الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السَّفَرَ معنًى لو وُجِدَ لَيْلًا واسْتَمَرَّ في النَّهَارِ لأَبَاحَ الفِطْرَ، فإذا وُجِدَ في أثْنَائِه أبَاحَه كالمَرَضِ، ولأنَّه أَحَدُ الأمْرَيْنِ المَنْصُوصِ عليهما في إباحَةِ الفِطْرِ بهما، فأباحَهُ في أثْناءِ النَّهَارِ كالآخَرِ. والرِّوَايَةُ الثانيةُ، لا يُبَاحُ له فِطْرُ (11) ذلك اليَوْمِ، وهو قولُ مَكْحُولٍ، والزُّهْرِىِّ، ويحيى الأَنْصَارِىِّ، ومَالِكٍ، والأوْزاعِيِّ، والشَّافِعِىِّ، وأصْحابِ الرَّأْىِ؛ لأنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ بالسَّفَرِ والحَضَرِ، فإذا اجْتَمَعَا فيها غَلَبَ حُكْمُ الحَضَرِ، كالصلاةِ، والأوَّلُ أَصَحُّ؛ لِلْخَبَرِ، ولأنَّ الصَّوْمَ يُفارِقُ الصلاة فإنَّ الصلاةَ يَلْزَمُ إتْمَامُها بِنِيَّتِه، بخِلافِ الصَّوْمِ. إذا ثَبَتَ هذا فإنَّه لا يُباحُ له الفِطْرُ حتى يُخَلِّفَ البُيُوتَ وَرَاءَ ظَهْرِه، يَعْنِى أنَّه يُجاوِزُها ويَخْرُجُ من بين بُنْيَانِها. وقال الحسنُ: يُفْطِرُ في بَيْتِه، إن شَاء، يَوْمَ يُرِيدُ أن يَخْرُجَ. وَرُوِىَ نَحْوُه عن عَطاءٍ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: قَوْلُ الحسنِ قَوْلٌ شَاذٌّ، وليس الفِطْرُ لأَحَدٍ في الحَضَرِ في نَظَرٍ ولا أَثَرٍ. وقد رُوِىَ عن الحسنِ خِلافُه. وقد رَوَى مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ، قال: أَتَيْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ في رمضانَ، وهو يُرِيدُ السَّفَرَ، وقد رُحِّلَتْ له رَاحِلَتُه، ولَبِسَ ثِيابَ السَّفَرِ، فدَعَا بطَعَامٍ فأكَلَ، فَقُلْتُ له: سُنَّةٌ؟ فقال: سُنَّةٌ. ثم رَكِبَ. قال التِّرْمِذِىُّ (12): هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . وهذا شاهِدٌ، ولا يُوصَفُ بِكَوْنِه مُسَافِرًا حتى يَخْرُجَ من البَلَدِ، ومَهْمَا كان في البَلَدِ فله أحْكامُ الحاضِرِينَ، ولذلك لا يَقْصُرُ الصلاةَ. فأمَّا أَنَسٌ فيَحْتَمِلُ أنَّه قد كان بَرَزَ من البَلَدِ خَارِجًا منه، فأتَاهَ محمدُ ابنُ كَعْبٍ في مَنْزِلِه ذلك.
فصل:
وإن نَوَى المُسافِرُ الصَّوْمَ في سَفَرِهِ، ثم بَدَا له أن يُفْطِرَ، فله ذلك. واخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فيه، فقال مَرَّةً: لا يجوزُ له الفِطْرُ، وقال مَرَّةً أُخْرَى: إن
(11) في م: "الفطر".
(12)
في: باب من أكل ثم خرج يريد سفرًا، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 4/ 12، 13.
صَحَّ حَدِيثُ الكَدِيد (13) لم أَرَ به بَأْسًا أن يُفْطِرَ. وقال مَالِكٌ: إن أفْطَرَ فعليه القَضاءُ والكَفَّارَةُ؛ لأنَّه أفْطَرَ في صَوْمِ رمضانَ، فلَزِمَهُ ذلك، كما لو كان حَاضِرًا. ولَنا، حَدِيثُ ابنِ عَبَّاسٍ (14)، وهو حَدِيثٌ (15) صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عليه. وَرَوَى جابِرٌ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الفَتْحِ، فصَامَ حتى بلَغَ كُرَاعَ الغَمِيمِ (16)، وصامَ النَّاسُ معه، فَقِيلَ له: إنَّ النَّاسَ قد شَقَّ عليهم الصِّيَامُ، وإن الناسَ يَنْظُرُونَ ما فَعَلْتَ، فدعَا بِقَدَحٍ من ماءٍ بعدَ العَصْرِ، فشَرِبَ والناسُ يَنْظُرُونَ، فأَفْطَرَ بَعْضُهم، وصَامَ بَعْضُهم، فبَلَغَه أنَّ نَاسًا صَامُوا، فقال:"أُولَئِكَ العُصَاةُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (17). وهذا نَصٌّ صَرِيحٌ لا يُعَرَّجُ على مَن (18) خَالَفَه. إذا ثَبَتَ هذا فإنَّ له أن يُفْطِرَ بما شَاءَ من أكْلٍ وشُرْبٍ وغَيْرِهما، إلَّا الجِماعَ، هل له أن يُفْطِرَ به أمْ لَا؟ فإنْ أفْطَرَ بالجماعِ ففى الكَفَّارَةِ رِوايتَانِ؛ الصَّحِيحُ منهما أنَّه لا كَفَّارَةَ عليه. وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِىِّ. والثانية، يَلْزَمُه كَفَّارَةٌ؛ لأنَّه أفْطَرَ بجِمَاعٍ فلَزِمَتْه كَفَّارَةٌ، كالحاضِرِ. ولَنا، أنَّه صَوْمٌ لا يَجِبُ المُضِىُّ فيه، فلم تَجِب الكَفَّارَةُ بالجِماعِ فيه، كالتَّطَوُّعِ، وفارَقَ الحاضِرَ الصَّحِيحَ، فإنَّه يَجِبُ عليه المُضِىُّ في الصَّوْمِ، وإن كان مَرِيضًا يُباحُ له الفِطْرُ فهو كالمُسَافِرِ، ولأنَّه يُفْطِرُ بِنِيَّةِ الفِطْرِ، فيقَعُ الجِمَاعُ بعدَ حُصُولِ الفِطْرِ، فأشْبَهَ ما لو أكَلَ ثم جامَعَ. ومتى أفْطَرَ المُسَافِرُ فله فِعْلُ جَمِيعِ
(13) الذي تقدم في الصفحة قبل السابقة.
(14)
تقدم تخريجه في صفحة 346.
(15)
سقط من: الأصل، أ، ب.
(16)
كراع الغميم: بين مكة والمدينة، وهو واد أمام عسفان بثمانية أميال، وهذا الكراع جبل أسود في طرف الحرة يمتد إليه. معجم البلدان 4/ 247.
(17)
في: باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر. . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 785، 786. كما أخرجه النسائي، في: باب ما يكره من الصيام، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 148. والترمذي، في: باب ما جاء في كراهية الصوم في السفر، ومن أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 230.
(18)
في الأصل: "ما".