الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فتوى لابن تيميه عن كلام الله]
ولنذكر من كلام الشيخ ابن تيميه - أعلى الله تعالى درجته - في ذلك، حتى يتبين لك أنه سلك من المذاهب الأحمد معروف المسالك، فقد قال في فتاويه ما نصه:
وسئل عن رجلين تنازعاً، فقال أحدهما: القرآن حرف وصوت. وقال الآخر: ليس هو بحرف ولا صوت. وقال أحدهما: النقط التى في المصحف والشكل من القرآن. وقال الآخر ليس ذلك من القرآن. فما الصواب من ذلك حتى نعتقده.
فأجاب: الحمد لله رب العالمين. هذه المسألة يتنازع فيها كثير من الناس. ويخلطون فيها الحق بالباطل، فالذى قال: إن القرآن حرف وصوت. إن أراد بذلك أن هذه القرآن الذى يقرؤه المسلمون هو كلام الله عز وجل، الذى نزل به الروح الأمين، على سيدنا محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وان جبريل سمعه من الله تبارك وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والمسلمون سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:{قل نزله روح القدس من ربك} [النحل 102] وقال تعالى: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} [الأنعام 114] فقد أصاب في ذلك. فإن هذا مذهب سلف الأمة وأئمتها، والدلائل على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع. ومن قال: إن القرآن العربي لم يتكلم الله تعالى به، وإنما هو كلام جبريل عليه السلام أو غيره، عبر به عن المعنى القائم بذات الله تعالى، كما يقول ذلك ابن كلاب والأشعري ومن وافقها. فهو قول باطل من وجوه كثيرة.
فإن هؤلاء يقولون: إنه معنى واحد قائم بالذات، وغن معنى التوراة
والإنجيل والقرآن واحد، لأنه لا يتعدد ولا يتبعض، وإنه إن عبر عنه بالعربي كان قرآناً، وبالعبرية كان توراة، وبالسريانية كان إنجيلاً، فيجعلون آية الكرسي، وآية الدين، وقل هو الله أحد، وتبت يدا أبي لهب، والتوراة والإنجيل، وغيرها معنى واحداً. وهذا قول فاسد بالعقل والشرع وهو قول أحدثه ابن كلاب لم يسبقه إليه أحد من السلف.
وغن أراد القائل بالحرف والصوت أن الأصوات المسموعة من القراء والمداد الذى في المصاحف قديم أزلي فقد اخطأ في ذلك وابتدع، وقال ما يخالف العقل والشرع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((زينوا القرآن باصواتكم)) فبين أن الصوت صوت القارئ، والكلام كلام الله تعالى، كما قاله سبحانه:{وإن أحد من المشركين استجارك فأحره حتى يسمع كلام الله} [التوبة 6] فالقرآن الذى يقرؤه المسلمون كلام الله تعالى لا كلام غيره، كما ذكر الله تعالى ذلك.
وفي السنن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على الناس بالموسم فيقول: ((ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي، فإن قريشاًَ قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)) وقالوا لأبي بكر الديق رضي الله عنه لما قرا عليهم: {آلم غلبت الروم} [الروم 2] هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال ليس بكلامي ولا كلام صاحبي، ولكنه كلام الله تعالى.
والناس إذا بلغوا كلام النبي كقوله: ((إنما الأعمال بالنيات)) يعلمون أن الحديث الذى يسمعونه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، تكلم به بصوته وبحروفه ومعانيه، والمحدث بلغة عنه بصوت النبي صلى الله عليه وسلم.
فالقرآن أولى أن يكون كلام الله تعالى إذا بلغته الرسل عنه، وقرأته
الناس بأصواتهم، والله عز وجل تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف، وصوت العبد ليس هو صوت الرب، ولا مثل صوته، فإن الله ليس كمثله شئ، لا في ذاته ولا في أفعاله.
وقد نص أئمة المسلمين على ما نطق به الكتاب والسنة من أن الله تبارك وتعال ينادي بصوت،وان القرآن كلامه تكلم به بحروفه ليس منه شئ كلاماً لغيره، لا جبريل ولا غيره، وان العباد يقولونه باصوات أنفسهم وافعالهم، فالصوت المسموع من العبد صوت القارئ، والكلام كلام البارى تبارك وتعالى.
وكثير من الخائضين في هذه المسألة لا يميز بين صوت العبد وصوت الرب، بل يجعل هذا هو هذا، فينتفيهما جميعاً أو يثبتهما جميعاً. فإذا نفى الحرف والصوت نفى ان يكون صوت العبد صفة لله تعالى، ثم جعل كلام الله تعالى الفرق دون ذاك النفي الذى فيه نوع من الإلحاد والتعطيل، حيث جعل الكلام المتنوع شيئاً واحداً لا حقيقة له عند التحقيق.
