الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل:
ويُسْتَحَبُّ لِلإنْسانِ أن يَلىَ تَفْرِقَةَ الزكاةِ بنَفْسِه؛ لِيكونَ على يَقِينٍ من وُصُولِها إلى مُسْتَحِقِّها، سَوَاءٌ كانتْ من الأمْوالِ الظَّاهِرَةِ أو البَاطِنَةِ. قال الإمامُ أحمدُ: أعْجَبُ إلَىَّ أن يُخْرِجَها، وإن دَفَعَها إلى السُّلْطَانِ. يعْنِى (6) فهو جَائِزٌ. وقال الحسنُ، ومَكْحُولٌ، وسَعِيدُ بن جُبَيْرٍ، ومَيْمُونُ بن مِهْرَانَ: يَضَعُها رَبُّ المالِ فى مَواضِعِها (7). وقال الثَّوْرِىُّ: احْلِفْ لهم، واكْذُبْهُم، ولا تُعْطِهم شَيْئًا، إذا لم يَضَعُوها مَوَاضِعَهَا، وقال طاوُوس (8): لا تُعْطِهم. وقال عَطَاءٌ: أعْطِهم إذا وَضَعُوها مَوَاضِعَها. فَمَفهُومُه أنَّه لا يُعْطِيهم إذا لم يَكُونُوا كذلك. وقال الشَّعْبِىُّ، وأبو جعفرٍ: إذا رَأَيْتَ الوُلاةَ لا يَعْدِلُونَ، فَضَعْها فى أهْلِ الحاجَةِ من أهْلِها. وقال إبراهيمُ: ضَعُوها فى مَواضِعِها، وإن أخَذَهَا السُّلْطَانُ أجزَأَكَ. وقال سَعِيدٌ: أنْبَأَنَا أبو عَوَانَةَ، عن مُهاجِرٍ أبى الحسنِ (9)، قال: أتَيْتُ أبَا وَائِلٍ وأبَا بُرْدَةَ بالزكاةِ، وهما على بَيْتِ المالِ، فأخَذَاها، ثم جِئْتُ مَرَّةً أُخْرَى، فرَأَيْتُ أبا وَائِلٍ وَحْدَه. فقال لى: رُدَّها فَضَعْها مَوَاضِعَها. وقد رُوِىَ عن أحمدَ أنَّه قال: أمَّا صَدَقَةُ الأرْضِ فَيُعْجِبُنِى دَفْعُها إلى السُّلْطانِ. وأمَّا زَكَاةُ الأمْوَالِ كالمَوَاشِى، فلا بَأْسَ أن يَضَعَها فى الفُقَرَاء والمَسَاكِين. فظاهِرُ هذا أنَّه اسْتحَبَّ دَفْعَ العُشْرِ (10) خَاصَّةً إلى الأئِمَّةِ؛ وذلك لأنَّ العُشْرَ قد ذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّه مَؤُونَةُ الأرْضِ، فهو كالخَراجِ يَتَوَلَّاهُ الأئِمَّةُ، بخِلافِ سَائِرِ الزكاةِ. والذى رَأَيْتُ فى "الجَامِعِ" قال: أمَّا صَدَقَةُ الفِطْرِ، فيُعْجِبُنِى دَفْعُها إلى السُّلْطانِ. ثم قال أبو عبدِ اللهِ: قِيلَ لابنِ عمرَ: إنَّهم يُقَلِّدُونَ بها
(6) سقط من: م.
(7)
فى أ، م:"موضعها".
(8)
سقط من: م.
(9)
فى الأصل: "أبى الحسين" .. وهو أبو الحسن التيمى مولاهم، كوفى ثقة. تهذيب التهذيب 10/ 324.
(10)
فى الأصل: "الأعشار".
