الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-رحمه الله: "إن الشيء إذا بني على عوج، لم يكد يعتدل"(1).
والمتأمل في كثير من الفتاوي المعاصرة الجانحة عن الصواب يجد أن الخطأ الرئيس فيها هو خطأ في تصورها، أو في إلحاقها بما يناسبها من أبواب الفقه ومسائله.
وفيما يلي بيان مختصر لهذه المدارك الثلاثة:
المدرك الأول: التصور:
التصور أو التصوير هو حصول صورة الشيء في الذهن أو العقل، أو إدراك الماهية من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات (2).
ولذا شاع أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره (3)، وقد يعبر عن هذا بقولهم: إن الحكم على الشيء بدون تصوره محال (4).
وبلا شك فهو مقدَّم على أخويه وبدونه يُعَدُّ الإقدام على الحكم ضربًا من الخبط في عماية، وقاصمة من القواصم، وكثير من الناس يتوهم أن لديه التصور الصحيح مع أنه فاسد التصور سقيم الفهم على حد قول أبي الطيب:
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيْحًا
…
وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيْمِ
فلا بدَّ في تصور النازلة وفهمها فهمًا صحيحًا من الجمع بين أمرين:
1 -
تصور النازلة في ذاتها.
2 -
تصور ما يحيط بها من ملابسات وقرائن وأحوال.
ولا يكفي الأول وحده، بل لا بدَّ من النظر في الثاني؛ إذ للقرائن والملابسات أعظم الأثر في تغير الحكم فليضبط هذا المقام جيدًا، وليحرر فإنه من الأهمية بمكان.
(1) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (2/ 1140).
(2)
التعريفات، للجرجاني، (ص 199)، شرح الأخضري على السلم في المنطق، البابي الحلبي، 1948 م، (ص 24).
(3)
التقرير والتحبير شرح التحرير، لابن أمير الحاج، (3/ 24).
(4)
المرجع السابق، (2/ 110).
ثم إن تصور النازلة وفهمها فهمًا صحيحًا قد يتطلب استقراءًا نظريًّا وعمليًّا، وقد يفتقر إلى إجراء استبانة، أو جولة ميدانية، أو مقابلات شخصية، وربما احتاج الأمر إلى معايشة ومعاشرة.
وربما كان سؤال أهل الشأن والاختصاص كافيًا، كمراجعة الأطباء في النوازل الطبية، والاقتصاديين في الأمور الاقتصادية، والسياسيين في الأمور السياسية، وهكذا (1). ومن هنا قال الخطيب البغدادي رحمه الله:"إن العلوم كلها أبازير (2) للفقه، وليس دون الفقه علم إلا وصاحبه يحتاج إلى دون ما يحتاج إليه الفقيه؛ لأن الفقيه يحتاج أن يتعلق بطرف من معرفة كل شيء من أمور الدنيا والآخرة، وإلى معرفة الجد والهزل، والخلاف والضد، والنفع والضر، وأمور الناس الجارية بينهم، والعادات المعروفة منهم، فمن شرط المفتي النظر في جميع ما ذكرناه، ولن يدرك ذلك إلا بملاقاةِ الرجال، والاجتماع مع أهل النحل والمقالات المختلفة، ومُسَاءَلَتِهِمْ وكثرة المذاكرة لهم، وجمع الكتب ودرسها، ودوام مطالعتها"(3).
ويمكن أن يقال: إن تصور أي نازلة من النوازل لا بدَّ له من خطوات هي:
1 -
الاستقصاء والتحري عن الدراسات السابقة وحول النازلة سواء أكانت هذه الدراسات شرعية، أم غير شرعية.
2 -
النظر في جذور النازلة وتاريخ نشأتها، وهي من الأهمية بمكان، مع غفلة كثير عنها.
3 -
البحث عن ظروف النازلة وبيئتها وأحوالها المحيطة بها، وهي الناحية الجغرافية.
4 -
معرفة مدى انتشارها وحاجة الناس إليها وأهميتها.
5 -
معرفة ما يترتب عليها من مصالح ومفاسد، ونحو ذلك.
(1) سبل الاستفادة من النوازل والفتاوي، د. وهبة الزحيلي، (ص 7 - 8)، ضوابط الدراسات الفقهية، د. سلمان العودة، (ص 132 - 133).
(2)
أبازير: توابل، المعجم الوسيط، (1/ 82).
(3)
الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (2/ 333 - 334).