الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بشد رحل لها مختلف فيها. قال ابن بطال في شرح البخارى، وقد نقله عنه الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادى الحنبلى المقدسى في كتابه (الصارم المبكي) - كره قوم زيارة القبور، لأنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في النهي عنها، كحديث عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من زار القبور فليس منا)) . وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن الشعبي أنه قال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر أبنتي.
وروى عبد الرزاق عن الثورى عن منصور عن إبراهيم النخعي أنه قال: كانوا يكرهون زيارة القبور. وكثيراً ما يقول إبراهيم: كانوا يفعلون كذا، كانوا يكرهون كذا، والظاهر أنه يريد بهم شيوخه، ومن حمل عنه العلم من اصحاب على كرم الله تعالى وجهه، وابن مسعود رضي الله عنه وغيرهما. وعن ابن سيرين مثله.
[السنن والبدع في زيارة القبور]
وهذا قول ساقط، فإن أحاديث النهي منسوخة، فقد صح أنه عليه الصلاة والسلام قال:
((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزروها، فإنها تذكركم الآخرة)) . وثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم زار قبور شهداء أحد، وأنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم أصحابه إذا رأوا القبور أن يقولوا:
((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله تعالى المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم)) ولعل النهي إنما كان اولاً، لما أن الزيارة كانت تفضى إلى أمور محظورة، وكان لجل النياحة عندها. وقيل لأنهم كانوا يتفاخرون بها، كما يشير إليه قوله
تعالى: {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر} على بعض التفاسير.
نعم، أختلف القائلون بالنسخ، فقالت طائفة منهم: إنما نسخت الحرمة بالإباحة، فزيارة القبور عندهم مباحة لا مستحبة، وحكى هذا عن الإمام مالك والإمام أحمد. ووجه ذلك أن صيغة ((أفعل)) بعد الحظر إنما تفيد الإباحة، كما في قوله عليه الصلاة والسلام:((كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فأنتبذوا ولا تشربوا مسكراً)) وقد سئل الإمام مالك عن زيارة القبور فقال: كان نهى عنهما عليه الصلاة والسلام ثم اذن فيها. فلو فعل ذلك إنسان ولم يفعل الآخر لم ار بذلك بأساً، وليس من عمل الناس وفي رواية أخرى عنه أنه كان يضعف زيارتها. والذى عليه الأكثرون: أ، زيارة قبور المؤمنين مستحبة للدعاء الموتى مع السلام عليهم. وقد جاء الأمر بزيارتها غير رديف للنهي، ففي حديث ((زوروا القبور فإنها تذكر الأخرة)) .
وقال الحافظ أبو موسى الأصبهاني في كتابه (آداب زيارة القبور) : ورد الأمر بزيارة القبور من حديث على كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس، وابن مسعود، وأنس، وبريدة، وعائشة، وأبي بن كعب، وأبي ذر، وأبي هريرة رضي الله عنه. ومقتضى التعليل في الآمر: أنه لا باس بزيارة قبور الكفار، لكن لا يجوز أمراً محرماً من شرك أو كذب، أو قول هجر، أو ندب أو نياحة، وكانت هي السبب فيه فهي حرام. وحكى المقدسى الحنبلى الإجماع على ذلك. وزيارة كثير من الناس، بل أكثرهم اليوم لقبور الصالحين من هذا القبيل. والآمر ظاهر لمن كان منصفاً ذا دين، فلا حاجة إلى التطويل وإذا لم يتضمن ذلك، بل كانت لمجرد إظهار الحزن على الميت لقرابته، أو صداقته فهي مباحة، كما يباح البكاء
على الميت بلا ندب، ولا نياحة. وإذا كانت للدعاء لصاحب القبر، وإيناسه بالسلام عليه فهي مستحبة، وهي من جنس الصلاة على الجنائز. وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام زار أهل البقيع مراراً، وزار شهداء أحد. وكان عليه الصلاة والسلام يعلم اصحابه ما يقولون عند الزيارة - وقد مر ذلك آنفاً.
ويعلم من ذلك أن الغرض من الزيارة المشروعة نفع الميت لا الانتفاع به من نحو فيض أو غيره كما يزعمه كثير من الناس. فقد قالوا من تمام الزيارة لقبور الصالحين أن يعلق الزائر همته وروحه بالميت، لينعكس إليه ما يفاض على روحه من الأنوار التى لم تزل تفاض على روحه القدسية. فإنه بواسطة هذا التعليق والربط الروحان كمرآتين متقابلتين، ينعكس على إحداهما ما يشرق على الأخرى.
