الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في "الفتاوي": "ونقول لهم من جهة أخرى: إذا أقام المسلم في غير دار الإسلام، فهل يدَّعونَ أن الله يأمره بأن يدفع لأهلها كلَّ ما يوجبه عليه قانونُ حكومتها من مال الربا وغيره -ولا مندوحة له عن ذلك- ويحرم عليه أن يأخذ منهم ما يعطونه إياه بحكم ذلك القانون من ربا وغيره برضاهم واختيارهم!! أعني: هل يعتقدون أن الله تعالى يوجب على المسلم أن يكون عليه الغُرْمُ من حيث يكون لغيره الغُنْمُ!! أي: يوجب عليه أن يكون مظلومًا مغبونًا". (1)
وقال الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله: "لا بأس بأخذ قرض من البنك لقاءَ فائدةٍ لأجلِ شراءِ بيتٍ نتيجتُهُ تملُّكُ البيتِ في نهاية تسديد القرض مع فائدته". (2)
وتكييف هذه المسألة يتعلق من جهة ببحث المسألة من حيث انطباق حكم الربا عليها، ثم بحث أثر الحاجة العامة، أو الحاجة الشديدة في الترخيص في المحرمات القطعية، ومدى جواز استصدار فتيا عامة للأقليات في هذا الشأن بالإباحة أو الحِلِّ.
وتُعتبر هذه النازلة من أكثر النوازل حضورًا في لقاءات العلماء بالغرب، ومراكز الفتيا لديهم هناك.
تحرير محل النزاع:
أولًا: انعقد الإجماع على حرمة ربا القروض والديون.
قال ابن قدامة: "وكل قرض شُرِطَ فيه أن يزيده فهذا حرام بغير خلاف، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المُسْلِفَ إذا اشترط على المستسلف زيادةً أو هديةً فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا"(3).
(1) فتاوي الشيخ محمد رشيد رضا، (5/ 1977).
(2)
فتاوى الشيخ الزرقا، (ص 620 - 626).
(3)
المغني، لابن قدامة، (6/ 436).
وقال الشوكاني: "وأما إذا كانت الزيادة مشروطة في العقد فتحرم اتفاقًا"(1).
ثانيًا: وقد اتفقوا -أيضًا- على حرمة الربا مطلقًا بين المسلم وغيره في دار الإسلام؛ بل إن الفقهاء نصُّوا على منع المستأمَنين والذميين من التعامل بالربا فيما بينهم في دار الإسلام باتِّفاق.
يقول السرخسي: "فإن دخل تجارُ أهلِ الحرب دارَ الإسلام بأمان، فاشترى أحدهم من صاحبه درهمًا بدرهمين، لم أُجِزْ من ذلك إلا ما أُجيزه بين أهل الإسلام، وكذلك أهل الذمة إذا فعلوا ذلك؛ لأن مال كل واحد منهم معصوم متقوم ولا يتملكه صاحبه إلا بجهة العقد، وحرمة الربا ثابتة في حقِّهم، وهو مستثنًى من العهد؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى نصارى نجران: "إلا من أربى؛ فليس بيننا وبينه عهد" (2) وكتب إلى مجوس هجر: "إمَّا أن تَدَعُوا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله" فالتعرض لهم في ذلك بالمنع لا يكون غدرًا بالأمان؛ وهذا لأنه ثبت عندنا أنهم نُهُوا عن الربا، قال تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْه} [النساء: 161] فمباشرتهم ذلك لا تكون عن تدين؛ بل لفسق في الاعتقاد والتعاطي، فَيُمْنَعُون من ذلك، كما يُمْنَعُ المسلم"(3).
ثالثًا: اتفق الفقهاء -أيضًا- على أنه إذا دخل المسلم في دار الحرب بأمان من أهلها فلا يجوز له أن يعطي الربا فيها للحربي.
(1) نيل الأوطار، للشوكاني، (5/ 276).
(2)
أخرجه: ابن أبي شيبة في "مصنفه"، (14/ 550) من حديث الشعبي مرسلًا، قال:"كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران -وهم نصارى-: أن من بايع منكم بالربا فلا ذمة له"، والإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "الأموال"، (503)، من حديث أبى المليح الهذلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل نجران وكتب لهم كتابًا. . . فذكر الحديث، وفيه:"على أن لا يأكلوا الربا، فمن أكل الربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة. . . " الحديث.
والحديث بلفظ: "إلا مَن أربى. . . " قال عنه الزيلعي في "نصب الراية": "غريب"، وقال الحافظ ابن حجر في "الدراية"، (2/ 64):"لم أجده بهذا اللفظ".
(3)
المبسوط، للسرخسي، (14/ 58).
والخلاف بينهم جارٍ فيما يأخذه المسلم من الحربي من الربا في دار الحرب بعدما دخلَها بأمان، فالجمهور على حرمته، ولأبي حنيفة وبعض الفقهاء قول بالجواز.
رابعًا: فيما يتعلق بخصوص النازلة فإن القائلين بجواز هذا التعامل قد أقروا بانطباق حَدِّ القرض الربوي عليه.
وجاء في البيان الختامي لرابطة علماء الشريعة الذي عقد بالولايات المتحدة الأمريكية ما يلي:
"إن الطريقة المتاحة حاليًا لتملك السكن عن طريق التسهيلات البنكية بسداد الثمن إلى البائع وتقسيطه على المشتري هو في الأصل من الربا، ولا يجوز للمسلم الإقدام عليه إذا وجد بديلًا شرعيًّا يسدُّ حاجته، كالتعاقد مع شركة تقدِّمُ تمويلًا على أساس بيع الأجل، أو المرابحة، أو المشاركة المتناقصة، أو غيرها"(1).
ومثل هذا الكلام صدر عن البيان الختامي للدورة الثانية للمجلس الأوروبي للإفتاء (2).
إلا أن كِلَا البيانين وَرَدَ فيه تسويغ هذا العمل بناءً على مرتكزات فقهية وواقعية.
فأمَّا بيان رابطة علماء الشريعة فقد جاء في مسوغات إباحة هذا التعاقد:
"إذا لم يوجد أحد البدائل المشروعة، وأراد المسلم أن يتملك بيتًا بطريقة التسهيلات البنكية، فقد ذهب أكثر المشاركين إلى جواز التملك للمسكن عن طريق التسهيلات البنكية؛ للحاجة التي تُنَزَّلُ منزلةَ الضرورة، أي: لا بد أن يتوافر هذان السببان:
- أن يكون المسلم خارجَ دارِ الإسلام.
- وأن تتحقق فيه الحاجة لعامة المقيمين في خارج البلاد الإسلامية؛ لدفع المفاسد الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والدينية، وتحقيق المصالح التي تقتضيها
(1) وقفات هادئة مع فتوى إباحة القروض الربوية لتمويل شراء المساكن في المجتمعات الغربية، د. صلاح الصاوي، دار الأندلس الخضراء، جدة، (ص 15 - 16).
(2)
قرارات وفتاوي المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، المجموعتان الأولى والثانية، (ص 148) وما بعدها.