الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
حكم الطلاق الذي يوقعه القاضي غير المسلم في بلاد الأقليات
تصوير النازلة وتكييفها:
الطلاق من محاسن الشريعة المحمدية، به تنحلُّ عقدة النكاح، ويرتفع الحِلُّ الذي كان بين الزوجين عندما يكون الطلاق هو آخر العلاج والدواء، وكما يقع التفريق بالطلاق فإنه يقع بالفسخ أيضًا، والفسخ قد يكون بتراضٍ بين الزوجين، وهذا هو الخلع، أو يكون بواسطة القاضي لسبب يَحْمِلُ عليه.
والأصل في الإسلام أن الطلاق بيد الزوج بما جعل الله للرجال من القوامة، والقدرة على تحمل المسئولية.
ولا يعني هذا أن الإسلام أخلى المرأة من أن يكون لها حقٌّ في التطليق، أو إيقاع الفُرْقة، فقد جعل لها هذا الحقَّ في حالات، منها:
- أن تشترط المرأة ذلك في صلب عقدها، فيوافق زوجها، كما هو معروف عند الحنفية (1).
- أو أن يقول لها زوجها بعد الزواج أمرك بيدك، أو طلقي نفسك إن شئت، ونحو ذلك، كما هو معروف عند الجمهور (2).
- كما أثبت الإسلام لها أن تطلب من القاضي التفريق حين تكون بالزوج عيوب مَرَضِيَّة تمنع الحياة المستقرة معه، أو إذا غاب غيبة طويلة تتضرر بها المرأة، أو إذا ثبت أنه
(1) حاشية ابن عابدين، (2/ 485).
(2)
المهذب، للشيرازي، (3/ 8)، المغني، لابن قدامة، (8/ 288).
يؤذيها بدنيًّا بما لا تحتمله، ولا يليق بأمثالها، كما هو معروف عند المالكية (1).
وبالجملة فإن هناك أسبابًا كثيرة تَحْمِلُ على التفريق القضائي تندرج جميعًا تحت اسم "الضرر"، وقد نهى الله تعالى الأزواج عن مضارة الزوجات، فقال سبحانه:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، كما قررت السنة أن "لا ضرر ولا ضرار"(2).
وبناءً على ما تقدم فإن المرأة إذا لم تجد مع زوجها حلًّا لمشكلات مزمنة، ولم تفلح محاولات الصلح، أو إذا كان الزوج مستبدًّا بالضرر والإضرار بها؛ فإن لها أن ترفع أمرها بطلب إلى القاضي في بلاد الإسلام فينظر في قضيتها، بما يرفع الظلم عنها.
ولكن كيف يكون الأمر إذا كانت تعيش في بلاد الأقليات، حيث تُفْقَدُ الرايةُ الإسلامية، وتغيب الأحكام الشرعية، وتحل محلها القوانين الوضعية؟
وهل إذا توجهت إلى القضاء غير المسلم لا تكون آثمة، باحتكامها إلى غير شريعة دينها، وبالتقاضي أمام غير مسلم، وبالاختصام إلى قوانين لا صلة لها بدينها؟
وإذا قضى القاضي غير المسلم بطلاقِهَا، أو فَسْخِ نكاحِهَا، هل يُعْتَدُّ -والحال هذه- بحكمه؟ وهل يلزمها -كما يلزم غيرها- ديانًة، فتحل للأزواج بعد صدور هذا الحكم مباشرة، كما لو كانت في بلاد إسلام، وديار إيمان؟
وماذا لو تعارض الحكم الشرعي والقانون الوضعي في هذا الأمر المهم من العلاقات بين الرجل والمرأة؟
ولقد أتى الفقهاء جميعًا على ذكر شرط الإسلام فيمن يتولى القضاء:
ذلك أن الله عز وجل يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141].
(1) المدونة الكبرى، رواية سحنون بن سعيد، (2/ 267).
(2)
سبق تخريجه.
قال القرطبي -في معنى (السبيل) في هذه الآية-: "أي حجة عقلية ولا شرعية يستظهرون بها على المسلمين إلا أبطلها الله وَدُحِضَتْ"(1).
فالقضاء مبناه على أداء الشهادة على المسلم، وقد منعها الله سبحانه وتعالى من الكافر على المسلم، والقضاء والشهادة ولاية، فإذا كان الكافر لا يملك أدنى الولايات على المسلم -وهي أداء الشهادة- فلا يكون له أعلاها وهي القضاء (2).
قال الماوردي: "ولا يجوز أن يُقَلَّدَ القضاء إلَّا من تكاملت فيه شروطه التي يصحُّ معها تقليده وينفذ بها حكمه، وهي سبعة. . . الرابع: الإسلام؛ لكونه شرطًا في جواز الشهادة، مع قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] "(3).
إن الحال في بلاد الغرب جِدُّ مختلفٍ عنه في بلاد الشرق المسلم، ولا سيما في هذا الشأن الخاص بالأسرة وأمن المجتمعات.
وكما أن المرأة قد تتضرر من هذا الوضع، فإن الرجل قد يتضرر بما هو مثل ذلك وأشد، والسبب أن صدور حكم بالطلاق من ذلك القضاء يعني -غالبًا-: اقتسام ثروته مع مطلقته، والتكليف بالإنفاق عليها مدةَ حياتِهَا، ورعايتها مع الأبناء بشكل مجحف ومكلِّف، لدرجة قد تدفع الرجل إلى قبول الضيم في شرفه، بدلًا من طلاق زوجته؛ لئلا يغرم ما لا يقدر عليه! أو يتحمل من النفقات ما لا طاقة له به!
