الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونهى عن المحاقلة: وهي بيع الحب في سنبله بحب صاف كيلاً.
قال ابن كثير: «إنما حرمت هذه الأشياء - يعني: المخابرة، والمزابنة، والمحاقلة - وما شاكلها حسماً لمادة الربا؛ لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة، ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا، والوسائل الموصلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم
…
»
(1)
.
فإذا كان يشترط لصحة العقد خلوه من احتمال الربا، فما بالك بتحريم هذه العقود مع صريح الربا.
الدليل السادس:
سد الذرائع المفضية إلى الحرام، فالإنسان إذا أخذ الربا، فربما تغلبه نفسه، ولا يخرجه عن ملكه، لاسيما إذا كان المال كثيراً، فليس من الحكمة أن يفتح الباب لعموم الناس أن يساهموا في الشركات المختلطة، وأن يأخذوا الربا، ثم نطالبهم بالتخلص منه، ألا منعناهم ابتداء من أخذ الحرام حتى لا نفتنهم في قدرتهم على التخلص منه.
هذه بعض أدلة هذا القول، وقد تركت أدلة كثيرة لهذا القول إما لأنها أحاديث ضعيفة، وإما لأنها ليست صريحة في الباب، لأن الاستدلال بالدليل الضعيف يسيء إلى القول القوي ويضعفه.
الراجح من الخلاف:
إنني أتعجب من إقدام بعض طلبة العلم على القول بجواز الشركات المختلطة
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 328).
مع علمهم بأن ذلك يعني إمضاء عقود الربا، وتكرارها، مع أن عقود الربا يجب فسخها بالإجماع، ثم أراهم يتحرجون من القول بجواز شركات التأمين التجارية للمنشآت مع أن عقود التأمين من عقود الغرر، وهي أخف بكثير من عقود الربا بل لا مقارنة بين العقدين.
لهذا أرى أن القول بالتحريم هو القول المتعين للأسباب التالية:
الأول: لا يجوز الاستدلال بالقواعد العامة فيما ورد فيه نص خاص، وذلك لأن النص العام لا يقضي على النص الخاص، ولا يقدم عليه، مع العلم أن دلالة العام على أفراده أقوى من دلالة القاعدة العامة على جزئياتها، وذلك لأن النص العام تلقيناه من قبل الشارع بخلاف القواعد العامة فهي قواعد مستنبطة وليس منصوصاً عليها، ولذلك تجد كل مذهب من المذاهب الأربعة قد يستقل ببعض القواعد التي لا يحتج بها بقية المذاهب الأخرى، كما أن القواعد أغلبية وليست كلية، فإذا كان الاستدلال بها يؤدي إلى تعطيل نص قطعي خاص امتنع الاحتجاج بها، فالنصوص الخاصة بتحريم يسير الربا لا ينازع فيها أحد بما فيهم المخالف، فتجاوز تلك النصوص إلى القواعد العامة ليس بالمنهج السليم.
ثانياً: أن القول بالجواز ليس منضبطاً أيضاً من الناحية الفقهية:
فهم يشترطون للجواز أن يكون الربا يسيراً، ثم يقولون: لا يغتفر اليسير بل يجب التخلص منه، فإن كان اليسير لا يغتفر لم يكن هناك فرق بين القليل والكثير بجامع التحريم في كل منهما.
ويشترطون التخلص من الربا لجواز المساهمة، ثم لا يرون التخلص مخلصاً إذا كان الربا كثيراً، فإن كان التخلص من الحرام هو شرط الجواز، فلماذا التفريق بين الكثير والقليل، فإذا كان التخلص من الحرام لم ينفع في الكثير فلن
ينفع في القليل أيضاً، لأن القليل حرام كالكثير وهذا محل اتفاق، وهذا يدلك على عدم انضباط الفتوى.