وغذا اثبت جعل صوت الرب سبحانه هو صوت العبد أو سكت عن التمييز بينهما مع قوله إن الحروف متعاقبة في الوجود، مقترنة في الذات، قيمة أزلية الأعيان، فجعل عين صفة الرب تحل في العبد أو تتحد بصفة، فقال بنوع في الحلول والاتحاد يفضى إلى نوع من التعطيل.
وقد علم أن نفي الفرق والمباينة بين الخالق وصفاته، والمخلوق وصفاته خطأ وضلال، لم يذهب إليه احد من سلف الأمة وائمتها، بل هم متفقون على التمييز
بين صوت الرب وصوت العبد، ومتفقون على أن الله تعالى تكلم بالقرآن الذى أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حروفه ومعانيه، وأن ينادي عباده بصوته. ومتفقون على أن الأصوات المسموعة من القراء أصوات العباد، وعلى أنه ليس شئ من أصوات العباد، ولا مداد المصاحف قديماً، بل القرآن مكتوب في مصاحق المسلمين، مقروء بالسنتهم، محفوظ بقلوبهم وهو كله كلام الله تعالى.
والصحابة رضوان الله تعالى عليهم كتبوا المصاحف لما كتبوها بغير شكل ولا نقط، لأنهم كانوا عرباً لا يلحنون.
ثم لما حدث الحن نقط الناس المصاحف وشكلوها، فإن كتبت بلا شكل ولا تلفظ جاز، ولم يكره في أظهر قولى العلماء، وهو إحدى الروايتين عن احمد رحمه الله تعالى، وحكم النقط والشكل حكم الحروف، فإن الشكل يبين إعراب القرآن كما يبين النقط والحروف، والمداد الذى تكتب به الحروف ويكتب به الشكل والنقط مخلوق، وكلام الله تعالى العربي الذى أنزله وكتب في المصاحف بالشكل والنقط وبغير شكل ونقط ليس بمخلوق.
وحكم الإعراب حكم الحروف، لكن الإعراب لا يستقل بنفسه، بل هو تابع للحروف المنطوقة. والشكل والنقط لا يستقل بنفسه، بل هو تابع للحروف المرسومه، فلهذا لا يحتاج إلى تجريدهما وإفرادهما بالكلام، بل القرآن الذى يقرؤه المسلمون هو كلام الله سبحانه معانيه وحروفه وإعرابه، والله تبارك وتعالى تكلم بالقرآن العربي الذى أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والناس يقرءمنه بأفاعلهم وأصواتهم. والمكتوب في مصاحف المسلمين هو كلام الله عز وجل، وهو القرآن العربي الذى انزله على نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام، سواء كتب بشمل ونقط أو بغير شكل ونقط.
والمداد الذى كتب به القرآن ليس بقديم بل هو مخلوق. والقرآن الذى
كتب في المصحف هو كلام اله تبارك وتعالى منزل غير مخلوق. والمصاحف يجب احترامها باتفاق المسلمين، لأن كلام الله تعالى مكتوب فيها، واحترام النقط والشكل إذا كتب المصحف منقوطاً كاحترام الحروف باتفاق علماء المسلمين.
ولهذا قال أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه. والله تعالى تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه فجميعه كلام الله تعالى. فلا يقال: بعضه كلام كلام الله تعالى، وبعضه ليس كلام الله عز وجل.
وهو سبحانه نادى موسى عليه السلام بصوت سمعه موسى، فإنه سبحانه قد اخبر أنه نادى موسى في غير موضع من القرآن، كما قال تعالى:{هل أتلك حديث موسى. إذ ناداه ربه بالوادى المقدس طوى} [النازعات 16] والنداء لا يكون إلا صوتاً باتفاق أهل اللغة.
وقد قال الله تعالى: {أنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده واوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وايوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراً. ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليماً} [النساء 163، 164]، فمن قال: إن موسى لم يسمع صوتاً بل ألهم معنى لم يفرق بين موسى وغيره.
وقد قال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} [البقرة 253] .
وقال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل فيوحي بغذنه ما يشاء} [الشورى 51] ، فقد فرق بين الإيحاء والتكلم من وراء حجاب كما كلم الله موسى، فمن سوى بين هذا وهذا كان ضالاً.
وقد قال الإمام أحمد وغيره من الأئمة: لم يزل الله عز وجل متكلماً إذا شاء، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته، يتكلم بشئ بعد شئ، كما قال تعالى {فلما أتاها نودي يا موسى} [طه 11] فناداه حين أتاها لم يناده قبل ذلك.
وقال تعالى: {فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشحرة، وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين} [طه 121] فهو سبحانه ناداهما حين أكلا منها لم ينادهما قبل ذلك.
وكذلك قوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} [الأعراف 11] بعد أن خلق آدم عليه السلام وصوره لم يأمره قبل ذلك.