ومن عجبٍ أن عددًا ممن خلبتهم الشقراء الحسناء فأقبلوا عليها بالزواج دفعوا أموالهم ودين أولادهم ثمنًا لهذا الزواج الذي آل يومًا من الأيام إلى الفراق! وتبعته التبعات والحسرات!
وفيما يلي بعض صور من هذه النازلة:
(1) تفسير القرطبي، (5/ 420).
(2)
بدائع الصنائع، للكاساني، (7/ 3)، المغني، لابن قدامة، (14/ 12، 14).
(3)
الأحكام السلطانية، للماوردي، (ص 88 - 89).
1 -
قد ترفع الزوجة دعوى على زوجها إلى المحكمة غير الإسلامية، وإلى القاضي غير المسلم طالبةً الطلاقَ من زوجها، لا لضرر لَحِقَهَا، ولا لعيب في ذلك الزوج، ولا لأي مسوغٍ من المسوغات، وإنّما لرغبة مفارقة ذلك الزوج، وتبديل حياتها -كما قالت إحداهن- يعني: لنزوة ألمَّت بتلك المرأة فاستجابت لها، أو لخديعة من أحد الرجال، أو تخبيب من أحد الفتَّانين فوقعت في شراكها.
وبما أن القانون الهولندي قد منح المرأة حقَّ طلبِ الطلاق من المحكمة، على قدم المساواة مع الرجل، دون البحث عن المبرر أو السبب الذي دفعها إلى ذلك؛ فإن المحكمة غالبًا ما تحكم لها بما تريد، فتطلق المرأة من زوجها، سواء رضي الزوج أو لم يرضَ، قَبِلَ أو لم يقبلْ. وهو قانون يطبق على كل مقيم في هذه الدولة، ما دام قد رضي الإقامة بها، سواء رغب في الاحتكام إلى قوانينها، أم لم يرغب، دون مراعاة لدين هذا الشخص أو ذاك، ولا اعتبار لهذه الثقافة، أو تلك (1).
2 -
أن امرأة رفعت ضد زوجها دعوى طلب الطلاق من المحكمة الهولندية، وحصلت عليه بالفعل، لكنَّ الطلاق الشرعي -أو المغربي كما يُطلق عليه أبناء الجالية المغربية- لم يتمَّ، فاعتمدت المرأة على الطلاق الهولندي، وتزوَّجت على أساسه من رجل آخر زواجًا مدنيًّا في البلدية، وولدت منه وَلَدَينِ، وبما أن الطلاق المغربي ما زال لم يتمَّ رفعت على الزوج دعوى النفقة فبقي الزوج الأول معلقًا، لا يستطيع الزواج بامرأة ثانية حتى يُشْعِرَ الأولى برغبته في الزواج من ثانية، ويَأذنَ له القاضي بذلك، وعليه أن ينتظرَ المحكمة المغربية لإصدار حكمها (2).
(1) فقه الأسرة المسلمة في المهاجر، د. محمد العمراني، (2/ 230).
(2)
المرجع السابق، (2/ 231).
3 -
أن المتداعِيَيْنِ في دعوى طلب إثبات طلاق سابق صادر عن محكمة دينية أمريكية قد جرى عقد زواجهما في عمان وسافرا إلى أمريكا، ثم سُجِنَ الزوج وتقدمت الزوجة بدعوى أمام محكمة (سيركت) في مقاطعة (كوك - إلينوي) بطلب فسخ الزواج، فصدر الحكم بها غيابيًّا بحقه؛ نظرًا لوجوده في السجن، وتم تبليغه، وقد مُنِحَ الطرفانِ طلاقًا وفسخ كافة الروابط الزوجية، ويعد الحكم تزوجت بزوج آخر، وأنجبت. منه وَلَدَيْنِ، وأجاب الزوج الأول أن المدعية زوجته، وأنه لم يطلقها قط، وأن الطلاق الذي حصل من المحكمة الأمريكية ليس طلاقًا شرعيًّا؛ كونه لم يتلفظ بالطلاق، وطلبَ فسخَ عقدِ زواجِها من زوجها الثاني، وَرَدَّ دعوى الطلاقِ؛ كونها ما زالت زوجته شرعًا (1).
4 -
مسلم أردني تجنس بالجنسية الأمريكية، وكان تزوج مسلمة وأنجب منها، ثم تم الطلاق بطلبها بحكم محكمة في أمريكا، ثم تزوج بأخرى بناءً على هذا الطلاق، وأنجب منها ومات، فعند تسجيل حصر إرثه من قبل أولاده من الثانية طلب منهم القاضي وثيقة طلاق الأولى، فأبرزوا حكم المحكمة الأمريكية المصدَّق والمكتَسِب للدرجة القطعية، وشهادة تنفيذية له من الأحوال المدنية الأردنية، فرفض القاضي قبوله؛ لأنه حكم أجنبي، ولا ولاية لغير المسلم على المسلم، وَوَرَّثَهَا كزوجة له؛ لعدم صحة طلاق المحكمة الأمريكية، فقالوا: إنها وقتَ وفاةِ أبينا كانت متزوجة بغيره وأنجبت منه، ولا زالت تعيش معه إلى الآن، فقال: زواجها باطل؛ لعدم صحة طلاقها بحكم المحكمة الأمريكية؛ لأنه لا ولاية لغير المسلم على المسلم، وبعد تكرر المراجعات جرى عليها حل إداري (2).
(1) القرار الاستئنافي رقم، (657/ 2007 - 68046)، محكمة استئناف عمان الشرعية.
(2)
القرار الاستئنافي رقم، (1657/ 2007) محكمة استئناف عمان الشرعية.