الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والاستغفار، والاستغاثة بالله واللجوء إليه، واستنزال الصواب من عنده والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدًّا وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ، ولا ريب أن من وفق لهذا الافتقار علمًا وحالًا وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصد، فقد أُعطي حظَّه من التوفيق، ومن حرمه فقد منع الطريق والرفيق" (1).
رابعًا: تفهُّم النازلة وتصوُّرها تصوُّرًا صحيحًا دقيقًا:
يَطرق المجتهد في نوازل الأقليات موضوعات لم تُطرق -غالبًا- من قبل بهذه الصورة، وإنما هي قضايا مستجدة يغلب عليها طابع العصر الحديث وتقنيات الحضارة المعاصرة التي لم تَدُرْ بخلد العلماء السابقين، ولا سيما في غير ديار الإسلام، والمفتي يلزمه ثلاثة أمور:
1 -
تصوُّر المسألة تصوُّرًا صحيحًا؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
2 -
معرفة الأدلة الواردة فيها وكلام أهل العلم حولها.
3 -
تنزيل هذه الأدلة على واقع المستفتي والسائل، وهي أصعبها.
إن ما حفل به العصر من متغيرات هائلة في شتى مجالات المعرفة والعلم والتقنية لا يصلح معه أن يكون المجتهدون إزاءه في التباس أو تقليد أو انعزال، فترى كثيرًا منهم مترددين أو مؤثرين جانب الورع أو الخوف، أو سالكين الطريق الأسهل بالمنع منه، والتحذير والإحجام عن النظر فيه، فإذا ما دُهي به الناس وتعاطوه وأصبح جزءًا من واقعهم بدءوا ينظرون إليه بعين الاعتبار، ويتعاملون معه تعاملًا مختلفًا، بل المفترض أن يكون علماء الشرع -ولاسيما من كان منهم في تلك البلاد التي تسكنها الأقليات- أسبقَ الناس إلى فهم هذه المستجدات، ومعرفة تفاصيلها لإبداء حكم الشرع فيها، وأن يحملوا نوعًا من المبادرة في مثل
(1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 172 - 173).
هذه المسائل، لا أن يلوذوا بالصمت.
والحاصل أن فهم واقع النازلة فهمًا صحيحًا من أهم المهمات، وأوجب الواجبات على العلماء والمفتين، ولأهمية هذا الضابط جاء في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه:"إن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أُدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بالحق لا نفاذ له. . . ثم الفهمَ الفهمَ فيما أُدلي إليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال والأشباه، ثم اعمد إلى أحبها إلى الله فيما ترى وأشبهها بالحق. . . "(1).
وقد شرح ابن القيم هذا الكتاب في إعلام الموقعين شرحًا حافلًا، ومما قال فيه:
"ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا، ومن تأمَّل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحةً بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله" (2).
(1) أخرجه: البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الشهادات، باب: لا يحيل حكم القاضي على المقضي له والمقضي عليه و. . .، (10/ 150)، وفي "معرفة السنن والآثار"(14/ 240)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(32/ 71)، من حديث أبي العوام البصري. قال ابن القيم في إعلام الموقعين:(1/ 86): هذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه.
(2)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 87 - 88) باختصار.