الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالمنهجية المعتبرة عند أهل العلم، ثم يفتي بما ظهر له، وأما أن يتصور في ذهنه الجواب، ثم يبحث في الأدلة عما يوافق اعتقاده السابق، وربما يلوي أعناق النصوص؛ لتدل على ما يوافق اعتقاده فهذه خيانة للأمانة وإضلال للناس، وهو منهج أهل البدع والأهواء، الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويصرفون النصوص عن ظواهرها؛ لتوافق آراءهم وأهواءهم.
قال ابن القيم رحمه الله ردًّا على من أوَّل حديثًا صحيحًا تأويلًا غير سائغ: "هذا لفظ الحديث وهو الأصح إسنادًا، وهو لا يحتمل ما ذكرتم من التأويل بوجه ما، ولكن هذا عمل من جعل الأدلة تبعًا للمذهب، فاعتقد ثم استدلَّ، وأما من جعل المذهب تبعًا للدليل، واستدلَّ ثم اعتقد لم يمكنه هذا العمل"(1).
سادسًا: ألا يجزم بأن هذا حكم الله إذا كان الجواب مبنيًّا على الاجتهاد:
إن المفتي التقي الورع لا يجزم بأن جوابه هو حكم الله في نفس الأمر إذا لم يكن عنده دليل قطعيٌّ، بل كان جوابه مبنيًّا على الظن والاجتهاد، وإنما يقول: هذا ما ظهر لي، أو نحو ذلك، ويعتقد أن رأيه صواب محتمل الخطأ، وأن رأي غيره خطأ محتمل الصواب.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أميره بريدة رضي الله عنه أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله، وقال له:"فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك"(2).
قال ابن القيم رحمه الله: "فتأمل كيف فرَّق بين حكم الله، وحكم الأمير المجتهد، ونهى أن يُسمى حكم المجتهدين حكمَ الله، ومن هذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكمًا حكم به، فقال: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر! فقال: لا! بل اكتب: هذا ما رأى عمر، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر"(3).
(1) زاد المعاد، لابن القيم، (5/ 268).
(2)
جزء من حديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث. . . (1731) من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه مرفوعًا.
(3)
أخرجه: البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب آداب القاضي، باب: ما يقضي به القاضي. . .، (10/ 116)، =
وهكذا لا ينبغي أن يقول فيما أدَّاه اجتهاده، ولم يظفر فيه بنص عن الله ورسوله: هذا حلال وهذا حرام.
ولهذا كان السلف يتورعون عن إطلاق الحرام على كثير من الأمور التي يرون تحريمها إذا لم تثبت بنص قاطع، وإنما يقولون: نكره كذا، لا ينبغي كذا، ونحو هذا، حتى لا يقع الواحد منهم فيما حذر الله منه وزجر عنه بقوله سبحانه:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].
قال الإمام مالك رحمه الله: "لم يكن من أمر الناس، ولا مَنْ مضى مِنْ سلفنا، ولا أدركنا أحدًا ممن يُقتدَى به يقول في شيء: هذا حلال، وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، إنما كانوا يقولون: نكره كذا، ونرى هذا حسنًا، ينبغي هذا، ولا نرى هذا"(1).
وقال ابن القيم رحمه الله: لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأنه أحلَّ كذا، أو حرَّمه، أو أوجبه، أو كرهه، إلَّا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نصَّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على إباحته، أو تحريمه، أو إيجابه، أو كراهته، وأمَّا ما وجده في كتابه الذي تلقَّاه عمن قلده دينه فليس له أن يشهدَ على الله ورسوله به، ويغرَّ الناس بذلك، ولا علم له بحكم الله ورسوله.
قال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحلَّ الله كذا، أو حرَّم الله كذا، فيقول الله له: كذبت لم أُحِلَّ كذا ولم أُحَرِّمْهُ. . . وسمعت شيخ الإسلام يقول: حضرت مجلسًا فيه القضاة وغيرهم فَجَرَتْ حكومة حكم فيها أحدهم بقول زفر، فقلت له: ما هذه الحكومة؟ فقال: هذا حكم الله، فقلت له: صار قول زفر هو حكم الله
= وأبو جعفر أحمد ابن محمد بن سلامة الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، 1408 هـ - 1987 م، (9/ 214).
(1)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 39).