الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
من نوازل الصلاة: أوقات الصلوات لأهل القطبين والمناطق الشمالية
تصوير المسألة وتكييفها:
الصلاة هي الركن الثاني بعد الشهادتين، وهي عبادة اليوم والليلة، ترتبط بجريان الشمس وحركة الليل والنهار. وأداؤها في أوقاتها واجب مفروض، قال تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، والسهو عن أوقاتها والإخلال بمواقيتها كبيرة مذمومة، قال تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5].
ولقد حددت المواقيت مرتبطةً بالشمس وضوئها؛ فوقت الفجر يبدأ من ظهور أولِ نورٍ لها، ويمتدُّ إلى ظهورِ أول قرصِهَا لدى الشروق، ووقت الظهر يبدأ من زوالها عن كبد السماء، ووقت العصر يبدأ حين يصير ظلُّ كلِّ شيء مثله أو مثليه، ووقت المغرب يبدأ من غروب كامل قرص الشمس، ووقت العشاء يبدأ من غياب الشفق الأحمر، وهو آخر علامة لغياب نور الشمس عن المكان بالكامل.
ولمَّا كان نزول الوحي وبزوغ شمس الرسالة في جزيرة العرب -وهي منطقة معتدلة متوسطة تظهر فيها علامات المواقيت بوضوح- لم تقع ثمَّةَ نازلةٌ في هذا الخصوصِ، وبقي الحال كذلك حتى شمل الإسلام منطقة واسعة شاسعة من إندونيسيا إلى موريتانيا، فلما تحقَّقَ موعودُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ ملك أمته وسلطان دينه ما بلغ الليل والنهار، لم يَخْلُ مكان -بحمد الله- تظهر عليه شمس النهار، إلَّا ودخله الإسلام، وَوُجِدَ فيه من يتعبد لله بإقامة الصلوات الخمس كلَّ يوم وليلة.
عند هذا الحدِّ ثارت مشكلة معاصرة، ونازلة مستجدة حين فُقدت المواقيت
الشرعية، وغابت علاماتها في بعض دول وبلاد نائية نحو القطبين، حيث قد يطول النهار جدًّا على حساب الليل، والعكس يتكرر أيضًا، حتى نصل إلى ستة أشهر من ليلٍ مستمر في القطب الشمالي، وستة أشهر مثلها من نهار مستمر في القطب الجنوبي، كما أن دولًا أوروبية كثيرة تُفْقَدُ فيها أوقات كوقت العشاء، فلا تتميز علاماته، فلا يظهر غياب الشفق الأحمر حتى يخالطه بياض الصبح، فلا يظهر بدء وقتها ولا خروجه؟
ومثل هذا يعتبر نازلةً من نوازل تلك الأقليات المسلمة التي تعيش في تلك الديار، ولم يَصِلْنَا كلامٌ لفقيه من الصحابة أو التابعين أو الأئمة الفقهاء المتبوعين في هذه المسألة، إلا عند متأخري الفقهاء، ثم عند العاصرين.
والمقصود إيجاد حلول فقهية لمشكلات تلك البلاد ذات الطبيعة الجغرافية التي لا تتوافر فيها جميع المواقيت الشرعية للصلوات الخمس، ولا سيما آخر وقت المغرب، ووقت العشاء دخولًا وخروجًا، وأول وقت الفجر.
وهذا بيان عن تصوير المسألة:
أما تكييفها الشرعي: فتعود هذه المسألة إلى باب المواقيت، وحكم من لم يجد وقتًا لأداء الصلوات الخمس، وهل تَسقط الصلوات التي لم يوجد وقت لأدائها؟ وذلك لأن الوقت سبب الوجوب، فإذا عدم السبب -وهو الوقت- هل يعدم المسبَّب وهو الوجوب؟! (1)
وقد عبَّر بعض الفقهاء عن هذه الحالة بتعابيرَ مختلفةٍ ومتباينة، كقولهم:
- حكم البلاد التي لا يغيب فيها الشفق.
- حكم البلاد التي يُفقد فيها وقت العشاء.
(1) حاشية ابن عابدين، (2/ 18 - 23)، بلغة السالك لأقرب المسالك، لأحمد الصاوي، تحقيق: محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415 هـ - 1995 م، (1/ 155).
- حكم البلاد التي ينعدم فيها الليل، بأن يطلع الفجر عند غيبوبة الشمس (1).
والسبب في بعض هذه النوازل المستجدة تلك الظواهر الطبيعية من تهيؤ الشمس للغروب وميلانها جهة الغرب، ثم لا تلبث أن ترتفع قبل أن تغرب فعليًّا؛ مما يعني أن الغروب لا يتم، وكذا الشفق الأحمر أو الأبيض لا يظهر ولا يختفي!
كذا يترتب على عدم غروبها -بالبداهة- عدمُ ظهور علامة الفجر؛ لأن نور الفجر إنما هو أثر أشعة الشمس التي توشك أن تطلع.
تحرير محل النزاع:
باستثناء مذهب الحنفية لم ينازع أحدٌ من الفقهاء في استمرار وجوب الصلاة حالَ فقدان علامات أوقاتها.
