الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ولما كان هذا الكتاب يستطرد فيه بعض العقائد المعزبة إلى الحنبلي والأشعري لزم ترجمة الذاتين المنسوب إليهما ذلك، لتكون تذكرة لي وللطالبين، ولما قيل: إن الرحمة تنزل عند ذكر الصالحين، وليعرف الواقف جلالة هذين الإمامين، وغزارة هذين البحرين، وانه إذا حقق، وامعن النظر ودقق، وتبين له أن عقيدتهما تسقى من ماء واحد، وليس بينهما خلاف يفضى إلى التبديع عند البصير الناقد، وكلاهما إن شاء الله تعالى من الفرقة التى هي مصداق الحديث الشهير، والآخذان بما كانت عليه الصحابة من غير تحريف وتغيير.
(ترجمة الإمام أحمد بن حنبل)
فالأول - الفقيه الأورع، والأعلم الأزهد، الإمام الرباني، المجتهد الشيباني، مقتدي المحدثين، رابع المجتهدين، محيى السنة، الصابر على المحنة: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال، المتصل نسبه بعدنان، المروزي الأصل. خرجت أمة من مرو وهي حامل به فولدته في بغداد في شعر ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة. وقيل: إنه ولد بمرو وحمل إلى بغداد وهو رضيع، وتوفى ضحوة نهار الجمعة لثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين ببغداد، ودفن بمقبرة باب حرب.
وقد أستولت دجلة على جميع هذه المقبرة من نحو مائة وخمسين سنة أو أكثر، وكانت واقعة بين مقبرة الخيزران التى فيها الإمام الأعظم أبو حنيفة ومقبرة الإمام موسى الكاظم رحمه الله تعالى.
وقد حرز من حضر جنازته من الرجال فكانوا ثمانمائة ألف، ومن النساء ستين ألفاً. وقيل: أسلم يوم موته عشرون ألفاً من النصارى واليهود
والمجوس. وقد صنف غير واحد من الأفاضل في ترجمة هذا الحبر الكامل كتباً ورسائل، ولا سيما العلامة أبن الجوزي قد أتى بالعجب العجاب، في كتابه المشتمل على مائة باب، وسنذكر منه على وجه الاختصار جملاً تنشرح بها الصدور والأبصار.
(فأقول) : قال صالح ابن الإمام أحمد: ولد أبي سنة أربع وستين ومائة في ربيع، وجئ به من مرو حملاً. وكذا روى ولده عبد الله عن أبيه أنه قال: قدمت بي أمى حاملاً من خراسان.
وقال أبو زرعه عنه: أصله بصري وخطته بمرو، وتوفى أبوه وهو طفل، ونشأ ببغداد وطلب بها العلم والحديث من شيوخنا، ثم رحل بعد ذلك في طلب العلم إلى البلاد كالكوفة والبصرة وما والاها، والمدينة والشام واليمن والجزيرة، وكتب عن علماء كل بلد، وقال: أول من كتبت عنه الحديث أبو يوسف.
ومشايخه كثيرون ومن أجلهم: عبد الرزاق بن همام، وقد رحل إليه إلي اليمن، وقال: ما قد علينا مثل أحمد بن حنبل. وقال وكيع: ما قدم الكوفة مثل أحمد. وقال قتيبة بن سعد: إذا رأيت الرجل يجب أحمد بن حنبل فأعلم أنه صاحب سنة. فقال مزاحم الخاقاني مضمناً لذلك: [طويل] .
لقد صار في الآفاق أحمد محنة وأمر الورى فيها فليس بمشكل
ترى ذا الهوى جهلاً لأحمد مبغضاً
…
... وتعرف ذا التقوى يجب أبن حنبل
(قلت) : ورأيت في تاريخ الخطيب البغدادي نحو هذين البيتين لأبن أعين وهما:
أضحى ابن حنبل محنة مأمونة وبحب أحمد يعرف المتنسك
وإذا رأيت لأحمد متنقصاً
…
فأعلم بأن ستوره ستهتك
قال: وقال الهمداني: أحمد محنة يعرف به المسلم من الزنديق. وقال الدورقي: من سمعتموه يذكر أحمد بن حنبل بسوء فاتهموه على الإسلام. أنتهى.
