الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسائل لا يسوغ، وينكر فيها على المخالف لعقيدة السلف.
5 -
أن تكون المسألة المجتهد فيها من النوازل والوقائع، أو مما يمكن وقوعها في الغالب، وتمس الحاجة إلى معرفة أحكامها، كما سبق (1).
ثالثًا: تقوى الله وصدق اللَّجَأ إليه تعالى وسؤاله التوفيق:
وهذا من أهم الآداب التي يتعين على المفتي والمجتهد مراعاتها عند النظر؛ ليحصل له التوفيق للصواب، فإنَّ الله تعالى يقول عن الملائكة:{قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32].
ويقول سبحانه: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، ويقول سبحانه:{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 25 - 28].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت"(2).
وفي قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 105 - 106]، الأمر بالاستغفار مقرونًا بالحكم بين الناس، مما يشير إلى أنه ينبغي للمفتي أن يستغفر ربه، ويلجأ إليه قبل الإفتاء والحكم.
(1) الرسالة، للشافعي، (ص 560)، الفصول في الأصول، للجصاص، (4/ 13)، الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (1/ 504)، الموافقات، للشاطبي، (5/ 114 - 118)، إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 67 - 69)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 584 - 588)، جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي، (1/ 241 - 252).
(2)
أخرجه: أبو داود، كتاب الأدب، باب: ما يقول إذا أصبح، (5090)، والبخاري في "الأدب المفرد"، (701)، والإمام أحمد في "مسنده"(5/ 42)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (3/ 250).
إنَّ من أعظم المزالق عند بعض المفتين ضعف الصلة بالله تعالى، وقلة اللَّجَأ إليه، والاعتماد على ما أوتيه المرء من ذكاء؛ ولذا يكثر من هؤلاء اتباع الهوى، وإرضاء الناس رعاة كانوا أو رعية، وقد حذر الله تعالى من ذلك، فقال سبحانه:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49].
إنَّ هذا الصنف من المفتين عزيز ليس في زماننا فحسب، بل وفيما مضى من الأزمنة، كما قال سفيان الثوري رحمه الله:"ما من الناس أعزُّ من فقيه ورع"(1).
إذ العلم الحقيقي هو ما أورث الخشية من الله، كما قال سبحانه:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. وقال ابن القيم رحمه الله: "ينبغي للمفتي الموفق إذا نزلت به المسألة أن ينبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي لا العلمي المجرد إلى ملهِم الصواب، ومعلم الخير وهادي القلوب؛ أن يلهمه الصواب، ويفتح له طريق السداد، ويدلَّه على حكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة، فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق، وما أجدر مَنْ أَملَ فضلَ ربه أن لا يحرمه إيَّاه، فإذا وجد في قلبه هذه الهمَّة فهي طلائع بشرى التوفيق، فعليه أن يوجه وجهه، ويحدق نظره إلى منبع الهدى ومعدن الصواب ومطلع الرشد، وهو النصوص من القرآن والسنة وآثار الصحابة، فيستفرغ وسعه في تعرف حكم تلك النَّازلة منها، فإن ظفر بذلك أخبر به، وإن اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار والإكثار من ذكر الله؛ فإنَّ العلم نور الله يقذفه في قلب عبده، والهوى والمعصية رياح عاصفة تطفئ ذلك النور أو تكاد، ولا بد أن تضعفه، وشهدتُ شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه إذا أعيته المسائل استصعبت عليه فرَّ منها إلى التوبة
(1) الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (2/ 340).