الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ليس هو الحكم الشرعي، وإنما هو الفُتيا، وأن التغير لا يعلق بتغير الزمان، وإنما بتغير العوائد والأعراف، وإنما عبر بالزمان؛ لأنه كالوعاء لهذه الأعراف والعادات.
وهناك فرق كبير بين الحكم الشرعي، وبين الفُتيا، فالحكم الشرعي هو "خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييرًا أو وضعًا"، وهذا لا يمكن أن يتغير ولا أن يتبدل؛ لأن القول بإمكانية تغييره مساوٍ للقول بإمكانية تغير خطاب الله تعالى، وهذا لا يملكه أحد من البشر، كما أنه يعد نسخًا ولا نسخ بعد تمام الرسالة ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
تاسعًا: قول الصحابي:
قول الصحابي الموقوف عليه له حالتان:
الأولى: أن يكون مما لا مجال فيه للرأي، وهذا له حكم المرفوع كما هو متقرر في علم أصول الحديث (1).
الثانية: أن يكون مما للرأي فيه مجال.
فإن انتشر في الصحابة ولم يظهر له مخالف ولم يعرف نصٌّ يعارضه فهو حجة عند الأكثر.
ويطلق عليه الإجماع السكوتي أو الإقراري، وعليه: فإن هذا القول يُقَدَّمُ على القياس، ويخص به النص، على خلاف بين العلماء في تخصيصه للنصوص.
وإن لم ينتشر، فقيل: حجة على التابعي ومن بعده؛ لأن الصحابي حضر التنزيل فعرف التأويل لمشاهدته لقرائن الأحوال.
وقيل: ليس بحجة على المجتهد التابعي -مثلًا- لأن كليهما مجتهد يجوز في حقه أن يخطئ وأن يصيب.
(1) نزهة النظر شرح نخبة الفكر، للحافظ ابن حجر العسقلاني، ومعه: النكت على نزهة النظر، لعلي حسن عبد الحميد الحلبي، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1413 هـ - 1992 م، (ص 141 - 142).
والأول أرجح، وقد ذكر ابن تيمية أن جمهور العلماء يحتجون به (1).
وعن أحمد رحمه الله لا يُخرج عن قول الخلفاء الأربعة.
فقولهم عنده حجة، وليس بإجماع؛ لحديث:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين"(2)، وحديث:"اقتدوا باللَّذين من بعدي: أبي بكر وعمر"(3).
وأما إذا تخالفت أقوال الصحابة فإن قول أحدهم ليس بحجة على مثله، وهذا موضع اتفاق (4)، ومن نقل عنه قبول قول الخلفاء الراشدين أو قول أبي بكر وعمر فإن مراده بالنسبة للمقلِّد لا للمجتهد (5).
وقد اشتهر الإمام أحمد رحمه الله بالاعتداد بفتوى الصحابي وقوله، وقد عُدَّ هذا من أصول فقهه رحمه الله.
كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله فقال: "الأصل الثاني من أصول فتاوي الإمام أحمد، ما أفتى به الصحابة؛ فإنه إذا وَجَدَ لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يَعْدُها إلى غيرها، ولم يقل: إن ذلك إجماع، بل من ورعه في العبارة يقول: لا أعلم شيئًا يدفعه، أو نحو هذا، وإذا وجد الإمام أحمد هذا النوع عن الصحابة لم يُقَدِّمْ عليه عملًا ولا رأيًا ولا قياسًا، وإذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن
(1) المسودة في أصول الفقه، لآل تيمية، (335 - 338)، الإحكام، للآمدي، (4/ 155 - 161)، مذكرة أصول الفقه للشنقيطي، (ص 256 - 257).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه: الترمذي، كتاب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: مناقب أبي بكر وعمر، (3662، 3663)، وابن ماجه، المقدمة، باب: في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، (97)، من حديث حذيفة رضي الله عنه. قال الترمذي:"حديث حسن".
(4)
شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 422).
(5)
مذكرة أصول الفقه، للشنقيطي، (ص 257).
أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيه ولم يجزم بقول" (1).
