الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول الثالث: إنْ نصَّ الإمام على علة، أو أومأ إليها كان مذهبًا له، وإلا فلا، إلا أن تشهد أقواله وأفعاله أو أحواله للعلة المستنبطة بالصحة والتعيين، وهذا ما رجحه ابن حمدان، وهو اختيار الطوفي من الحنابلة، واحتجوا بجواز إبداء الفرق لو عرضت المسألة على الإمام (1).
ضوابط الاستنباط بالتخريج:
أيًّا ما كان الترجيح بين المذاهب في حجية التخريج فإن هذا العمل الفقهي مما جرى عليه عمل الفقهاء قديمًا وحديثًا، وهو مما أثرى الفقه عمومًا، وأدى إلى تمهر الفقهاء، وتحصيل ملكة الفقه خصوصًا، وإيضاح الجادة للمبتدئين، وشحذ همة المتقدمين، وهذا يدعو ويحمل على ضبط هذه الأعمال الفقهية، والتنبيه على ما تطلب مراعاته عند النظر والاستنباط من أقوال أئمة الفقهاء، فإنه بحسب الانضباط بهذه الضوابط والتقيد بها يقترب القول من الصواب، وهو الغاية المنشودة.
وفيما يلي أهم تلك الضوابط:
1 - الإحاطة بمذهب الأمام قبل التخريج:
وذلك لأن نسبة المُخَرِّجِ إلى إمامه كنسبة الإمام إلى صاحب الشرع في اتباع نصوصه والتخريج على مقاصده، فكما أن الإمام لا يجوز له أن يقيس مع قيام الفارق؛ لأن الفارق مبطل للقياس، والقياس الباطل لا يجوز الاعتماد عليه، فكذلك المخرج أيضًا، لا يجوز له أن يُخَرِّجَ على مقاصد إمامه فرعًا على فرعٍ نصَّ عليه إمامه مع قيام الفارق بينهما (2) فلا بدَّ من أن يكون شديد الاستحضار لنصوص مذهبه وأصوله
= (1/ 21)، صفة الفتوى، لابن حمدان، (ص 88) المدخل، لابن بدران، (ص 137).
(1)
صفة الفتوى، لابن حمدان، (ص 88)، المدخل، لابن بدران، (ص 135).
(2)
الفروق، للقرافي، (2/ 543 - 544)، إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 176).
وقواعده، وإلا لم يجز له ذلك العمل الفقهي النوعي، وهذا الضابط لئلَّا يُخَرِّجَ على قول الإمام في مسألة وقد نصَّ الإمام على حكمها، وربما كان نصه عليها مخالفًا لقوله المخرج، وقد قال القرافي:"ومعلوم أن التخريج قد يوافق إرادة صاحب الأصل، وقد يخالفها، حتى لو عرض عليه المخرج على أصله لأنكره، وهذا معلوم بالضرورة"(1) فبداهة الأمور تقتضي أن لا تخريج في مسألة نصَّ الإمام على خلاف ما انتهى إليه عمل المخرج!
ومن أمثلة ذلك: ما رُوي عن الإمام أحمد أن كل من ذكر شيئًا يعرض به للرب عز وجل فعليه القتل مسلمًا كان أو كافرًا (2).
وما نُقل عنه أنه حكم بقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم من يهود، ومن سمع المؤذن يؤذن فقال له: كذبت؛ لأنه شتم (3)، وبهذا ينتقض العهد، ويجب القتل، إلا أن القاضي أبا يعلى خَرَّجَ رواية أخرى عن أحمد، وهي أنه لا ينتقض العهد إلا إذا امتنع عن بذل الجزية، وجريان أحكامنا عليهم، محتجًّا على ذلك بقول أحمد في المشرك إذا قذف مسلمًا: يُضرب، وكذلك قال في الرجل من أهل الكتاب يقذف العبد المسلم: ينكل به، يضرب ما يراه الحاكم.
قال القاضي: وظاهر هذا أنه لم يجعله ناقضًا للعهد بقذف المسلمين، مع ما فيه من إدخال الضرر عليه بهتك عرضه، وقد أنكر ابن القيم هذا القول وشَنَّعَ عليه، وأخبر أن أحمد لم يختلف قوله في انتقاض العهد بسب الله تعالى، وسب رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يختلف قوله في عدم الانتقاض بقذف المسلم، وأن إلحاق سب الله وسب رسوله بسب المسلم في عدم النقض من أفسد التخريج وأبطله.
قال رحمه الله: "وإذا كان المسلم يقتل بسب الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم، والزنى بعد
(1) الذخيرة، للقرافي، (1/ 35).
(2)
أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (3/ 1367).
(3)
المرجع السابق، (3/ 1367).