الكِلابَ، ويَشْرَبُونَ بها الخُمُورَ؟ ! قال: ادفَعْها إليهِم. وقال ابنُ أبى موسى، وأبو الخَطَّابِ: دَفْعُ الزكاةِ إلى الإمامِ العَادِلِ أفْضَلُ. وهو قَوْلُ أصْحابِ الشَّافِعِىِّ. ومِمَّنْ قال: يَدْفَعُها إلى الإمامِ؛ الشَّعْبِىُّ، ومحمدُ بن علىٍّ، وأبو رَزِين، والأوْزَاعِىُّ؛ لأنَّ الإمامَ أعْلَمُ بمَصَارِفِها، ودَفْعُها إليه يُبَرِّئُه ظَاهِرًا وبَاطِنًا، ودَفْعُها إلى الفَقِيرِ لا يُبَرِّئُه بَاطِنًا، لاحْتِمَالِ أنْ يكونَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لها، ولأنَّه يَخْرُجُ من الخِلافِ، وتَزُولُ عنه التُّهْمَةُ. وكان ابنُ عمرَ يَدْفَعُ زكاتَه إلَى من جَاءَهُ مِن سُعَاةِ ابن الزُّبَيْرِ، أو نَجْدَةَ الحَرُورِىِّ. وقد رُوِىَ عن سُهَيْلِ (11) بن أبى صَالِحٍ، قال: أتَيْتُ سعدَ بن أبِى وَقَّاص، فقلتُ: عِنْدِى مَالٌ، وأُرِيدُ أنْ أُخْرِجَ زكاتَه، وهؤلاءِ القَوْمُ على ما تَرَى، فما تَأْمُرُنِى؟ قال: ادْفَعْها إليهم. فأتَيْتُ ابنَ عمرَ، فقال مثلَ ذلك، فأتَيْتُ أبا هُرَيْرَةَ، فقال مثلَ ذلك، فأتَيْتُ أبا سعيدٍ، فقال مثلَ ذلك (12). ورُوِىَ (13) نَحْوُه عن عائشةَ، رَضِىَ اللهُ عنها. وقال مَالِكٌ، وأبو حنيفةَ، وأبو عُبَيْدٍ: لا يُفَرِّقُ الأمْوَال الظَّاهِرَةَ إلَّا الإمامُ؛ لِقَوْلِ اللهِ تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (14). ولأنَّ أبا بكرٍ، رَضِىَ اللَّه عنه، طَالَبَهم بالزَّكاةِ، وقَاتَلَهم عليها، وقال: لَوْ مَنَعُونِى عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَها إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لقَاتَلْتُهُم عليها (15). ووَافَقَه الصَّحابَةُ علَى هذا، ولأنَّ ما لِلْإِمامِ قَبْضُهُ بِحُكْمِ الوِلايَةِ، لا يجوزُ دَفْعُه إلى المُوَلَّى عليه، كَولِىِّ اليَتِيمِ. وللشَّافِعِىِّ قَوْلَانِ
(11) فى ب: "سهل". وهو سهيل ابن أبى صالح ذكوان السمان، ثبت فى الحديث، أرخ ابن قانع وفاته سنة ثمان وثلاثين ومائة. تهذيب التهذيب 4/ 262 - 265.
(12)
أخرجه البيهقى، فى: باب الاختيار فى دفعها إلى الوالى، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 115. وعبد الرزاق، فى: باب موضع الصدقة ودفع الصدقة فى مواضعها، من كتاب الزكاة. المصنف 4/ 46. وابن أبى شيبة، فى: باب من قال تدفع الزكاة إلى السلطان، من كتاب الزكاة. المصنف 3/ 156.
(13)
فى أ، م:"ويروى".
(14)
سورة التوبة 103.
(15)
فى الأصل: "عليه".
وتقدم كلام أبى بكر فى صفحة 5.