وقال أبو زرعة: كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث. وقال أبو القاسم أبن الحنبلي: كان أحمد إذا سئل عن المسالة كان علم الدنيا بين عينيه. وقال إبراهيم الحربي: رأيت أحمد بن حنبل فرأيت كأن الله تعالى جمع له علم الأولين والآخرين، من كل صنف يقول ما شاء ويمسك ما شاء. وقال حرملة ابن يحيى: سمعت الشافعي يقول: خرجت من بغداد وما خلفت فيها أحداً أروع، ولا أتقى، ولا أفقه - وأظنه قال ولا أعلم - من أحمد بن حنبل. وقال حين دخوله إلى مصر: ما خلفت بالعراق أحداً يشبه أحمد بن حنبل.
وقال على بن المديني: إن الله عز وجل أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة، كفاك بالمديني شاهداً.
وقال أبو همام: ما رأيت مثل أحمد، ولا أرى أحمد مثله. وقال أبو عمير عرضت له الدنيا فأباها، والبدع فنفاها. وقال محمد بن إبراهيم: هو عندي أفضل من سفيان الثوري وأفقه منه. وقال بشر الحافي: قال أحمد مقام الأنبياء، وقد تداولته أربعة خلفاء، بعضهم بالضراء، وبعضهم بالسراء، فكان فيها معتصماً بالله عز وجل. تداوله المأمون، والمعتصم، والواثق بعضهم بالضرب والحبس، وبعضهم بالإخافة والترهيب، فما كان في هذه الحال إلا سليم الدين، غير تارك له من أجل ضرب ولا حبس.
ثم أمتحن أيام المتوكل بالتكرم والتعظيم، وبسطت الدنيا عليه فما ركن إليها، ولا أنتقل عن حالته الأولى رغبة في الدنيا، حتى حكى عن
المتوكل أنه قال: إن أحمد ليمنعنا من بر ولده، أي لشدة ورعه عن أخذ ولده من أموال الملوك شيئاً.
(قلت) : ومن زيادة ورعه ما نقله الوالد نور الله تعالى ضريحه في كتابه ((الطراز المذهب)) أنه كان يشرب من الآبار، لم يشرب من ماء دجله لاغتصابها الأراضي، ووقوع الماء من دلاء المستقين فيها بعد ملكهم له. ومن العجائب أنها اغتصبت أيضاً قبره رضي الله عنه وكافة القبور المجاورة له. وما حكاه ابن الجوزي والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: أنه كان يزرع داره ويخرج الزكاة عنها في كل سنة، يذهب في ذلك إلى قول عمر أمير المؤمنين في أرض السواد، فقد روى الشعبي أنه رضي الله عنه بعث عثمان بن حنيف فمسح السواد - أي سواد العراق - فوجده ستة وثلاثين ألف ألف جريب، فوضع على كل جريب درهماً وقفيزاً. ويقال: إن حدوده من لدن تخوم الموصل مارا مع الماء إلى ساحل البحر ببلاد عبادان من شرقي دجلة طولاً، وأما عرضه فمنقطع الجبل من حلوان إلى منتهى طرف القادسية المتصل بالعذيب من أرض العرب.
قال الخطيب بعد كلام كثير، ما منه: أنه ذكر غير واحد من العلماء ان بغداد دار غصب، وان أنقاض أبنيتها تباع دون الأرض، لأن الأنقاض ملك لأصحابها، واما الأرض فلا حق لهم فيها إذ كانت غصباً.
وأجازت طائفة بيعها، وأحتجت بأن عمر رضي الله عنه أقر السواد في أيدى أهله، وجعل أخذ الخراج منهم عوضاً عن ذلك. ثم قال: وتحصل أن أرض بغداد ملك لأربابها، يصح أن تورث وتستغل وتباع، وعلى ذلك من أدركنا من العلماء والقضاة والشهود والفقهاء، وبهم يقتدى - أنتهى.
وقال الإمام أحمد: ما كتبت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عملت به.