الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي التراث الفقهي ما يتعرض لحكم إعادة الجزء المقطوع في حدٍّ أو قصاصٍ من الجاني بعد تنفيذ الحكم، وقد تناول الفقهاء هذه المسألة، أو ما هو قريب منها في حال إذن المجني عليه في الإعادة والرد، وفي حال لم يأذن، وفي حال استطاع المجني عليه الإعادة لعضوه المقطوع، وفي حال لم يستطع (1).
وينبغي التنبه إلى أن دلالة تلك الفتاوي القديمة على النوازل المستجدة قد لا تكون بطريق المطابقة، وإنما بطريق التضمن أو اللزوم، وقد لا تكون بمفهوم الموافقة، وإنما قد تكون بمفهوم المخالفة.
رابعًا: الاعتماد على النصوص في ضوء المقاصد:
وأخيرًا فإن المفتي المعاصر اليوم إذا طالع هذه الفتاوي وتأمل في طريقة الفقهاء القدامى بان له تعلقهم بالنصوص والتزامهم بها، وحرصهم عليها، وعنايتهم بفقهها، وما صادمها أو عارضها أو أهدرها فهو مرفوض.
كما تبرز -وبوضوح أيضًا- عنايتهم بالمعاني والمقاصد والمصالح، والأصل أن يجتمع في حس الفقيه النص وما يقتضيه، والمصلحة والمعنى معًا.
ولقد رأينا في فقه المذاهب أيضًا رعاية ما سبق آنفًا؛ فالمزارعة مثلًا فاسدة في ظاهر الرواية عند الحنفية، وهو رأي أبي حنيفة، لكن الفتيا المعتمدة في مذهب الفقهاء الحنفية هي على قول الصاحبين، وهو أن المزارعة جائزة (2)؛ للنص عليها ولحاجة الناس إليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع"(3).
(1) الفتاوي الهندية، (6/ 11)، الأم، للشافعي، (7/ 184)، الإنصاف، للمرداوي، (10/ 98)، كشاف القناع، للبهوتي، (5/ 549)، البيان والتحصيل، لابن رشد، (16/ 17).
(2)
الدر المختار، للحصكفي، (6/ 275)، الفتاوي الهندية، (5/ 291).
(3)
أخرجه: البخاري، كتاب الإجارة، باب: إذا استأجر أرضًا فمات أحدهما، (2285)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب: المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع، (1551) -واللفظ له-، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وهذا مذهب المالكية والحنابلة مع الظاهرية (1).
ومثل هذا كثير مشهور معروف من مذاهب الفقهاء من لدن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كانوا رضي الله عنهم ينظرون إلى النصوص، وإلى مقاصدها معًا، ولا يغفلون حكمها وعللها ومصالح الناس.
وتصرفات الصحابة الفقهية تؤكد على كلية الشريعة الكبرى التي تستند إليها أحكامها، وهي جلب المصالح وتكثيرها، ودفع المفاسد وتقليلها.
وباستقراء ما أثر عن الصحابة نجد نماذج كثيرة تنم عن اجتهادات عميقة لا تخرج عن روح النص، وإن بدت للبعض مخالفة له، من ذلك:
أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن قاضيًا وواليًا فطلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أخذه الزكاة من أهل اليمن التوسط في أخذه فقال: "خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر"(2).
لكن معاذًا نظر إلى الحكمة من أخذ الزكاة فقال لأهل اليمن: "ائتوني بعرض ثياب خميص، أو لبيس في الصدقة مكان الشعير أهوَنُ عليكم، وخيرٌ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة"(3).
(1) مواهب الجليل، للحطاب، (7/ 152)، كشاف القناع، للبهوتي، (3/ 537)، المحلى، لابن حزم، (8/ 211).
(2)
أخرجه: أبو داود، كتاب الزكاة، باب: صدقة الزرع، (1599)، وابن ماجه، كتاب الزكاة، باب: ما تجب فيه الزكاة من الأموال، (1814)، والحاكم في "المستدرك "(1/ 387)، من حديث عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فقال. . . فذكره. قال الحاكم:"هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، إن صح سماع عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل؛ فإني لا أتقنه"؛ فتعقبه الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير"، (2/ 375) بقوله:"لم يصح؛ لأنه ولد بعد موته، أو في سنة موته، أو بعد موته بسنة. وقال البزار: لا نعلم أنَّ عطاءً سمع من معاذ". اهـ.
(3)
علَّقه البخاري جازمًا به إلى طاوس قال: قال معاذ، كتاب الزكاة، باب: العرض في الزكاة، (1/ 447).
ووصله -مختصرًا-: ابن أبي شيبة في "مصنفه"، كتاب الزكاة، باب: ما قالوا في أخذ العروض في الصدقة، (3/ 181). قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 18):"إسناده إلى طاوس صحيح، إلا أن طاوسًا لم يسمع من معاذ".
وقد أفتى وقضى الخلفاء الراشدون في كثير من القضايا، كان بعضها يشتمل على تغييرات طفيفة، أو كبيرة عما كان يُفْتَى به في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعضها مما لم يسن فيها الرسول صلى الله عليه وسلم سنة.
وقد سبقت اجتهادات عمر رضي الله عنه في منع التزوج بالكتابيات (1)، ودرء حد السرقة عام الرمادة (2)، وإجازته للتسعير (3).
وتضمين علي رضي الله عنه للصناع (4)، وغيرها.
وهذه الاجتهادات كلها دائرة في إطار السياسة الشرعية ورعاية المصالح الإنسانية، من غير مناقضةٍ لمقصود النص، ولا إبطالٍ للفظه، "ومن أراد أن يعرف المناسبات والمصالح والمفاسد فعليه أن يعرض ذلك على عقله، بتقدير أن الشرع لم يَرِدْ به، ثم يبني عليه الأحكام"(5).
(1) سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه، وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين، (3/ 11): قال السعدي سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث، فقال: العذق النخلة، وعام سنة المجاعة. فقلت لأحمد: تقول به. فقال: إي لعمري. قلت: إن سرق في مجاعة لا تقطعه. فقال: لا إذا حملته الحاجة على ذلك والناس في مجاعة وشدة.
(3)
أخرجه: الإمام مالك في "الموطأ"(1328)، والبيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب البيوع، باب: التسعير، (6/ 29) -مختصرًا ومطولًا-، وفي "معرفة السنن والآثار"(8/ 204)، من حديث عن سعيد بن المسيب، أن عمر ابن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبًا له بالسوق؛ فقال له عمر بن الخطاب:"إما ان تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا".
(4)
أخرجه: ابن أبي شيبة في "مصنفه"، كتاب البيوع والأقضية، باب: في القصار والصباغ وغيره، (6/ 285).
(5)
قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 13).