الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
الحكم الفقهي للأسواق المالية من حيث الجملة
[ن -137] بعد أن عرفنا الأسواق المالية، وأقسامها إلى سوق أولية، وثانوية، وسوق لرأس المال، وآخر للنقد، والأدوات المتداولة في كل سوق، هل يمكن أن نعطي حكماً فقهياً في مشروعية إنشاء مثل تلك الأسواق؟
وللجواب على ذلك نقول:
لا شك أن الأسواق المالية هي غربية النشأة، جاءت إلى أسواقنا وجاء معها منظومة اقتصادية جديدة، الكثير منها إن لم يكن أكثرها من الأمور المستجدة، والتي تحتاج إلى تكييف فقهي معاصر يتبنى منهجاً وسطياً في تناولها، والاستفادة منها، فرفض هذه الأسواق بحجة أنها تكرس التبعية للغرب الرأسمالي ليس بوجيه، ولا ينفع البلاد، ولا العباد، فإن هذه المنظومة هي تغزو أسواق المسلمين سواء أردنا ذلك أو رفضناه.
وكذلك قبولها على ما هي عليه أكثر خطورة من القول السابق.
فالأسواق المالية من حيث المبدأ تدخل تحت قاعدة المصالح المرسلة، والتنظيمات التي تعتبر من صلاحيات أولي أمر المسلمين.
وكون الأسواق المالية اليوم لا تحقق المقاصد التي يتوخاها الإسلام، فإن هذا لا يعني إغفالها، وتركها وشأنها، أو الحكم على ما فيها حكماً مطلقاً بالتحريم، وإنما الأمانة تقتضي أن نبحث عن كل تفصيلاتها، وجزئياتها، ونقدم أدق تصور شرعي يحقق المراد الإلهي، وأن نقبل كل ما يمكن أن يكون مقبولاً منها شرعاً، ونرحب به، باعتبار أن المعاملات المالية هي حاجة إنسانية تحقق
الرفاه، والنمو الاقتصادي للبلاد، وأن التدخل الشرعي فيها إنما جاء ليحقق العدل، ويمنع الظلم، والاحتكار، والاستغلال، وهذه حاجات إنسانية، يشترك فيها المسلم مع غيره. وأن نبذل كل ما في وسعنا، ونستفرغ كل جهدنا للوصول إلى بديل إسلامي لما هو محرم منها، بعد التوصل إلى تصور صحيح نقطع من خلاله، أو يغلب على ظننا بأنه محرم، وأن نجمع لمجتمعنا الحديث بين الأصالة وبين التجديد، والتطوير، فإن تخلفت الجهات التنفيذية عن القيام بدورها في ذلك نكون قد قمنا بواجب البلاغ، وهل علينا إلا البلاغ؟
وقد جاء قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي متوافقاً مع هذا الفهم، يقول المجمع في قراره رقم: 61/ 10/6):
«إن الاهتمام بالأسواق المالية هو من تمام إقامة الواجب في حفظ المال، وتنميته باعتبار ما يستتبعه هذا من التعاون لسد الحاجات العامة، وأداء ما في المال من حقوق دينية، أو دنيوية.
إن هذه الأسواق المالية مع الحاجة إلى أصل فكرتها، هي في حالتها الراهنة ليست النموذج المحقق لأهداف تنمية المال، واستثماره من الوجهة الإسلامية، وهذا الوضع يتطلب بذل جهود علمية مشتركة، من الفقهاء، والاقتصاديين لمراجعة ما تقوم عليه من أنظمة، وما تعتمده من أليات، وأدوات، وتعديل ما ينبغي تعديله في ضوء مقررات الشريعة الإسلامية.
إن فكرة الأسواق المالية تقوم على أنظمة إدارية، وإجرائية، ولذا يستند الالتزام بها إلى تطبيق قاعدة المصالح المرسلة، فيما يندرج تحت أصل شرعي عام، ولا يخالف نصاً، أو قاعدة شرعية، وهي لذلك من قبيل التنظيم الذي يقوم
به ولي الأمر في الحرف، والمرافق الأخرى، وليس لأحد مخالفة تنظيمات ولي الأمر أو التحايل عليها، ما دامت مستوفية الضوابط الشرعية، والأصول الشرعية»
(1)
.
وأما قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، فجاء فيه ما نصه:
«الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد.
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد نظر في موضوع سوق الأوراق المالية والبضائع (البورصة)، وما يعقد فيها من عقود - بيعاً وشراء - على العملات الورقية، وأسهم الشركات، وسندات القروض التجارية، والحكومية، والبضائع، وما كان من هذه العقود على معجل، وما كان منها على مؤجل.
كما اطلع مجلس المجمع على الجوانب الإيجابية المفيدة لهذه السوق في نظر الاقتصاديين المتعاملين فيها، وعلى الجوانب السلبية الضارة فيها.
(أ) - فأما الجوانب الإيجابية المفيدة فيها:
أولاً: أنها تقيم سوقاً دائمة تسهل تلاقي البائعين والمشترين، وتعقد فيها العقود العاجلة، والآجلة على الأسهم والسندات، والبضائع.
