الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما المفتي فإن تجرده من الهوى أشدُّ لزومًا من المستفتي؛ لأنه موقِّع عن الله تعالى مخبر بشرعه، فإن أفتى بهواه موافقة لغرضه أو غرض من يحابيه كان مفتريًا على الله؛ إذ سينسب باطله وإفكه إلى شريعة الله -عياذًا بالله- وقد قال تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116، 117]، وقال سبحانه:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].
ولقد كثر في زماننا من يُفتي بالباطل اتباعًا لهوى نفسه، أو هوى الحكام والمسئولين، أو هوى العامة والمستفتين.
وقد يداخل الهوى بعضَ المفتين فيتعلق بالخلاف الوارد في المسألة ويُفتي بما يوافق هواه أو هوى مستفتيه آخذًا بأي قول قيل في المسألة، ولو كان مطَّرَحًا أو شاذًّا لا يُعَوَّل عليه أو لا يُعرف قائله، وربما علل باطله بدعوى التيسير ورفع الحرج وأنَّ الخلاف رحمة، وأنَّ من ابتلي بما فيه الخلاف فليقلد من أباح، مع أن تتبع الرخص فسق وزندقة، كما هو مشهور عند العلماء وأهل الأصول.
وقد أحسن ابن القيم رحمه الله إذ قال: "لا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير وموافقة الغرض، فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به ويفتي به ويحكم به، ويحكم على عدوه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر"(1).
ثامنًا: أهلية المفتي للفتيا:
لما كانت الفُتيا خبرًا عن الله وتوقيعًا عنه تعالى فلا بد للمتصدر لها من شروط تتحقق فيه؛ ليكون أهلًا للقيام بهذه المهمة العظيمة التي تولاها الله بنفسه، فقال: {يَسْتَفْتُونَكَ
(1) المرجع السابق، (4/ 211).
قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ. . .} [النساء: 176].
قال صالح بن أحمد (1): قلت لأبي: ما تقول في الرجل يُسْأَلُ عن الشيء، فيجيب بما في الحديث، وليس بعالم في الفقه؟ فقال: يجب على الرجل إذا حمل نفسه على الفُتيا أن يكون عالمًا بوجوه القرآن، عالمًا بالأسانيد الصحيحة، عالمًا بالسنة، وإنما جاء خلاف من خالف؛ لقلة معرفتهم بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها (2).
وقيل لابن المبارك: متى يفتي الرجل؟ قال: إذا كان عالمًا بالأثر بصيرًا بالرأي.
وقيل ليحيي بن أكثم (3): متى يجب لرجل أن يفتي؟ فقال: إذا كان بصيرًا بالرأي بصيرًا بالأثر.
قال ابن القيم معلقًا: يريدان بالرأي القياس الصحيح والمعاني والعلل الصحيحة التي علق الشارع بها الأحكام، وجعلها مؤثرة فيها طردًا وعكسًا (4).
ولهذا ذهب أكثر الأصوليين إلى أن المفتي هو المجتهد (5) وعبروا عن غير المجتهد بالمقلد وبالمستفتي.
واشترطوا في المجتهد أن يكون صحيح العقل، عالمًا بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم،
(1) أبو الفضل، صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد، الإمام المحدِّث الحافظ الفقيه القاضي، الشيباني البغدادي، قاضي أصبهان، سمع أباه، وتفقه عليه، ولد سنة 203 هـ، وتوفي سنة 266 هـ. طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، (1/ 462)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (12/ 529).
(2)
المرجع السابق، (1/ 46).
(3)
أبو محمد، يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن بن سمعان، التميمي، المروزي، قاضي القضاة البغدادي، الحنفي، الفقيه سمع من عبد العزيز بن أبي حازم، وابن المبارك، وعبد العزيز الدراوردي، حدث عنه الترمذي، وأبو حاتم، والبخاري خارج صحيحه، وإسماعيل القاضي، من مصنفاته: كتاب التنبيه، توفي سنة 242 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (2/ 340) وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (12/ 5).
(4)
المرجع السابق، (4/ 47).
(5)
البرهان، للجويني، (2/ 1332).