وكذا قوله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران 59] . فأخبر أنه قال له ((كن فيكون)) بعد أن خلقه من تراب. ومثل هذا في القرآن كثير، يخبر أنه تكلم في وقت معين، ونادى في وقت معين، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه لما خرج من باب الصفا قرأ قوله تعالى:{إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة 158] . قال: ((نبدأ بما بدأ الله تعالى به)) فأخبر أن الله تعالى بدأ بالصفا قبل المروة.
والسلف اتفقوا على أن كلام الله تعالى منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فظن بعض الناس أن مرادهم أنه قديم العين. ثم قالت طائفة: وهو معني واحد، وهو الأمر بكل مأمور، والنهي عن كل منهي. والخبر بكل
مخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً وإن عبر عنه بالعبيرية مان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً. وهذا قول مخالف للشرع والعقل.
وقالت طائفة: هو حروف وأصوات قديمة الأعيان، لازمة لذات الله تعالى لم تزل لازمة لذاته، وأن الباء والسين والميم موجودة مقترنة بعضها ببعض معاً أزلاً وأبداً، لم يسبق منها شئ سيئاً. وهذا أيضاً مخالف للشرع والعقل.
وقالت طائفتان: إن الله عز وجل لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وإنه في الأزل كان متكلماً بالنداء الذى سمعه موسى عليه السلام، وإنما تجدد استماع موسى لا أنه ناداه حين أتى الوادى المقدس، بل ناداه قبل ذلك بما لا يتناهى ولكن تلك الساعة سمع النداء.
وهؤلاء وافقوا الذين قالوا: إن القرآن مخلوق في اصل قولهم: إن الرب سبحانه لا تقوم به الأمور الاختيارية، فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته. وقالوا هذه حوادث، والرب جل جلاله لا تقوم به الحوادث، فخالفوا صحيح المنقول، وصريح المعقول. واعتقدوا أنهم بهذا يردون على الفلاسفة ويثبتون حدوث العالم، واخطئوا في ذلك 0 فلا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا.
وادعوا أن الرب سبحانه لم يكن قادراُ في الأزل على كلام يتكلم به ولا فعل يفعله، وانه صار قادراً بعد أن لم يكن قادراً بغير أمر حدث. أو يغيرون العبارة فيقولون: لم يزل قادراص، لكن يقولون: إن المقدور كان ممتنعاً، وأن الفعل صار ممكناً له بعد أن كان ممتنعاً عليه من غير تجدد شئ. وقد يعبرون عن ذلك بأن يقولوا: كان قادراً في الأزل على ما يمكن فيما لا يزال على ما يمكن في الأزل، فيجمعون بين النقيضين حيث يثبتونه قادراً في حال كون المقدور عليه ممتنعاً عندهم، لو يفرقوا بين نوع الكلام والفعل وبين عينه، كما لم يفرق
الفلاسفة بين هذا وهذا، بل المتفلسفة ادعوا أن مفعوله المعين قديم بقدمه: فضلوا في ذلك وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول. فإن الأدلة لا تدل على قدم شئ بعينه من العالم، بل تدل على أن ما سوى الله تعالى مخلوق حادث بعد أن لم يكن، إذ هو فاعل بقدرته ومشيئته، كما تدل على ذلك الدلائل القطعية والفاعل بمشيئته لا يكون شئ من مفعوله لازماً لذاته بصريح العقل.
واتفاق عامة العقلاء، بل وكل فاعل لا يكون شئ من مفعوله لازماً لذاته، ولا يتصور مقارنة مفعوله المعين له، ولو قدر أنه فاعل بغير إرادة فكيف بالفاعل بالإرادة؟ وما يذكر من أن المعلول يقارن علته إنما يصح فيما كان من العلل يجرى مجرى الشروط، فإن الشرط يجب أن يتقدم على المشروط بل يقارنه كما تقدم الحياة العلم، واما ماكان فاعلاً سواء علة أو لم يسم علة فلابد أن يتقدم على الفعل المعين، والفعل المعين لا يجوز أن يقارنه شئ من مفعولاته، ولا يعرف العقلاء عاقلاً قط يلتزمه مفعول معين، وقول القائل: حركت يدى فتحرك الخاتم، هو من باب المشروط لا من باب الفاعلين. ولأنه لو كان العالم قديماً لكان فاعله موجباً بذاته في الأزل ولم يتأخر عنه موجبه ومقتضاه، ولو كان كذلك لم يحدث شئ من الحوادث. وهذا خلاف المشاهدة. وإن كان هو سبحانه لم يزل قادراً على الكلام والفعل، بل لم يزل متكلماً إذا شاء، وفاعلاً لما يشاء، ولم يزل موصوفاً بصفات الكمال منعوتاً بنعوت الجلال والإكرام، والعالم فيه من الإحكام والاتقان مادل على علم الرب سبحانه، وفيه من الاختصاص مادل على مشيئته، وفيه من الإحسان مادل على علم الرب تعالى وفيه من الاختصاص مادل على مشيئته، وفيه من الإحسان ما دل على رحمته، وفيه من العواقب الحميدة ما دل على حكمته، وفيه من الحوداث ما دل على قدرة الرب تعالى، مع أن الرب عز وجل مستحق لصفات الكمال لذاته، فإنه مستحق لكل كمال ممكن الوجود لا نقص فيه، منزه عن كل نقص.
