الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سادسًا: معرفة حال الدليل من حيث العمل به:
يقول الشاطبي: كل دليل لا يخلو:
1 -
أن يكون معمولًا به في السلف المتقدمين دائمًا أو أكثريًّا.
2 -
أو لا يكون معمولًا به إلا قليلًا أو في وقت ما.
3 -
أو لا يثبت به عمل.
فهذه ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون معمولًا به دائمًا أو أكثريًّا، فلا إشكال في الاستدلال به، ولا في العمل على وفْقِهِ، كفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله في الطهارات والصلوات على تنوعها من فرض أو نفل.
والثاني: ألَّا يقع العمل به إلا قليلًا، ووقع إيثار غيره والعمل به دائمًا أو أكثريًّا؛ فذلك الغير هو السنة المتبعة.
وأما ما لم يقع العمل عليه إلا قليلًا، فيجب التثبت فيه وفي العمل على وفْقِهِ. . . ولهذا القسم أمثلة كثيرة، ولكنها على ضربين:
أحدهما: أن يُتبين فيه للعمل القليل وجهٌ يصلح أن يكون سببًا للقلة، كما جاء في حديث إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم يومين (1)، وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن وقت الصلاة، فقال:"صل معنا هذين -يعني: اليومين-"(2)، فصلاته في اليوم (الثاني) في
(1) أخرجه: أبو داود، كتاب الصلاة، باب: في المواقيت، (393)، والترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم، (149)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أمَّني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين. . ." الحديث. وصححه ابن خزيمة (325). ورُوي أيضًا من حديث جابر وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه: مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: أوقات الصلوات الخمس، (613)، من حديث بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلًا سأله عن وقت الصلاة؛ فقال له. . . فذكره، قال: فلما زالت الشمس =
أواخر الأوقات وقع موقع البيان لآخر وقت الاختيار الذي لا يُتَعَدَّى.
ثم لم يزل مثابرًا على أوائل الأوقات إلا عند عارض؛ كالإبراد في شدة الحَرِّ ونحو ذلك.
والضرب الثاني: ما كان على خلاف ذلك، ويأتي على وجوه:
1 -
أن يكون محتملًا في نفسه، والذي هو أبرأ للعهدة وأبلغ في الاحتياط تَرْكُهُ، والعمل على وفق الأغلب، كقيام الرجل للرجل إكرامًا له وتعظيمًا، فإن العمل المتصل تركه؛ فقد كانوا لا يقومون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل عليهم.
2 -
أن يكون مما فُعِلَ فلتةً، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه به، ثم بعد ذلك لا يفعله ذلك الصحابي ولا غيره، ولا النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يأذن فيه ابتداءً لأحد، كما في قصة الرجل الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في أَمْرٍ فعمل فيه، ثم رأى أن قد خان الله ورسوله، فربط نفسه بسارية من سواري المسجد (1).
3 -
أن يكون العمل القليل رأيًا لبعض الصحابة لم يُتَابَعْ عليه، كما روي عن أبي طلحة الأنصاري أنه أكل بَرَدًا وهو صائم في رمضان، فقيل له: ألست صائمًا؟ فقال: بلى؛ إن ذا ليس بطعام ولا شراب؛ وإنما هو بركة من السماء، نطهر به بطوننا! (2).
4 -
أن يكون عُمِلَ به قليلًا ثم نسخ، فترك العمل به جملة، فلا يكون حجة بإطلاق،
= أَمَرَ بلالًا فأذَّن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم. . . الحديث.
(1)
الرجل هو "أبو لبابة الأنصاري" في قصة بني قريظة، لما استشاروه أن ينزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، يعني: الذبح. انظر: "مسند الإمام أحمد"(6/ 141)، السيرة النبوية، لابن هشام، (2/ 236 - 237).
(2)
أخرجه: أبو يعلى في "مسنده"، (3/ 15، 7/ 73)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"، (5/ 114)، وغيرهما، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مطرت السماء بَرَدًا، فقال لنا أبو طلحة ونحن غلمان: ناولني يا أنس من ذاك البَرَدِ فجعل يأكل وهو صائم. . . الحديث. قال أنس: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: "خذ عن عمك". وقال الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة"(63): "منكر". ورُوي موقوفًا على أبي طلحة بإسناد صحيح على شرط الشيخين؛ كما في المصدر السابق.
فكان من الواجب في مثله الوقوف مع الأمر العام.
ومثاله: حديث الصيام عن الميت (1)؛ فإنه لم يُنقَل استمرارُ عملٍ به ولا كثرة، إن أغلب الرواية فيه دائرة على عائشة وابن عباس، وهما أول من خالفاه.
وبسبب ذلك ينبغي للعامل أن يتحرَّى العمل على وفق الأولين، فلا يسامح نفسه في العمل بالقليل إلا قليلًا وعند الحاجة ومسِّ الضرورة.
أما لو عمل بالقليل دائمًا للزمه أمور:
1 -
المخالفة للأولين في تركهم الدوام عليه، وفي مخالفة السلف الأولين ما فيها.
2 -
استلزام ترك ما داوموا عليه.
3 -
أن ذلك ذريعة إلى اندراس أعلام ما داوموا عليه، واشتهار ما خالفه.
فالحذرَ الحذرَ من مخالفة الأولين، فلو كان ثَمَّ فضلٌ ما، لكان الأولون أحقَّ به، والله المستعان.
والقسم الثالث: أن لا يثبت عن الأولين أنهم عملوا به على حال، فهو أشدُّ مما قبله، فكل مَنْ خالف السلف الأولين فهو على خطأ، وهذا كافٍ. والحديث الضعيف الذي لا يعمل العلماء بمثله جارٍ هذا المجرى.
وكثيرًا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة، يُحَمِّلُونهما مذاهبهم، ويُغَبِّرُون بمشتبههما في وجوه العامة، ويظنون أنهم على شيء (2).
وقد أوردتُ كلامَ الشاطبي بطوله لبيان أهمية هذا الضابط، والتنبيه على عناصره وأقسامه
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الصيام، باب: مَن مات وعليه صوم (1952)، ومسلم، كتاب الصيام، باب: قضاء الصيام عن الميت، (1147)، من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَن مات وعليه صيام صام عنه وليه".
(2)
الموافقات، للشاطبي، (3/ 56 - 71) بتصرف واختصار، تهذيب الموافقات، لمحمد بن حسين الجيزاني، دار ابن الجوزي، الرياض، ط 2، 1427 هـ (ص 225) وما بعدها.