير، ويغلب عليهم التعصب لرأي في أمر اجتهادي، أو تشدد في أمر خلافي، وقد قال سفيان الثوري:"إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد"(3).
وأما الصنف الثاني فهم أصحاب المذهبية المفرطة، الذين يعتقدون أنه يجب على كل أحد أن ينتمي إلى أحد المذاهب الأربعة المتبوعة، ويُلزمون علماء كل مذهب بالاجتهاد في إطاره فحسب؛ تخريجًا على قول الإمام أو الأصحاب، فإذا سُئلوا فإنهم لا يُفتُون إلا بنص الإمام أو تخريجًا أو إلحاقًا، فإن لم يجدوا كان المنع والحظر إليهم أقربَ من الإباحة والحِلِّ.
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وإذا نزلت بالمسلم نازلة يَستفتي من اعتقد أنه يُفتيه
(1) الآداب الشرعية والمنح المرعية، لشمس الدين محمد بن مفلح، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعمر القيام، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 3، 1419 هـ - 1999 م، (1/ 189).
(2)
كشاف القناع، للبهوتي، (6/ 300)، البحر المحيط، للزركشي، (6/ 319).
(3)
جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (2/ 784).
بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان، ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يوجبه ويخبر به؛ بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم" (1).
وهم يغلبون إطلاق قاعدة "الخروج من الخلاف مستحب"؛ فكل ما وقع للأقليات من مسائل، أو جاء من ديارهم من أقضيات فهو محل شبهة فينبغي أن يحتاط فيها ويفتوا بالأشد، وبالاحتياط.
وقاعدة: "الخروج من الخلاف مستحب" مقيدة بقيود يتعين مراعاتها، منها:
- ألَّا يؤدي الخروج من الخلاف إلى الوقوع في محظور شرعي.
- ألَّا يكون دليل المخالف معلومَ الضعفِ فلا يلتفت عندئذٍ إلى خلافه.
- ألَّا يؤدي الخروج من الخلاف إلى وقوع في خلاف آخر.
- ألَّا يكون العامل بالقاعدة مجتهدًا، فإذا كان مجتهدًا لم يجز له الاحتياط فيها، بل ينبغي عليه أن يُفتي الناس بما ترجح عنده من الأدلة والبراهين (2).
ومما لا شك فيه أن حاجة الأقليات إلى السعة والتيسير بالغة، فلو أن امرأة مسلمة في ديار غير المسلمين لا عائلَ لها ولا مُعينَ، ثم مات عنها أبوها غير المسلم تاركًا لها ما يكفي سدادًا من عيشها وصلاحًا لحالها، وغناءً من فقرها وحاجتها في ذلك المجتمع غير المسلم الذي لا يقيم للنساء قدرًا، ولا يرعى لهن حرمة -أفلا يتسع الفقه الإسلامي في تلك الديار لأن تُفْتَى بجواز أخذها لإرثها من أبيها؟ وهذا وإن خالف ظاهرَ نصٍّ، ومذاهبَ الأربعة الفقهاء فإنه قد وافق قول معاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان من الصحابة،
(1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (20/ 208 - 209).
(2)
العمل بالاحتياط في الفقه الإسلامي، لمنيب محمود شاكر، دار النفائس، الرياض، ط 1، (ص 118).