وأوجبوا بيع السهم والتخلص منه إذا تغير وضع الشركة بحيث لم يعد تنطبق عليها تلك الضوابط، كما لو زادت نسبة الحرام عن المقدار الجائز عندهم، مع تحريمهم شراءه في مثل هذه الحالة، والسؤال: إذا كان السهم حراماً فكيف يجوز بيعه، والانتفاع بثمنه؟ فإن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، أتتخلص من الحرام بإيقاع أخيك فيه، أليس مقتضى الأثر والنظر أن يقال: بعدم جواز بيعه في هذه الحالة كما قلتم بتحريم شرائه.
وقالوا: إن تصرفات أعضاء مجلس الإدارة ليست محسوبة على المساهمين مع قولهم بأن الأرباح التي يجنيها مجلس الإدارة هي من حق المساهمين، كما حرموا على المساهم أن يساهم في الشركة إذا كان تصرف أعضاء مجلس الإدارة قد تعدى نسبة معينة يرونه كثيراً، فلولا أن تصرفات الشركة محسوبة على المساهمين لم يجعلوا هذه الضوابط في تصرفات الشركة؟
ثالثاً: إذا كان الربا عقداً بين الآخذ والمعطي، وهما في حكم الشرع واحد كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد:(الآخذ والمعطي فيه سواء) رواه مسلم، فالتخلص لا يخلص المعطي، وإنما يخلص الآخذ على قولكم، فإذا كان الآخذ سبباً في ربا المعطي، ولولاه لم يقع في الربا كان الآخذ شريكاً للمعطي في الإثم، لأنه السبب في وقوعه في الربا، وإن تخلص الآخذ مما أخذ لم يستطع أن يتخلص من كونه سبباً في ربا الطرف الثاني مع العلم بأن الشركات المختلطة تارة تكون آخذة للربا وتارة تكون معطية، وهي في حال تكون معطية لا يتصور أن يكون التخلص مخلصاً لها.
رابعاً: الفقهاء متفقون على أن العقد الفاسد فضلاً عن الباطل يجب فسخه،
ورده بعد قبضه ما لم يفت، ولا يتوقف فسخه على رضا الطرفين، ما دامت عينه قائمة ولم تتغير، ولم يتصرف فيها قابضها، وأخذ الربا بنية التخلص إمضاء لعقد يجب فسخه، وتكرار لفعل مأذون فاعله بحرب من الله ورسوله.
قال ابن عابدين الحنفي في حاشيته: «الفاسد يجب فسخه على كل منهما بدون رضا الآخر، وكذا للقاضي فسخه بلا رضاهما»
(1)
.
وقال ابن الجلاب المالكي في كتابه التفريع: «من اشترى شيئاً بيعاً فاسداً فسخ بيعه، ورد المبيع على بائعه»
(2)
.
(3)
.
خامساً: ليس التخلص من الربا أحب إلى الله من قطع الربا وعدم الإقدام عليه ولذلك قال تعالى: {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:275] ولم يوجب عليه التخلص، ثم قال:{وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275] والمساهم في الشركات المختلطة يعود إلى عقد الربا في كل صفقة تعقدها الشركة مع البنوك الربوية، وهي عقود متجددة ومستمرة، فالموافقة على فعل الربا ونشره والإقدام عليه أخطر من كون المرء أخذ هذا المال أو لم يأخذه، ولذلك كانت اللعنة للكاتب والشاهد، وهم لم يأخذوا شيئاً.
(1)
حاشية ابن عابدين (5/ 124).
(2)
التفريع لابن الجلاب (2/ 180).
(3)
بداية المجتهد (2/ 145).
سادساً: إذا كان التخلص يمكن معرفة مقداره في حالة الإقراض بفائدة، فإنه لا يمكن معرفة مقداره في حالة الاقتراض بفائدة، فإن هذا من التصرف المحرم الذي لا يمكن حسابه.
سابعاً: الأرباح المحرمة ليست كلها توزع على المساهمين حتى يمكن القول بأن التخلص منها يجعل السهم نقياً، فالأرباح الاحتياطية جزء منها محرم، والسهم يمثل حصة شائعة في الشركة، وفي ما تملكه الشركة من أرباح احتياطية، وهذا لا يمكن إخراجه والتخلص منه.
هذا ما تيسر جمعه والتعليق عليه أسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا سواء السبيل.
* * *