كالمَذْهَبَيْنِ. ولَنا، على جَوَازِ دَفْعِها بِنَفْسِه، أنَّه دَفْعُ الحَقِّ إلى مُسْتَحِقِّه الجَائِزِ تَصَرُّفُه. فأجْزَأهُ، كما لو دَفَعَ الدَّيْنَ إلى غَرِيمِه، وكزكاةِ الأمْوَالِ البَاطِنَةِ، ولأنَّه أحَدُ نَوْعَىِ الزكاةِ، فأشْبَهَ النَّوْعَ الآخَرَ، والآيةُ تَدُلُّ على أنَّ لِلْإمَامِ أخْذَها. ولا خِلافَ فيه، ومُطَالَبَةُ أبى بكرٍ لهم بها، لِكَوْنِهِم لم يُؤَدُّوها إلى أهْلِهِا، [ولو أدَّوْها إلى أهْلِها](16) لم يُقَاتِلْهم عليها؛ لأنَّ ذلك مُخْتَلَفٌ فى إجْزَائِه، فلا تجوزُ المُقَاتَلَةُ من أجْلِهِ، وإنَّما يُطَالِبُ الإمامُ بِحُكْمِ الوِلَايَةِ والنِّيَابَةِ عن مُسْتَحِقِّيها (17)، فإذا دَفَعَها إليهم جَازَ؛ لأنَّهم أهْلُ رُشْدٍ، فجَازَ الدَّفْعُ إليهم، بِخِلافِ اليَتِيمِ. وأمَّا وَجْهُ فَضِيلَةِ دَفْعِها بِنَفْسِه، فلأنَّه إيصَالٌ لِلْحَقِّ (18) إلى مُسْتَحِقِّه، مع تَوْفِيرِ أجْر العِمَالَةِ، وصِيَانَةِ حَقِّهِم، عن خَطَرِ الخِيَانَةِ، ومُبَاشَرَةِ تَفْرِيج كُرْبَةِ مُسْتَحِقِّها، وإغْنَائِه بها، مع إعْطَائِها لِلْأَوْلَى بها؛ من مَحَاوِيج أقَارِبِه، وذَوِى رَحِمِه، وصِلَةِ رَحِمِه بها، فكان أفْضَلَ، كما لو لم يكنْ آخِذُها من أهْلِ العَدْلِ. فإن قِيلَ: فالكلامُ فى الإمامِ العَادِلِ، والخِيَانَةُ (19) مَأْمُونَةٌ فى حَقِّه. قُلْنا: الإمامُ لا يَتَوَلَّى ذلك بِنَفْسِه، وإنَّما يُفَوِّضُه إلى نُوَّابِه (20)، فلا تُؤْمَنُ منهم الخِيَانَةُ، ثم رُبَّما لا يَصِلُ إلى المُسْتَحِقِّ الذى قد عَلِمَهُ المالِكُ من أهْلِهِ وجِيرَانِه شىءٌ منها، وهم أحَقُّ النَّاسِ بِصِلَتِه ؤصَدَقَتِه ومُوَاسَاتِه. وقَوْلُهم: إنَّ أخْذَ الإمامِ يُبَرِّئُه (21) ظَاهِرًا وبَاطِنًا. قُلْنَا: يَبْطُلُ هذا بِدَفْعِها إلى غَيْرِ العادِلِ؛ فإنَّه يُبَرِّئُه أيضا، وقد سَلَّمُوا أنَّه ليس بأفْضَلَ، ثم إنَّ البَرَاءَةَ الظَّاهِرَةَ تَكْفِى. وقَوْلُهم: إنَّه تَزُولُ به التُّهْمَةُ. قُلْنَا: متى أظْهَرَها زَالَتِ التُّهْمَةُ، سَوَاءٌ أخْرَجَها بِنَفْسِه، أو دَفَعَها إلى الإمامِ، ولا يَخْتَلِفُ المَذْهَبُ أنَّ
(16) سقط من: الأصل.
(17)
فى الأصل، ب:"مستحقها".
(18)
فى أ، م:"الحق".
(19)
فى أ، م:"إذ الخيانة".
(20)
فى م: "سعاته".
(21)
فى الأصل: "يبرأ به".