الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وموالاتهم والركون إليهم، كما أشارت النصوص السابقة.
وفي الأحاديث دليل ظاهر على تحريم مُسَاكَنَةِ الكفار، ووجوب مفارقتهم (1)؛ حيث تبرأ الرسول صلى الله عليه وسلم من الذين يقيمون بين أظهر المشركين، فكيف يكون حال الذين يفارقون دار الإسلام وُيضحون بكل غالٍ ونفيسٍ من أجل أن يحصلوا على جنسية الدولة غير الإسلامية، لا شكَّ أن ذلك أخطرُ وأخوفُ.
ومن هذه الأدلة يتضح أن حكم التجنس حرام في جميع الأحوال والظروف، وذلك الفعل يُعَرِّضُ صاحبَهُ إلى غضب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو معصية كبيرة تمسُّ الدين والإيمان، ويدفع الإنسان إلى خسارة الدنيا والآخرة (2).
ثم إن هذا التجنس قد يكون كفرًا وردة إذا كان حبًّا في التشبه بأهل الكفر، وإيثارًا للحكم الأجنبي على الحكم الإسلامي (3).
ثالثًا: المقاصد الشرعية، والمعقول:
التجنس يترتب عليه واجبات ملزمة على رأسها: المشاركة في جيش الدولة المانحة للجنسية والدفاع عنها، ولو كانت حربها ضد المسلمين، وهذا من أعظم الموالاة للمشركين، والنصوص المذكورة آنفًا طافحة بتكفير مَنْ فعل هذا، وقد سمى الله من أظهر الموالاة للمشركين -كذبًا وخوفًا من الدوائر- منافقًا، كما في قوله سبحانه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} [الحشر: 11]، فكيف بمن أظهر ذلك لهم صادقًا، ودخل في طاعتهم
(1) نيل الأوطار، للشوكاني، (8/ 33)، تحفة الأحوذي، لمحمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت، (5/ 190).
(2)
مجلة الفقه الإسلامي، (2/ 1131)، وعلى هذا تُحْمَلُ بعض الفتاوي التي لم يُفَرِّقْ أصحابها فيها بين حال وحال، ينظر -على سبيل المثال-: فتاوي الشيخ رشيد رضا، (5/ 1755).
(3)
مجلة الفقه الإسلامي، (2/ 1156)، فتاوي رشيد رضا، (5/ 1759).
وانتسب إليها جهرًا؟! (1).
وكيفَ يجوز لمسلم أن ينتظم في جيش يحارب المسلمينَ، وهو يعلم أن ذلك يترتب عليه أن يقتل أخاه المسلم بيده؟ لقد بَيَّنَ الله في كتابه أن المؤمنين أشداء على الكفار رحماء بينهم، وأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين؛ فكيف تنقلب الصورة بجعْلِ سيفِ المسلم مسلولًا على أخيه المسلم، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من حمل علينا السلاح، فليس منا"(2).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَزوالُ الدنيا أهونُ على الله من قتل رجل مسلم"(3).
إن للتجنس آثارًا غايةً في السوء على النشءِ والذرية من انحلال وتسيب، وانطماس للهوية، وانتكاس للفطر، ونبذ لأحكام الدين، وإعراض عنه، وموالاة للمشركين، ومعاداة للمؤمنين؛ إذ قد نُشِّؤوا لا يعرفون إلا الكفر، ورضعوا من لبانه، وخالطت مناهجُه لحومَهم ودماءَهم فتنجست بنجاسة الشرك -عياذًا بالله العظيم- ولا يُنازعُ في كون هذا واقعَ المتجنسين، أو أغلبهم إلا مكابِرٌ تسقط مكالمته.
يقول الونشريسي: "فالواجب على كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر السعي في حفظ رأس الإيمان بالبعد والفرار عن مُسَاكَنَةِ أعداء حبيب الرحمن. . .؛ لأن مُسَاكَنَةَ الكفار من غير أهل الذمة والصَّغَارِ لا تجوز، ولا تباح ساعةً من نهار؛ لما تنتجه من الأدناس والأوضار، والمفاسد الدينية والدنيوية طولَ الأعمار"(4).
(1) حكم التجنس بجنسية دولة غير إسلامية، محمد يسري، مجلة البيان، عدد، (245)، (ص 10).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الديات، باب: قول الله تعالى: "ومن أحياها. . . "(6874)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: من حمل علينا السلاح، (98) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا.
(3)
أخرجه الترمذي، كتاب الديات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ما جاء في تشديد قتل المؤمن، (1395)، والنسائي، كاب تحريم الدم، باب: تعظيم الدم (3987) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعًا. وروي من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه مرفوعًا. وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع وزياداته، برقم، (5077).
(4)
المعيار المعرب، للونشريسي، (2/ 138).
إن التجنس إقامةٌ ببلاد الكفر وزيادة، والأدلة واضحة في تحريم المقام بدار الكفر مع عدم استطاعة إظهار شعائر الدين، يقول ابن رشد:"فإذا وجب -بالكتاب والسنة وإجماع الأمة -على من أسلم ببلاد الحرب أن يُهَاجِرَ ويلحق بدار المسلمين. . . فكيف يباح لأحد الدخول إلى بلاد حيث تجري عليه أحكامهم"(1).
قالوا: ولا عذر لهؤلاء المتجنسين؛ لأنهم ليسوا بِمُكْرَهِينَ حتى نقول ما قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]؛ بل هم مختارون راضون، وليس ما ينتظرونه وراءَ التجنس من حطام الدنيا، وحظوظ العاجلة بمسوغ لهذا التجنس، بل يجب أن يفر المرء بدينه متى استطاع، وإن ذهبت دنياه، اقرأ إن شئت قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
وقد أوجب الله الهجرة من دار الكفر إن خاف المسلم على نفسه الفتنة، وتَوَعَّدَ الله سبحانه أولئك الذين يَبْقَونَ في أوطانهم بين الفتنة وهم قادرون على الهجرة، فقال جلَّ مِنْ قائلٍ:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97].
وتَوَعَّدَسبحانه مَنْ يعبدُهُ على حرف، فقال:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} [الحج: 11].
(1) المقدمات الممهدات، لابن رشد، (2/ 153).