الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولهذا كان من شروط المتصدي للفتيا والاجتهاد: العلم بمواقع الإجماع، ومواطن الخلاف. قال سعيد بن جبير (1):"أعلم الناس أعلمهم بالإجماع والاختلاف"(2).
الثالثة: الإفتاء الجماعي ليس إجماعًا، وليست أعمال المجامع الفقهية إجماعًا أصوليًّا، ولو كانت مجامعَ دوليةً أو عالميةً، على أن الرأي فيها يصدر بأغلبية مطلقة أو اتفاق، وهذا يمكن أن يقترب في المعنى من قول الجمهور عند الأقدمين، ولا شك أن الأصل كثرة الصواب وموافقة الحق في المسائل التي قال بها الجمهور قديمًا أو حديثًا، من غير قطع في جميع المسائل.
ومن كان مجتهدًا فخالف الجمهور فلا حرج عليه، ويسوغ له أن يفتى باجتهاده، ولا يجوز نقض حكم إذا حكم به، ولا منعه من الفتيا، ولا منع أحد من تقليده (3).
ثالثًا القياس:
هو حمل فرعٍ على أصلٍ في حكمٍ بجامعٍ بينهما (4).
وهو حجة عند أكثر العلماء من لدن الصحابة رضي الله عنهم، قال ابن القيم:"كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهدون في النوازل ويقيسون بعض الأحكام على بعض ويعتبرون النظير بنظيره"(5).
(1) أبو محمد، سعيد بن جبير بن هشام الأسدي، الوالبي، مولاهم، الإمام الحافظ المقرئ المفسر الشهيد، أحد الأعلام روى عن ابن عباس فأكثرَ وجوَّد، وعن عبد الله بن مغفل، وعائشة، وعدي بن حاتم، وحدَّث عنه أبو صالح، السمان، وآدم بن سليمان والد يحيى، وأشعث ابن أبي الشعثاء، توفي سنة 95 هـ. تهذيب الكمال، للمزي، (10/ 358)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (4/ 321).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في العلل ومعرفة الرجال (3/ 66) عن سعيد بن جبير أنه قال: أعلم الناس أعلمهم بالاختلاف.
(3)
ميثاق الإفتاء المعاصر، محمد يسري، (ص 62).
(4)
روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 275)، التمهيد، لأبي الخطاب، (1/ 24)، شفاء الغليل، للغزالي، (ص 18)، العدة في أصول الفقه، للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء البغدادي الحنبلي، تحقيق: د. أحمد بن علي سير المباركي، (1/ 174).
(5)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 203).
وللقياس أركان، ولكلِّ ركنٍ أحكامٌ وشروط تُمَثِّلُ بالجملة شروط صحة القياس الذي يعتبر لاستنباط الأحكام، ويُرْجَعُ إليه في إدراك الواجب في الوقائع المختلفة.
ومن غير شك فإن القياس هو مظهر من مظاهر إحكام الشريعة وكمالها، وهو برهان صلوحيتها وسعتها؛ فإن النصوص تتناهى وليست كذلك الوقائع والحوادث؛ "فلا سبيل لإعطاء الحوادث والمعاملات الجديدة منازلها وأحكامها في فقه الشريعة إلا عن طريق الاجتهاد بالرأي الذي رأسه القياس؛ فالقياس أغزر المصادر الفقهية في إثبات الأحكام الفرعية للحوادث"(1).
وعليه فإن الناظر في أحكام النوازل لا يتأتَّى له بحثٌ ولا استدلال إلَّا بعد العلم بالقياس ولا بدَّ، والمعول في إدراك أحكام النوازل عليه هو القياس.
وعلى المفتي أن يُطَوِّلَ البحث في درك النصوص أولًا، ثم التعرف على علل الأحكام ثانيًا؛ إذ العلة هي ركن القياس الأكبر، وعليها مداره واعتماده، ومباحثها من أدقِّ مباحث علم الأصول وأصعبها.
والأحكام المعللة بوصف ظاهر منضبط يشرع الحكم عند وجوده يمكن قياس نظائرها عليها، وتلك العلل قد تكون ثابتة لا تَغَيُّرَ فيها كعلة السُّكر لإثبات حد الخمر، وعلة الإيلاج في فرج محرَّم لإثبات حد الزنا، وقد تكون العلة قابلة للتغير بتغير الأعراف أو المصلحة، وعلى المجتهد أن يتتبع تلك العلل، وأن يعرف أيها يؤثر في جلب الحكم (2).
وقد يظهر بجلاء أن علَّة الحكم مرتبطة بمصلحة ما فإذا زالت فلا ينبغي أن يبقى للحكم وجود؛ ولذا رأينا عمر رضي الله عنه يقول -بعد أن جمع الصحابة على إمام في التراويح-: "نِعْمَ
(1) المدخل الفقهي العام، للزرقا، (1/ 79 - 80).
(2)
الحكم الشرعي بين العقل والنقل، د. الصادق الغرياني، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1989 م، (ص 136)، أصول الفقه، لأبي زهرة، (ص 275).