وهذا زعم باطل لم يثبت بكتاب أو سنة، ولا نعلم أن أحداً من سلف الأمة أدعاه، ومن أدعى فعليه البيان كائناً من كان. بل قال بعض الأجلة: إنه لا ينبغي أن يدعو لغير الميت عند القبر، ولا يتوسل بصاحب القبر وإن جل، فلم يكن الصحابة رضي الله عنه يفعلون ذلك، وهم الذين ألزمهم الله تعالى كلمة التقوى، وكانوا احق بها وأهلها:[طويل]
وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع
أنتهى بحروفه.
ومن الغريب أنه عليه الرحمة لم يكتب بعد هذا شيئاً في هذا الكتاب، وطوى الكتاب، ووقف قلمه حتى عرجت بعد أيام قلائل روحه الشريفة إلى الملك التواب. هذا، وإذا عرفت ما نقلناه علمت أن ما يفعله كثير من الناس في زيارتهم وندائهم لأصحاب القبور، وبناء المشاهد بالذهب والفضة، وتعليق الستور، وتقبيلها أمر محظور.
فقد قال أيضاً في شرح عقيدة الإمام الطحاوى الحنفى في الكلام على التوحيد (1) ما نصه: وإن كثيراً من أهل النظر يزعمون دليل التمانع هو قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء 22] لأعتقادهم أن توحيد الربوبية الذى قرروه هو توحيد الإلهية الذى بينه القرآن العظيم، ودعت إليه الرسل. وليس الأمر كذلك، بل التوحيد الذى دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب، هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وأن خالق السماوات والأرض واحد، كما أخبر عنه سبحانه بقوله:{ولئن سألتهم} الآية. ولم يكونوا يعتقدون أن الأصنام أنها مشاركة له سبحانه في حلق العالم، لكنهم يعتقدون انها تماثيل قوم صالحين من الأنبياء وغيرهم، ويتخذونهم شفعاء. ويتوسلون بهم إلى الله تعالى.
وهذا كان اصل شرك العرب، فعن ابن عباس وغيره في قوله تعالى:{وقالوا ولا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً} [نوح 23] . أنها أسماء قوم صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صورا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم وأن هذه الأصنام بعينها صارت إلى العرب.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هياج الأسدى قال: قال لي على بن ابي طالب كرم الله تعالى وجهه: ألا أبعثك على ما بعثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرنى أن لا أدع قبراً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته.
(1) وقال السفاريني: أن التوحيد ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وهو أنه لا خالق ولا رزاق ولا محيى، ولا مميت إلا هو. وتوحيد الإلهية، وهو إفراده سبحانه بالعبادة والتأله له والخضوع والحب والتوجيه. وتوحيد الصفات، وهو أن يصفه بما وصف به نفسه كما هو مذهب السلف فليحفظ. أهـ. منه.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرض موته ((لعن الله اليهود والنصارى، أتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذر ما فعلوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره صلى الله عليه وسلم أن يتخذ مسجداً.
وفي الصحيحين: أنه ذكر في مرض موته عليه الصلاة والسلام كنيسة بأرض الحبشة، وذكر من حسنها وتصاوير فيها فقال:((إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) .
وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال قبل ان يتوفى بخمس: ((إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك)) أهـ.
(قلت) وقد تعاظم الأمر في هذه الأزمان، وظهرت البدع في كل مكان، وبنيت القبب المذهبة على القبور، ونذرت لها النذور، وجعلت عليها التشابيك من العين، وسرجت عليها السرج وقناديل اللجين، ووضعت عليها الأسلحة المجوهرة، وصرفت على سدنتها وبنائها القناطير المقنطرة، وطاف حولها الزائرون وتبرك بتقبيلها والتمسح باعتابها الداخلون، وطلبوا منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وجعلوا ذلك من أعظم الطاعات، ورموا من زجرهم عن هذا الفعل الشنيع بأعظم الهنات، وأسمعوه ما يكره من الكلمات، وصدق قول أحد الأئمة الأمناء:
ورب جوهر علم لو ابوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأكثر عملهم في ذاك من الكبائر، كما صرحت به الجهابذة الأكابر. فقد قال الشيخ ابن حجر المذكور، ضوعفت
له الأجور في كتابه (الزواجر) ما نصه: ومن الكبائر أتخاذ القبور ساجد وإبقاء السرج عليها، واتخاذها أوثاناً، والطواف بها واستلامها، والصلاة إليها.
أخرج الطبراني عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر)) .
وروى الإمام أحمد والترمذى والنسائي وغيرهم عن ابن عباس: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج)) .
وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم: ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)) .
وروى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله - وفي رواية - قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة)) .
وروى ((من شرار امتى من يتخذ القبور مساجد)) . وايضاً ((كانت بنو إسرائيل أتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فلعنهم الله تعالى)) .
