الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مثاله: المتيمم إذا رأى الماء بعد الشروع بالصلاة، فالإجماع منعقد على صحة شروعه في الصلاة وأن صلاته صحيحة لو انتهت قبل رؤية الماء، فيستصحب حكم الصحة المجمع عليه حالَ عدم رؤية الماء إلى حال ما بعد الرؤية، وهذا متنازع فيه؛ لأن الإجماع إنما دلَّ على الدوام فيها حالَ عدم الماء دون حال وجوده (1).
والمجتهد ينتفع بالأصل المستصحب حيث عدم دليلًا خاصًّا في المسألة النازلة، وعلى هذا الأصل بنيت جملة من القواعد المهمة، منها: الأصل براءة الذمة (2)، والأصل في الأشياء الإباحة ما لم يَرِدْ دليل يدل على المنع (3)، الأصل بقاء ما كان على ما كان (4)، وغيرها.
ثامنًا: العرف:
مضى أن العرف هو ما استقرَّ في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، وهو ما عرفته النفوس مما لا ترده الشريعة (5).
وقد سبقت الأدلة على أهميته، وبيان ضوابطه والقواعد التي تتصل به، وأثره في الاستنباط من الأدلة.
ولا شك أن الأقليات الإسلامية اليوم في ديار غربتها تحكمها أعراف وتقاليد وعادات اعتادها الناس، وأن المجتهد مأمور بالالتفات إليها واعتبارها عند الحكم على نوازل تلك الأقليات المسلمة، وقد سبق النقل عن علمائنا الكبار كالقرافي، والشاطبي، وابن القيم، وغيرهم في اعتبار الأعراف سببًا لتغير الفتيا في الأحكام الاجتهادية المبنية على العادات والأعراف.
(1) المستصفى، للغزالي، (ص 160 - 162)، نهاية السول، للإسنوي، (4/ 358 - 366)، البحر المحيط، للزركشي، (6/ 20 - 22)، إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 399) وما بعدها.
(2)
الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 53)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (1/ 64).
(3)
الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 60)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (1/ 73).
(4)
الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 51)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (1/ 62).
(5)
التعريفات، للجرجاني، (ص 193)، العرف والعادة في رأي الفقهاء، د. أحمد فهمي أبو سنة، (ص 8).
وقد بالغ ابن القيم في التحذير من إهمال العرف عند الفتيا، فقال:"فإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعُرْفه فتجني عليه وعلى الشريعة، وتنسب إليها ما هي بريئة منه، وتُلزم الحالف والمقر والناذر والعاقد ما لم يُلزمه الله ورسوله به"(1).
ويقول الإمام القرافي: "إن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت وتبطل معها إذا بطلت، كالنقود في المعاملات، والعيوب في الأعراض، ونحو ذلك، فلو تغيرت العادة في النقد والسكَّة إلى سكَّة أخرى يحمل الثمن في البيع على السكَّة التي تجددت العادة بها، دون ما قبلها، وعلى هذا القانون تراعى الفتاوي على طول الأيام، فمهما تجدد العرف فاعتبِرْهُ، ومهما سقط فأسقطْه ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاء رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجْرِه على عرف بلدك، واسأل عن عرف بلده وأجْرِهِ عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين"(2).
ويقول رحمه الله في مكان آخر: "إن إجراء هذه الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة، إلى ما تقتضيه العادة المتجددة" ثم شرع يفصل: "أَلا ترى أنهم لما جعلوا أن المعاملات إذا أُطلق فيها الثمن يُحمل على غالب النقود، فإذا كانت العادة نقدًا معيَّنًا حملنا الإطلاق عليه، فإذا انتقلت العادة إلى غيره عيَّنا ما انتقلت العادة إليه وألغينا الأول لانتقال العادة منه"(3).
وقد سبق التنبيه على أن عبارة: "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان" في لفظها وصياغتها قدرٌ من التساهل؛ لذلك لا يصح حملها على ظاهر ألفاظها، فإن الذي يتغير
(1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 53 - 54).
(2)
الفروق، للقرافي، (1/ 314) باختصار.
(3)
الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام، للقرافي، (ص 218 - 219).