لكنَّ نزاعًا وقع في المذهب الحنفي حاصلُهُ ذهابُ بعض الحنفية إلى سقوط الوجوب الشرعي الذي أُنيطَ بسببٍ فلكي عادي، وهو ظهور الشفق أو غيابه مثلًا، فإذا فُقدت العلامة سقط الوجوب عندهم. وهذا الرأي عمدتُهُ -بعد قوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]- قواعدُ الأصول المتعلقة بالسبب، وأنه يلزم مِنْ فقدِهِ فقدُ المسبَّب (2)، وأن مَنْ فَقَدَ بعض أعضاء الوضوء كاليدين فإنه لا يجب عليه شيء نحو العضو المفقود.
ومع أن ابن عابدين اعتبر هذا الرأيَ أحدَ رأيين مصحَّحَين في المذهب، إلا أنه رجح عدم سقوط الواجب؛ لتأيده بقول مجتهد آخر، ومما أضعف هذا الرأيَ أنه يُفضي إلى إسقاط
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير لأقرب المسالك، لأحمد بن محمد الصاوي المالكي، (1/ 225)، حاشية قليوبي على شرح المنهاج، لشهاب الدين أحمد بن أحمد بن سلامة القليوبي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط 3، 1375 هـ - 1956 م، (1/ 114)، حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب، لسليمان بن محمد ابن عمر البجيرمي، المكتبة الإسلامية، (1/ 151)، حاشية ابن عابدين، (2/ 18).
(2)
شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (1/ 445)، البحر المحيط، للزركشي، (1/ 306).
وجوب صلاتين في اليوم والليلة، والإجماع منعقد على وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة.
وفي الحديث: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد"(1).
وفي الحديث الآخر: ". . . فَأَعْلِمْهُمْ أن الله تعالى افترض عليهم خمسَ صلوات في كل يوم وليلة"(2).
وحديث: "هي خمس، وهي خمسون، لا يبدَّلُ القولُ لديَّ"(3).
فإذا اعتُبِر سببُ الوجوب الخاص بإحدى الصلوات هو دخول وقتها، فإن دخول اليوم والليلة وخروجهما هو سبب أيضًا لوجوب الصلوات الخمس في اليوم والليلة.
على أن نصوص الشريعة لم تنصَّ على أسباب أو شروط، كما نصَّت على عدد الصلوات الخمس، وليس هنا نصٌّ يدلُّ على إسقاط صلاة واحدة فضلاً عن صلاتين بحال من الأحوال، إلا لحائض أو نفساء، ولم تستثنِ الشريعة بعد ذلك أحدًا من أهل التكليف، وهذا بخلاف أدائها قبل مغيب الشفق أو بعده؛ فإنها موضع نزاع ومراجعة بين الفقهاء، كما سيأتي.
ولم يُذْكَرْ عن فقهاء الحنفية القدماء كلامٌ في تحديد أوقات العشاء والفجر، حيث تغيب العلامات الشرعية، مما فتح الباب للاجتهاد واسعًا أمام المعاصرين منهم، وذلك بعد استقرار الرأي على وجوب الصلاة اعتمادًا للآراء في المذاهب الأخرى.
(1) أخرجه: أبو داود، كتاب الصلاة، باب: فيمن لم يوتر، (1420)، والنسائي، كتاب الصلاة، باب: المحافظة على الصلوات الخمس، (461)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وصححه ابن عبد البر في التمهيد، (23/ 288).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب: وجوب الزكاة، (1395)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام مطوَّلًا من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب: كيف فرضت الصلاة، (349)، ومسلم، كتاب الايمان، باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات، (163) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
سبب الخلاف:
بعد تسليم وجوب الصلوات الخمس في اليوم والليلة على كل مسلم ومسلمة بالأدلة المتواترة، بل بما عُلِمَ من دين الإسلام بالضرورة، فإن فقدان علامات بعض الصلوات لا يؤدي إلى إسقاطها وعدم وجوبها.
وبعد تسليم أن وقت صلاتي العشاء والفجر لا يكون إلا خلال الليل الذي يبدأ بغروب الشمس وينتهي بشروقها، فإن سبب الخلاف ومرجعه يعود إلى نصٍّ واحد، هو حديث الدَّجَّال المشهور، وهو حديث طويل، فيه أن الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن مدة لبثه في الأرض، فقال:"أربعون يومًا، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم"، قلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك اليوم الذي كسنةٍ تكفينا فيه صلاة يوم؟ قال:"لا، اقدروا له قدره. . ."(1).
وعليه، فقد جرى الخلاف حول معنى قوله:"فاقدروا له قدره" وهل المقصود كمال العدد في اليوم الذي كأسبوع، فَتُصَلَّى خمسٌ وثلاثون صلاةً، وهكذا يزيد العدد في اليوم الذي كشهر، ثم في اليوم الذي كسنة، ويُصَلَّى في سائر الأيام خمسُ صلوات.
ثم هل يجري قياسٌ في العبادات؟ وهل يجري فيها تعليل؟ وهل يمكن تحديد علامات جديدة عوضًا عن الغائبة؟
وهل يُعتبر هذا إيقافًا للعمل بنصٍّ من النصوص بالاجتهاد، وهل لقواعد: المشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتَّسَعَ، ورعاية المآلات، ونحوها -دخل في هذا المجال من نوازل الأقليات؟
لكلِّ ما سبق وَقَعَ الخلاف بين المعاصرين في هذه المسألة المهمة، وهي تنقسم إلى حالتين نتناولهما في المطلبين التاليين:
(1) أخرجه: مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال وصفته وما معه، (2937)، من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه.