الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وينبغي للمفتي أن يتفطن من مقصود السائل، ويستفصل عما يحتاج إلى استفصال، فعند التفصيل يحصل التحصيل، وإجمال الفتوى عند الحاجة إلى التفصيل يجعل الحكم واحدًا لصور مختلفة تختلف الفتوى باختلافها، فيكون المفتي مجيبًا بغير الصواب.
خامسًا: التأني واستشارة أهل الخبرة والاختصاص فيما أشكل:
يَلزم المتصدرَ للفتيا أن يتثبت ويتحرى ويتأنى في النظر للمسألة من جميع جوانبها؛ لأن النظر القاصر ينشأ عنه من الغلط والوهم ما يُفسد الأديان ويُضَلُّ به بنو الإنسان، وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"من أُفتي بغير علم -وفي رواية: بفتيا غير ثبت- كان إثمه على من أفتاه"(1).
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يُسأل عن المسألة فيتفكر فيها شهرًا، ثم يقول:"اللهم إن كان صوابًا فمن عندك، وإن كان خطأ فمن ابن مسعود"(2)، وقال رضي الله عنه:"من أفتى الناس في كل ما يسألونه فهو مجنون"(3).
وقال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: "إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن"، وقال أيضًا:"ربما وردت عليَّ المسألة فأفكر فيها ليالي"(4).
كما أن من لوازم التثبت سؤالَ أهل الاختصاص فيما يتعلق بعلومهم، كأهل الطب والفلك والاقتصاد ونحوها؛ عملًا بقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7].
(1) أخرجه: أبو داود، كتاب العلم، باب: التوقي في الفتيا، (3657)، وابن ماجه، المقدمة، باب: اجتناب الرأي والقياس، (53) -والرواية الثانية له-. زاد أبو داود لا رواية:"ومَن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره؛ فقد خانه". وصححه الحاكم (1/ 103، 126).
(2)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 81) بتصرف واختصار.
(3)
أخرجه: الطبراني في "المعجم الكبير"، (8/ 106)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"، (2208، 2213). وصححه ابن القيم في "إعلام الموقعين"، (2/ 185).
(4)
ترتيب المدارك، للقاضي عياض، (1/ 178).
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: "ثم يذكر المسألة لمن بحضرته ممن يصلح لذلك من أهل العلم ويشاورهم في الجواب، ويسأل كل واحد منهم عما عنده فإنَّ في ذلك بركةً واقتداءً بالسلف الصالح، وقد قال الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] وشاوَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مواضعَ وأشياءَ (1) وأمر بالمشاورة وكانت الصحابة تتشاور في الفتاوي والأحكام"(2).
وعن ابن وهب رحمه الله (3) قال: سمعت مالكًا رحمه الله يقول: "العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق، وكان يقال: التأني من الله، والعجلة من الشيطان، وما عجَّل امرؤ فأصاب، واتَّأد آخر فأصاب إلَّا كان الذي اتَّأد أصوبَ رأيًا، ولا عجَّل امرؤ فأخطأ، واتَّأد آخر فأخطأ إلا كان الذي اتَّأد أيسرَ خطأً"(4).
وقد كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يسألان الناس عما ليس لهما به علم، ويتحريان في ذلك، وفي الصحيحين حديث ابن عباس رضي الله عنهما في جمعِ عمرَ المهاجرين والأنصار لاستشارتهم في أمر الوباء الذي وقع بالشام ومحاجته لأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما (5).
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة، (8/ 274):"ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يشاور أصحابه وكان أحيانًا يرجع إليهم في الرأي، كما قال له الحباب يوم بدر: "يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أهو منزل أنزلكه الله تعالى، فليس لنا أن نتعداه، أم هو الحرب والرأي والمكيدة؟ فقال: بل هو الحرب والرأي والمكيدة. فقال: ليس هذا بمنزل قتال، قال: فرجع إلى رأي الحباب".
وهذا الحديث أخرجه محمد بن إسحاق بن يسار (2/ 620 - ابن هشام) ومن طريقه أخرجه الطبري في تاريخ الأمم والملوك (2/ 29)، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1، وضعَّفه الألباني في السلسلة الضعيفة، (3448).
(2)
الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (2/ 390).
(3)
أبو محمد، عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي، الفهري، المصري الفقيه، روى عن أربعمائة عالم منهم: مالك، والليث، وابن أبي ذئب، وروى عنه أصبغ بن الفرج، وسحنون، وأحمد بن صالح، من مصنفاته: الجامع الكبير، والأهوال، وتفسير الموطأ، وغير ذلك، ولد سنة 125 هـ، وتوفي سنة 197 هـ. تهذيب الكمال، للمزي، (16/ 277)، والديباج المذهب، لابن فرحون، (1/ 413).
(4)
أخرجه البيهقي في "المدخل"، (ص 437)، وذكره ابن مفلح في "الآداب الشرعية"، (2/ 65).
(5)
أخرجه: البخاري، كتاب الطب، باب: ما يذكر في الطاعون، (5729)، ومسلم، كتاب السلام، باب: الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، (2219).
وعن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر رضي الله عنه إذا وَرَدَ عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضى به، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا صلى الله عليه وسلم فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعَ رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به (1).
وقال أبو حصين الأسدي رحمه الله (2): "إنَّ أحدكم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر"(3).
قال البخاري رحمه الله: "وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم. . . وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولًا كانوا أو شبابًا وكان وقَّافًا عند كتاب الله عز وجل"(4).
ومما يلتحق بهذا عدمُ التسرع في النفي العام، كأن ينفي كلامًا عن إمام، أو ينفي ورود حديث أو صحته أو ضعفه، أو ينفي الخلاف ويدعي الإجماع، وكثيرًا ما يكون في المسألة خلاف؛ بل ربما يكون مشهورًا.
(1) سبق تخريجه.
(2)
أبو حصين الأسدي، عثمان بن عاصم بن حصين، الإمام الحافظ، الأسدي الكوفي، روى عن جابر بن سمرة، وابن عباس، وابن الزبير رضي الله عنهم، وروى عنه أبو مالك الأشجعي، ومحمد بن جحادة، وشعبة، والثوري، قال ابن معين والنسائي وجماعة: أبو حصين ثقة. توفي سنة 128 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (6/ 160)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (5/ 412).
(3)
أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء (5/ 416)، وقال: قال أبو شهاب: سمعت أبا حصين.
(4)
"صحيح البخاري"، كتاب الاعتصام بالكتاب، باب: قول الله تعالى "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ". . .، (4/ 376).