الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأَذْرُحَ (27)، فهذه القُرَى التى أَدَّتْ إلى رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم الجِزْيَةَ، ومُدُن الشَّامِ ما خَلَا أرْضَها إلَّا قَيْسَارِيّةَ وبلادَ الجَزِيرَةِ كلَّها، وبِلَادُ خُرَاسَانَ كلُّها أو أكْثَرُها (28) صُلْحٌ، وكلُّ مَوْضِعٍ فُتِحَ عَنْوَةً فإنَّه وَقْفٌ على المُسْلِمِينَ.
فصل:
وما اسْتَأْنَفَ المُسْلِمُونَ فَتْحَهُ، فإن فُتِحَ عَنْوَةً ففيه ثَلَاثُ رِواياتٍ: إحْدَاهُنَّ، أنَّ الإِمامَ مُخَيَّرٌ بين قِسْمَتِها على الغَانِمِينَ، وبين وَقْفِها (29) على جَمِيعِ المُسْلِمِينَ؛ لأنَّ كِلَا الأَمْرَيْنِ قد ثَبَتَ فيه حُجَّةٌ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَسَّمَ نِصْفَ خَيْبَر، وَوَقَفَ نِصْفَها لِنَوَائِبِه (30). وَوَقَفَ عمرُ الشَّامَ والعِرَاقَ ومِصْرَ وسَائِرَ ما فَتَحَهُ، وأَقَرَّهُ على ذلك عُلمَاءُ الصَّحَابَةِ، وأشَارُوا عليه به، وكذلك فَعَلَ مَنْ بعدَه مِن الخُلَفَاءِ، ولم يُعْلَمْ أحَدٌ منهم قَسَمَ شيئا من الأرْضِ التى افْتَتَحُوهَا. والثانية، أنَّها تَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الاسْتِيلاءِ عليها؛ لاتِّفَاقِ الصَّحابَةِ عليه، وقسْمَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ كان في بَدْءِ الإِسلامِ، وشِدَّةِ الحاجَةِ، فكانَتِ المَصْلَحَةُ فيه، وقد تَعَيَّنَتِ المَصْلَحَةُ فيما بعدَ ذلك في وَقْفِ الأرْضِ، فكان ذلك هو الوَاجبَ. والثالثة، أنَّ الوَاجِبَ قِسْمَتُها. وهو قولُ مَالِكٍ، وأبى ثَوْرٍ؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذلك، وفِعْلُه أوْلَى من فِعْلِ غَيْرِه، مع عُمُومِ قَوْلِه تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (31). الآية. يُفْهَمُ منها أنَّ أرْبَعَةَ أَخْمَاسِها لِلْغَانِمِينَ. والرِّوَايَةُ الأُولَى أَوْلَى؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ الأمْرَيْنِ جَمِيعًا في خَيْبَرَ، ولأنَّ عمرَ قال: لَوْلَا آخرُ النّاس لَقَسَمْتُ الأَرْضَ كما قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ (32). فقد وَقَفَ الأَرْضَ مع
(27) أذرح: اسم بلد في أطراف الشام، من أعمال الشراة، ثم من نواحى البلقاء وعمان، مجاورة لأرض الحجاز. معجم البلدان 1/ 174.
(28)
في الأصل: "وأكثرها".
(29)
في أ، م:"وقفيتها".
(30)
رواه أبو عبيد، في: الأموال 56.
(31)
سورة الأنفال 41. وسقط قوله: "الآية" من: الأصل، ب.
(32)
أخرجه البخارى، في: باب أوقاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، من كتاب الحرث والمزارعة، وفى: باب غزوة =
عِلْمِه بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَدَلَّ على أن فِعْلَهُ ذلك لم يَكُنْ مُتَعَيِّنًا، كيف والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قد وَقَفَ نِصْفَ خَيْبَرَ! ولو كانت لِلْغَانِمِينَ لم يَكُنْ له وَقْفُها. قال أبو عُبَيْدٍ (33): تَوَاتَرَتِ الآثارُ في افْتِتَاحِ الأَرَضِينَ عَنْوَةً بِهذَيْنِ الحُكْمَيْنِ؛ حُكْمِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم في خَيْبَرَ حين قَسَمَهَا، وبه أشَارَ بِلَالٌ وأصْحَابُه على عمرَ في أرْضِ الشَّامِ، وأشَارَ به الزُّبَيْرُ في أرْضِ مِصْرَ، وحُكْمِ عمرَ في أرْضِ السَّوَادِ وغَيْرِه حِينَ وَقَفَهُ، وبه أشَارَ عليٌّ، ومُعَاذٌ، على عمرَ (34)، وليس فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَادًّا لِفِعْلِ عمرَ؛ لأنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منهما اتَّبَعَ آيةً مُحْكَمَةً، قال اللهُ تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} . وقال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} (35). الآية. فكان كُلُّ وَاحِدٍ من الأمْرَيْنِ جَائِزًا، والنَّظَرُ في ذلك إلى الإِمامِ، فما رَأى من ذلك فَعَلَهُ. وهذا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وأبى عُبَيْدٍ. إذا ثَبَتَ هذا فإنَّ الاخْتِيَارَ المُفَوَّضَ إلى الإِمامِ اخْتِيَارُ (36) مَصْلَحَةٍ، لا اخْتِيارُ تَشَهٍّ، فيَلْزَمُه فِعْلُ ما يَرَى المَصْلَحَةَ فيه، ولا يجوزُ له العُدُولُ عنه، كالخِيَرَةِ بينَ القَتْلِ والاسْتِرْقَاقِ، والفِدَاءِ والمَنِّ في الأسْرَى، ولا يَحْتَاجُ إلى النُّطْقِ بِالوَقْفِ، بَلْ تَرْكُه لها (37) من غَيْرِ قِسْمَةٍ هو وَقْفُه لها، كما أنَّ قَسْمَها بين الغَانِمِينَ لا يَحْتاجُ معه إلى لَفْظٍ، لأنَّ (38) عمرَ وغيرَه لم يُنْقَلْ عنهم في وَقْفِ الأرْضِ لَفْظُ الوَقْفِ، ولأنَّ مَعْنَى وَقْفِها هاهُنا، أنَّها بَاقِيَةٌ لِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ، يُؤْخَذُ خَرَاجُها، ويُصْرَفُ في مَصَالِحِهم، ولا يُخَصُّ أَحَدٌ بِمِلْكِ شىءٍ منها، وهذا حَاصِلٌ بِتَرْكِها.
= خيبر، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 3/ 139، 5/ 176. وأبو داود، في: باب ما جاء في حكم أرض خيبر، من كتاب الخراج والفىء والإمارة. سنن أبي داود 2/ 144.
(33)
في: الأموال 60.
(34)
في أ، م زيادة:"في أرض الشام". وليس في الأموال.
(35)
سورة الحشر 7.
(36)
في الأصل، ب:"تخيير".
(37)
في أ، م:"له".
(38)
في أ، ب، م:"وإن".