ومن ثم قال أصحابنا: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركاً وإعظاماً. وكون هذا الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث، وقيس عليه كل تعظيم للقبر، كايقاد السرج عليه تعظيماً له وتبركا به، والطوائف به كذلك. وأما أتخاذها أوثاناً فجاء النهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم ((لا تتخذوا قبرى وثناً بعدى)) أى لا تعظموه تعظيم غيركم لأوثانهم بالسجود له أو نحوه. فإن أراد بقوله: واتخاذها أوثاناً هذا المعنى، أتجه ما قالوه: بل يكفر بشرطه. وأن أريد أن مطلق التعظيم الذى لم يؤذن فيه كبيرة ففيه بعد.
نعم، قال بعض الحنابلة: قصد الصلاة عند القبر تبركا به عين المحادة لله ورسوله. ومن أعظم أسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مسجداً وتجب إزالة كل منكر، وتجب المبادرة لهدمها، وعدم القباب التى على القبور، إذ هي اضر من مسجد الضرار، لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه نهي ذلك، وأمر بهدم القبور. وتجنب إزالة كل قنديل أو سراج، ولا يصح وقفه ونذره. أهـ.
وقال أيضاً: إن من الكبائر زيارة النساء لها، فعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم:((لعن زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)) .
وصرح أصحابنا بتحريم السراج على القبر، وإن قل، حيث لم ينفع به مقيم ولا زائر، وعللوه بالإسراف وإضاعة المال، والتشبه بالمجوس. فلا يبعد في هذا حينئذ أن يكون كبيرة. أنتهى ما في الزواجر باقتصار.
قلت: وقد أختلف العلماء في زيارة النساء للقبور إذا لم تكن مشتملة على محرم من نوح وغيره. وأما إذا اشتملت على ما يفعله كثير من نساء زماننا قولاً وفعلاً، بل ما يفعله كثير من جهلة الرجال أيضاً فلا خوف في الحرمة إذ ذاك كما لا يخفى على المطلع الخبير.
قال الشيخ على الحلبي الشافعي فيما كتبه على الغاية ما نصه: وكذلك يجب منعهن من زيارة كثير من قبور الأولياء في العراق وغيره، لما في ذلك من المفاسد التى يطول شرحها من تبرج بزينة، ولطم ونوح، واجتماع نساء ورجال واختلافهم جلوساً ومشياً، فلا يمترى عاقل في سد هذا الباب حسماً لمادة الفساد. بل يكره للرجل - والحالة هذه - فضلاً عن النساء، ولو قيل بالتحريم لم يبعد. أنتهى.
وإن أردت استيفاء بحث البناء على الأموات، فارجع إلى الكتب الفقهية المعتبرات، واكتف الآن بما سطرناه، واعتصم بما نقلناه، وأسأل البارى سبحانه هداه. ثم إني أقول بعد هذا كله: إن الذى عقدت حباً عقيدتى في فصله سنية شد الرحل إلى مرقد سيد الشفعاء، والرسول المقدم يوم الفزع الأكبر على الأصفياء. وهو من خصوصياته عليه أكمل الصلاة والسلام، كما ذهب إلى نحوه في الاستغاثة سلطان العلماء العز بن عبد السلام، لا سيما وقد تعددت الأحاديث في ذلك، وإن أول أو طعن البعض منها بضعف المسالك.
وأما ما دعا ذاك القبر المطهر من الأنبياء التى لا يصحح تعيينها تواتر يفيد اليقين، وكذا مشاهد الأولياء الذين لم يرد في السفر إليهم أثر قوى عن السلف الصالحين، فعدم شد الرحل إليهم سداً للذرائع اصوب، وترك ما يريبك إلى ما لا يريبك أحب في المذاهب.
كيف لا، وقد اتسع الخرق الآن على الراقعين، وقدم لسفر إلى مقابر الأولياء على سائر الفرائض كثير من الجاهلين، بل يقدمه أهل البدع على الحج، ويعد إيفاء نذره لأصحابنا بها افضل من العج والثج، ويحسب الطواف حول ذلك الميت شبه الطواف بين أركان البيت: فألهاهم عن الواجبات التفاخر بذلك والتكاثر.
وظنوا ان أصلح الأمة من واظب على السفر إلى المقابر. وكأني بمن يقول: إنك قد خالفت القولين، ولم تسلك في احد الطريقين المتقدمين. فأقول له: إنى قد سلكت نحو ما ذكرت، لأنه الطريق الوسط، السالم عند المنصف الممعن من الشطط، ولا سيما إذا نوى المسجد النبوى معه فهو الأحوط. فإن أصبت ببياني هذا فلى الأجر إن شاء الله، وإن أخطأت فأسأله سبحانه أن يغفر لى ما أخطأت، ولا حول ولا قوة إلا بالله.