الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن غير شكٍّ فإن المذاهب الأربعة وما دُوِّن فيها من ذخيرة فقهية وثروة علمية تمثل تراثًا ثريًّا ومصدرًا غنيًّا، لا غنى لباحث في المسائل المعاصرة عنه.
وفي المطلب الآتي مزيد إيضاح، وبيان لتلك الأصول التي ظهر اعتماد الأئمة الأربعة عليها في إدراك الأحكام، وبناء منهج الاستنباط لنوازل المسائل والأقضيات.
المطلب الأول: مناهج الأئمة الأربعة وأتباع مذاهبهم في الحكم على النوازل:
لقد اتفق الأئمة الأربعة وأتباع مذاهبهم من الفقهاء على اعتماد الأصول الأربعة لمصادر التشريع، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وإن وجدت بينهم اختيارات خاصة في مسائل أصولية تتعلق بهذه المباحث الأربعة والمصادر العامة للتشريع، وانفرد بعضهم بالعناية بأصول أخرى إضافية، وعرف في مذهبه الفقهي التعويل عليها والاستناد إليها.
مذهب مالك:
فمالك إمام دار الهجرة يعتبر إجماع أهل المدينة ويعده حجةً شرعية ودليلًا من الأدلة المعتبرة خلافًا لبقية المذاهب الفقهية؛ وذلك لأنه رأى أن الناس تبع لأهل المدينة من المهاجرين والأنصار؛ ولما اختصهم الله به من هجرة نبيهم إليهم وحياته بين أظهرهم وحضورهم الوحي والتنزيل، ومعرفتهم بالفقه والتأويل.
حتى قال مالك رحمه الله في رسالته إلى الليث رحمه الله (1): "فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرًا معمولًا به لم أر لأحدٍ خلافه، للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحدٍ انتحالها ولا
(1) أبو الحارث، الليث بن سعد بن عبد الرحمن، الفهمي، الإمام الحافظ، شيخ الإسلام، وعالم الديار المصرية، كان الشافعي يتأسف على فواته، وكان يقول: هو أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به، ولد سنة 94 هـ، وتوفي سنة 175 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 78)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (8/ 136).
ادعاؤها" (1).
وقد جاء فقهاء المالكية بعد إمامهم فزادوا الأمر وضوحًا وتفصيلًا؛ فأقاموا تفرقة بين عمل أهل المدينة المبني على الاجتهاد، وبين العمل المبني على النقل (2)؛ فالثاني حجة دون الأول على رأي طائفة من المالكية (3).
وقد وجد في مذاهب أخرى ما يدل على مراعاة الترجيح بالعمل دون ذكر قطر بعينه؛ فالإمام أحمد رحمه الله قال: "شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها ولا يعتمد عليها"(4). وهو يدل على اعتبار العمل عنده.
كذا نقل عنه عمل بحديث ضعيف لكون العمل عليه، وهو حديث "العرب أكفاء إلا حائكًا أو حجامًا" (5)؛ فقيل له: كيف تأخذ به وأنت تضعفه؟
قال: العمل عليه.
قال الموفق: أي: أنه يوافق أهل العرف (6).
وكذلك يرجح بالعمل عند الشافعية؛ فقد ذكر ابن الصلاح رحمه الله في أحكام المفتي والمستفتي: أن القول القديم إذا قيل فيه إنه جرى به العمل فإن هذا يدل على أن
(1) ترتيب المدارك، للقاضي عياض، طبعة وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمغرب، (1/ 43).
(2)
ترتيب المدارك، للقاضي عياض، (1/ 47 - 53)، إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 392) وما بعدها.
(3)
وقد فصَّل ابن تيمية في هذه المسألة تفصيلًا مفيدًا في مجموع الفتاوي، (20/ 294) وما بعدها.
(4)
طبقات الحنابلة، لأبي يعلى، (2/ 140).
(5)
أخرجه: البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب النكاح، باب: اعتبار الصنعة في الكفاءة، (7/ 134)، وابن عدي في "الكامل"، (5/ 95، 209) -ومن طريقه وطريق غيره: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية"، تحقيق: خليل الميس، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1403 هـ، (2/ 617، 618)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العرب أكفاء بعضها بعضًا قبيل بقبيل، ورجل برجل، والموالي أكفاء بعضها بعضًا قبيل بقبيل، ورجل برجل، إلا حائك أو حجام"، ورُوي من حديث أم المؤمنين عائشة، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما. وضعَّفه البيهقي وابن الجوزي وغيرهما.
(6)
العرف، لعادل قوته، (1/ 121).
القول القديم هو المفتى به (1).
وبينوا حال خبر الآحاد مع عمل أهل المدينة؛ فما كان من الأخبار مطابقًا وموافقًا فقد تأكد الأمر بالعمل، وما كان مخالفًا فإن كان عملهم من طريق النقل تُرِكَ به الخبر، وإن كان إجماعهم اجتهادًا قُدِمَ الخبر عند الجمهور، وفيه خلاف بين المالكية.
وما لم يكن ثم عمل بخلاف ولا وفاق خبر الواحد؛ فالمصير إلى خبر الواحد ولا بد.
وفرَّق ابن القيم في عمل أهل المدينة بين حالين وعصرين، عصر الرسول والصحابة، وعصر من جاء بعدهم؛ فإن العمل بالمدينة كان بحسب من جاء من المفتين وتولى من العمال والولاة وعمل به المحتسبون (2).
كما اعتبر مالك رحمه الله من أكثر الفقهاء مراعاة للمصالح المرسلة وأخذًا بها، حتى عُدَّتْ من أصوله التي انفرد بمزيد العناية بها، وبذلك ننتهي إلى أن أصول المذهب هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس والمصالح المرسلة.
ويلاحظ أنه رَدَّ إجماع أهل المدينة إلى دليل السنة.
وينسب إلى مالك رحمه الله تقديم القياس على الخبر الواحد، كما ذكر ذلك ابن القصار رحمه الله (3) في مقدمته الأصولية (4).
وعلى الصحيح فإنه يَعتبر قولَ الصحابي حجةً بشرط عدم المخالف، ويَعمل
(1) أدب الفتوى، لابن الصلاح، (ص 90).
(2)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 394).
(3)
أبو الحسن، علي بن عمر بن أحمد البغدادي القاضي، شيخ المالكية، المعروف بابن القصار، تفقه بأبي بكر الأبهري، كان أصوليًّا نظارًا ولي قضاء بغداد، وله كتاب في مسائل الخلاف كبير، توفي سنة 398 هـ.
طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 168)، والديباج المذهب، لابن فرحون (2/ 100).
(4)
المقدمة الأصولية، لابن القصار، (ص 29).