وانتصر ابن القيم لهذا المنهج فقال: "لا يسع المفتي أو الحاكم عند الله أن يفتي ويحكم بقول فلان وفلان من المتأخرين من مقلدي الأئمة ويأخذ برأيه وترجيحه، ويترك الفتوى والحكم بقول البخاري وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، بل يرى تقديم قول المتأخرين من أتباع من قلده على فتوى أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود رضي الله عنهم. فلا يُدرى ما عذره غدًا عند الله إذا سوَّى بين أقوال أولئك وفتاويهم، وأقوال هؤلاء وفتاويهم فكيف إذا رجَّحها عليها؟! فكيف إذا عَيَّنَ الأخذ بها حكمًا وإفتاءً، ومنعَ الأخذ بأقوال الصحابة؟!! "(2).
ولأهمية هذا المسلك يخاطب ابن القيم المفتين بقوله: "أيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر إذا أفتى بفتوى، وأفتى من قلدتموه بغيرها؟ ولا سيما من قال من زعمائكم: إنه يجب تقليد من قلَّده دينًا، ولا يجوز تقليد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، اللهم إنا نشهدك أن أنفسنا لا تطيب بذلك، ونعوذ بك أن نطيب به نفسًا"(3).
وهو في هذا المسلك يتبع شيخه ابن تيمية رحمه الله الذي قال: "وقد تأمَّلت من هذا الباب ما شاء الله فرأيت الصحابةَ أفقهَ الأمة وأعلمَها، واعتبر هذا بمسائل الأيمان، والنذر، والعتق، والطلاق، وغير ذلك، ومسائل تعليق الطلاق بالشروط، ونحو ذلك.
وقد بينتُ أن المنقول فيها عن الصحابة هو أصحُّ الأقوال قضاءً وقياسًا، وعليه يدلُّ الكتاب والسنة، وعليه يدور القياس الجلي، وكل قول سوى ذلك تناقض في القياس مخالف للنصوص، ولم أجد أجود الأقوال فيها إلا الأقوال المنقولة عن الصحابة، وإلى ساعتي هذه ما علمتُ قولًا
(1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 30).
(2)
المرجع السابق، (4/ 118 - 119) باختصار.
(3)
المرجع السابق، (4/ 145).
قاله الصحابة ولم يختلفوا فيه، إلا وكان القياس معه" (1).
هذا هو مذهب ابن تيمية في أقوال الصحابة، وهو إذ يجعل قول الصحابي أصلًا من أصول الاستدلال، إنما يترسم خُطَى إمامه أحمد بن حنبل رحمه الله، وذلك عن اجتهاد لا تقليد.
قال ابن تيمية رحمه الله: "قال أبو داود: قال أحمد بن حنبل: ما أجبتُ في مسألة إلا بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجدتُ في ذلك السبيل إليه، أو عن الصحابة، أو عن التابعين، فإذا وجدتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعدل إلى غيره، فإذا لم أجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين، فإذا لم أجد عن الخلفاء، فعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر فالأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم أجد، فعن التابعين، وعن تابعي التابعين، وما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث بعمل له ثواب إلا عملت به رجاءَ ذلك الثواب، ولو مرة واحدة"(2).
"وتظهر أهمية هذا الأصل للمفتي في أن العلم بفتاوي الصحابة وأقضيتهم علمًا جامعًا تمدُّ الفقيه بعناصر الفقه الكاملة، وتعطيه أحكامًا لأشتات من الحوادث في الأقاليم المختلفة؛ حيث إن الصحابة بعد فتح الأمصار رأوا أحداثًا وحضارات مختلفة لم تكن في بلاد العرب، فاستنبطوا أحكام هذه الحوادث من المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك تكون أقضية الصحابة وفتاويهم، وكذلك أقضية كبار التابعين، صورًا ناقلة لأشكال الحضارات والمدنيات التي تواردت على العقل الإسلامي، فالإمام أحمد بهذا الأصل وجد ألوانًا من الحوادث تغنيه في الفتوى عن الفرض والتقدير الذي وسع الفقه الحنفي بما فيه من إيجابيات وسلبيات، وهذا لا يعني أن المفتي لا بدَّ أن يجمد على آثار الصحابة، وكبار التابعين، فلا يخرج منها، وإنما العلم
(1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (20/ 582).
(2)
المسودة، لآل تيمية، (ص 336)، أصول الفقه وابن تيمية، د. صالح المنصور، دار النصر، القاهرة، ط 1، 1400 هـ - 1980 م، (1/ 355 - 356).