الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول الإمام القرافي رحمه الله: "لا ينبغي للمفتي إذا كان في المسألة قولان:
أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف -أن يفتي العامة بالتشديد والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف، وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين، ودليل على فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه، وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق، نعوذ بالله من صفات الغافلين" (1).
وقد عدَّ ابن السمعاني (2) من شروط العلماء أهل الإفتاء: الكف عن الترخيص والتساهل، ثم صنف رحمه الله التساهل نوعين:
"- أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام، ويأخذ ببادئ النظر، وأوائل الفكر فهذا مقصر في حقِّ الاجتهاد، ولا يحل له أن يفتي ولا يجوز.
- أن يتساهل في طلب الرخص وتأوُّل السنة فهذا متجوز في دينه وهو آثمُ من الأول" (3).
المنهج الثالث: منهج الوسطية والاعتدال:
الوسطية في هذا الباب هي وسطية الإسلام في استنباط الأحكام، وهي وسطية بين طرفي التشديد والإفراط، وبين التسيب والتفريط، وهي وسطية تنضبط بالنصوص، وترعى المقاصد، وتحقق المصالح، وتفرق بين الفتيا العامة والخاصة في شأن الأقليات، وهي وسطية السداد في الإفتاء مع المقاربة، لا تكلف
(1) الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام، للقرافي، (ص 250).
(2)
أبو المظفر، الإمام العلامة مفتي خراسان وشيخ الشافعية، منصور بن محمد بن عبد الجبار التميمي السمعاني المروزي الحنفي ثم الشافعي، من مصنفاته: القواطع في أصول الفقه، والمنهاج لأهل السنة، والأمالي في الحديث وغير ذلك، ولد 426 هـ، وتوفي سنة 489 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (19/ 114)، وطبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (5/ 335).
(3)
تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية، لمحمد بن علي بن حسين المكي المالكي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1347 هـ، (1/ 116 - 117).
العباد ما يرهقهم عنتًا، ولا تفتح لهم بابًا إلى الاجتراء على الأحكام والحرمات.
والأمر كما قال الشاطبي رحمه الله: "المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور؛ فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال"(1).
وهو منهج لا يجمد على مذهب بعينه، ولا يهمل آراء المجتهدين، يسعى أربابه إلى رأب الصدع ولمِّ الشمل، ووحدة صف الأقليات، وتقدير ضروراتهم بقدرها، ومراعاة حاجاتهم بما يحققها، ويوازن بين النصوص ومقاصد الشرع، ولا يقيم الشقاق بين النصوص الجزئية والمصالح المرعية؛ فهو منهج فقهي تأصيلي، لا تسويغي ولا تبريري.
وهو منهج يراعي أن ما عَمَّتْ به البلوى في بلد لم تعمَّ به في غيره، وأن الذرائع كما يجب سدُّها قد يجب فتحُها، وأن الأحكام المنوطة بالأعراف والعادات تتغير بتغيرها، وأن اختلاف المقاصد يورث اختلاف الأحكام، وأن اختلاف الديار والأحوال له مدخل في تغير الفتيا بالنسبة للأقليات، وما استقرَّ عليه الصالحون من علماء قُطْرٍ، أو جرت به الفتيا في بلد لا ينبغي زلزلته أو توهينه (2).
وهو منهج يتجنب أصحابه مصادمة النصوص الشرعية والإجماع المنعقد، ويحذرون من بناء فتياهم على قياس فاسد أو ما لا يصلح دليلًا في ذاته.
ولا يَعتبرون من الشذوذ في الإفتاء مخالفة المجتهد المتأهل للأئمة الأربعة في مذاهبهم وفتاويهم، وربما أخذوا ببعض تلك الفتاوى التي رُفضت في زمن
(1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 258).
(2)
ميثاق الإفتاء المعاصر، محمد يسري، دار اليسر، القاهرة، ط 1، 1431 هـ، (ص 116).
أصحابها، ثم تلقَّاها الناس بعد ذلك بالقبول.
وفي نوازل الأقليات يتأكد الرجوع إلى هيئات الإفتاء الجماعي؛ لقربها من الصواب بكثرة الفقهاء، وبوجود العلماء والخبراء بأحوال تلك الأقليات وملابسات ما يستجد في حياتهم من قضايا، وبطول البحث والمناقشات مما قد يتجنب معه ما يمكن أن يكون في الاجتهاد الفردي من قصور أو شذوذ.
وأرباب هذا المنهج هم فقهاء أهل السنة النبلاء، وأئمة الفتيا الصالحين الفضلاء، عُرِفَتْ في الأمة بالخير سابقتهم، وتُلُقِّيَتْ بالقبول من الخاصة والعامة فتاويهم، فلا يدخل فيهم أصحاب توجه بدعي، ولا منهج غير مرضي.