ثانياً: أنها تسهل عملية تمويل المؤسسات الصناعية، والتجارية، والحكومية، عن طريق طرح الأسهم، وسندات القروض للبيع.
(1)
مجلة مجمع الفقه الإسلامي (6/ 2/ص: 1724).
ثالثاً: أنها تسهل بيع الأسهم، وسندات القروض للغير، والانتفاع بقيمتها؛ لأن الشركات المصدرة لا تصفي قيمتها لأصحابها.
رابعاً: أنها تسهل معرفة ميزان أسعار الأسهم وسندات القروض والبضائع، وتموجاتها في ميدان التعامل عن طريق حركة العرض والطلب.
(ب) أما الجوانب السلبية الضارة في هذا السوق، فهي:
أولاً: أن العقود الآجلة التي تجري في هذه السوق ليست في معظمها بيعاً حقيقياً، ولا شراء حقيقياً؛ لأنه لا يجري فيها التقابض بين طرفي العقد فيما يشترط له التقابض في العوضين، أو في أحدهما شرعاً.
ثانياً: أن البائع فيها غالباً يبيع ما لا يملك من عملات، وأسهم، وسندات قروض، أو بضائع على أمل شرائه من السوق، وتسليمه في الموعد، دون أن يقبض الثمن عند العقد، كما هو الشرط في السلم.
ثالثاً: أن المشتري فيها غالباً يبيع ما اشتراه لآخر قبل قبضه، والآخر يبيعه أيضاً لآخر قبل قبضه، وهكذا يتكرر البيع والشراء على الشيء ذاته قبل قبضه إلى أن تنتهي الصفقة إلى المشتري الأخير الذي قد يريد أن يتسلم المبيع من البائع الأول، الذي يكون قد باع ما لا يملك، أو أن يحاسبه على فرق السعر في موعد التنفيذ، وهو يوم التصفية، بينما يقتصر دور المشترين والبائعين - غير الأول والأخير - على قبض فرق السعر في حالة الربح، أو دفعه في حالة الخسارة، في الموعد المذكور، كما يجري بين المقامرين تماماً.
رابعاً: ما يقوم به المتمولون من احتكار الأسهم، والسندات، والبضائع في السوق، للتحكم في البائعين الذين باعوا ما لا يملكون؛ على أمل الشراء قبل موعد تنفيذ العقد بسعر أقل، والتسليم في حينه، وإيقاعهم في الحرج.
خامساً: أن خطورة السوق المالية هذه تأتي من اتخاذها وسيلة للتأثير في الأسواق بصفة عامة؛ لأن الأسعار فيها لا تعتمد كلياً على العرض والطلب الفعليين من قبل المحتاجين إلى البيع، أو إلى الشراء، وإنما تتأثر بأشياء كثيرة بعضها مفتعل من المهيمنين على السوق، أو من المحتكرين للسلع، أو الأوراق المالية فيها، كإشاعة كاذبة أو نحوها.
وهنا تكمن الخطورة المحظورة شرعاً؛ لأن ذلك يؤدي إلى تقلبات غير طبيعية للأسعار، مما يؤثر على الحياة الاقتصادية تأثيراً سيئاً.
وعلى سبيل المثال لا الحصر: يعمد كبار الممولين إلى طرح مجموعة من الأوراق المالية من أسهم، وسندات قروض، ويهبط سعرها لكثرة العرض، فيسارع صغار حملة هذه الأوراق إلى بيعها بسعر أقل، خشية هبوط سعرها أكثر من ذلك، وزيادة خسارتهم، فيهبط سعرها مجدداً بزيادة عرضهم، فيعود الكبار إلى شراء هذه الأوراق بسعر أقل، بغية رفع سعرها بكثرة الطلب، وينتهي الأمر بتحقيق مكاسب للكبار، وإلحاق خسائر فادحة بالكثرة الغالبة، وهم صغار حملة الأوراق المالية، نتيجة خداعهم بطرح غير حقيقي لأوراق مماثلة، ويجري مثل ذلك أيضاً في سوق البضائع.
ولذلك قد أثارت سوق (البورصة) جدلاً كبيراً بين الاقتصاديين، والسبب في ذلك أنها سببت - في فترات معينة من تأرجح العالم الاقتصادي - ضياع ثروات ضخمة في وقت قصير، بينما سببت غنى للآخرين دون جهد، حتى إنهم في الأزمات الكبيرة التي اجتاحت العالم طالب الكثيرون بإلغائها، إذ تذهب بسببها ثروات، وتنهار أوضاع اقتصادية في هاوية، في وقت سريع، كما يحصل في الزلزال والانخسافات الأرضية.
ولذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بعد اطلاعه على حقيقة
سوق الأوراق المالية، والبضائع (البورصة)، وما يجري فيها من عقود عاجلة، وآجلة على الأسهم وسندات القروض، والبضائع، والعملات الورقية، ومناقشتها في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية يقرر ما يلي:
أولاً: أن غاية السوق المالية (البورصة) في إيجاد سوق مستمرة ودائمة يتلقى فيها العرض والطلب المتعاملون بيعاً وشراء، وهذا أمر جيد، ومفيد يمنع استغلال المحترفين للغافلين، والمسترسلين الذين يحتاجون إلى بيع أو شراء، ولا يعرفون حقيقة الأسعار، ولا يعرفون المحتاج إلى البيع، ومن هو محتاج إلى الشراء.
ولكن هذه المصلحة الواضحة يواكبها في الأسواق المذكورة (البورصة) أنواع من الصفقات المحظورة شرعاً، والمقامرة، والاستغلال، وأكل أموال الناس بالباطل.
ولذلك لا يمكن إعطاء حكم شرعي عام بشأنها؛ بل يجب بيان حكم المعاملات التي تجري فيها، كل واحدة منها على حدة.
ثانياً: أن العقود العاجلة على السلع الحاضرة الموجودة في ملك البائع التي يجري فيها القبض - فيما يشترط له القبض في مجلس العقد شرعاً - هي عقود جائزة، ما لم تكن عقوداً محرمة شرعاً، أما إذا لم يكن المبيع في ملك البائع فيجب أن تتوفر فيه شروط بيع السلم، ثم لا يجوز للمشتري بعد ذلك بيعه قبل قبضه.
ثالثاً: العقود العاجلة على أسهم الشركات، والمؤسسات حيث تكون تلك الأسهم في ملك البائع جائزة شرعاً، ما لم تكن تلك الشركات، أو المؤسسات موضوع تعاملها محرم شرعاً، كشركات البنوك الربوية، وشركات الخمور، فحينئذ يحرم التعامل في أسهمها بيعاً وشراء.
رابعاً: أن العقود العاجلة والآجلة على سندات القروض بفائدة، بمختلف أنواعها غير جائزة شرعاً؛ لأنها معاملات تجري بالربا المحرم.
خامساً: أن العقود الآجلة بأنواعها، التي تجري على المكشوف، أي على الأسهم، والسلع التي ليست في ملك البائع، بالكيفية التي تجري في السوق المالية (البورصة) غير جائزة شرعاً؛ لأنها تشتمل على بيع الشخص ما لا يملك، اعتماداً على أنه سيشتريه فيما بعد، ويسلمه في الموعد. وهذا منهي عنه شرعاً لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تبع ما ليس عندك. وكذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم).
سادساً: ليست العقود الآجلة في السوق المالية (البورصة) من قبيل بيع السلم الجائز في الشريعة الإسلامية، وذلك للفرق بينهما من وجهين:
(أ) في السوق المالية (البورصة) لا يدفع الثمن في العقود الآجلة في مجلس العقد، إنما يؤجل دفع الثمن إلى موعد التصفية، بينما الثمن في بيع السلم يجب أن يدفع في مجلس العقد.
(ب) في السوق المالية (البورصة) تباع السلعة المتعاقد عليها، وهي في ذمة البائع الأول - وقبل أن يحوزها المشتري الأول - عدة بيوعات - وليس الغرض من ذلك إلا قبض، أو دفع فروق الأسعار بين البائعين والمشترين غير الفعليين، مخاطرة منهم على الكسب والربح، كالمقامرة سواء بسواء، بينما لا يجوز بيع المبيع في عقد السلم قبل قبضه.
وبناء على ما تقدم يرى المجمع الفقهي الإسلامي أنه يجب على المسؤولين في البلاد الإسلامية ألا يتركوا أسواق (البورصة) في بلادهم حرة تتعامل كيف
تشاء في عقود وصفقات، سواء أكانت جائزة، أم محرمة، وألا يتركوا للمتلاعبين بالأسعار فيها أن يفعلوا ما يشاؤون، بل يوجبوا فيها مراعاة الطرق الشرعية في الصفقات التي تعقد فيها، ويمنعوا العقود غير الجائزة شرعاً ليحولوا دون التلاعب الذي يجر إلى الكوارث المالية، ويخرب الاقتصاد العام، ويلحق النكبات بالكثيرين؛ لأن الخير كل الخير في التزام طريق الشريعة الإسلامية في كل شيء، قال الله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
والله سبحانه هو ولي التوفيق، والهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم»
(1)
.
وقد تضمن القرار حقائق مهمة، من أهمها:
أن وجود السوق المالية تمليه الحاجة الملحة لإقامة سوق دائمة.
وأنه لا يمكن إعطاء حكم شرعي عام بشأنها؛ بل يجب بيان حكم المعاملات التي تجري فيها، كل واحدة منها على حدة.
وهذا ما سوف أتوجه له بالبحث في الأبواب التالية، فإذا عرفنا حكم الأسواق من حيث الجملة، فإننا سوف نتناول حكمها من حيث التفصيل، وذلك بتناول حكم الأدوات المتداولة فيها، من أسهم، وسندات، وأوراق تجارية، وغيرها في المباحث التالية نسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
* * *
(1)
الدورة السابعة للمجمع، سنة 1404 هـ.