وهو سبحانه ليس كفؤ في شئ من أمور، فهو موصوف بصفات الكمال على وجه التفضيل، منزه فيها عن التشبييه والتمثيل، ومنزه عن النقائض مطلقاً، فإن وصفه بها من اعظم الأباطيل، وكماله من لوازم ذاته المقدسة لا يستفيده من غيره، هو المنعم على خلقه بالخلق والإنشاء وما جعله فيهم من صفات الإحياء، وخالق صفات الكمال أحق بها ممن لا كفء له فيها.
وأصل أضطراب الناس في مسألة الكلام - أن الجهمية والمعتزلة لما ناظرت الفلاسفة في مسالة حدوث العالم اعتقدوا ان ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثاً، بناء على أن مالا يتناهى لا يمكن وجوده، والتزموا أن الرب سبحانه كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام، بل كان ذلك ممتنعاً عليه، وكان معطلاً عن ذلك. وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادراً في الأزل على الفعل فيما لا يزال مع امتناع الفعل عليه في الأزل، فيجمعون بين النقيضين حيث يصفونه بالقدرة في حال امتناع المقدور لذاته، إذ كان الفعل يستلزم أن يكون له اولاً، والأزل لا أول له، والجمع بين إثبات الأولية ونفيها جمع بين النقيضين. ولم يهتدوا إلى الفرق بين ما يستلزم الأولية والحدوث وهو الفعل المعين وبين ما يستلزم ذلك وهو نوع الفعل والكلام، بل هذا يكون دائماً، وإن كان كل من آحاده حادثاً كما يكون دائماً في المستقبل، وإن كان كل آحاده فانياً بخلاف خالق يلزمه مخلوقه المعين دائماً، فإن هذا هو الباطل في صريح العقل وصريح النقل.
لهذا اتفقت فطر العقلاء على إنكار ذلك، لم ينافه إلا شرذمة من المتفلسفة كابن سينا وأمثاله الذين يزعمون أن الممكن المفعول قد يكون قديماً واجب الوجود بغيره، فخالفوا بذلك جماهير العقلاء، مع مخالفتهم أرسطو وأتباعه،
فإنهم لم يكونوا يقولون ذلك، وإن قالوا بقدم الإفلاك، وأرسطو أول من قال بقدمها من الفلاسفة المشائين، بناء على إثبات علة غنائية لحركة الفلك بتحرك الفلك للتشبيه بها لم يثبتوا له فاعلاً مبدعاً، ولم يثبتوا ممكناً قديماً واجباً بغيره.
وهم وغن كانوا أجهل بالله تبارك وتعالى وأكفر من متأخريهم، فهم يسلمون لجمهور العقلاء أن ما مكناً بذاته فلا يكون محدثاً مسبوقاً بالعدم. فاحتاجوا أن يقولوا: كلامه مخلوق منفصل عنه. وطائفة وافقتهم على امتناع وجود مالا نهاية له، لكن قالوا له: تقوم به الأمور الاختيارية فقالوا: إنه في الأزل لم يكن متكلماً، بل ولا كان الكلام مقدوراً له، ثم صار متكلماً بلا حدوث حادث بكلام بقوم به، وهو قول الهاشمية والكرامية وغيرهم.
وطائفة قالت: إذا قال القرآن غير مخلوق فلا يكون إلا قديم العين لازماً لذات الرب سبحانه، فلا يتكلم بمشيئته وقدرته.
ثم منهم من قال: هو معني واحد قديم، فجعل ىية الكرسي، وآية الدين، وسائر أيات القرآن والتوراة والأنجيل، وكل كلام يتكلم الله به - معنى واحداً لا يتعدد ولا يتبغض.
ومنهم من قال: إنه حروف وأصوات مقترنة لازمة للذات.
وهؤلاء أيضاً وافقوا الجهمية والمعتزلة في أصل قولهم: إنه متكلم بكلام لا يقوم بنفسه وبمشيئته قدرته، وأنه لا تقوم به الأمور الاختيارية. وقالوا إنه لم يستوا على عرشه بعد ان خلق السماوات والأرض، ولا ياتى يوم القيامة، ولم يناد موسى حين ناداه، ولا تغضبه المعاصي ولا ترضيه الطاعات، ولا تفرحه توبة التائبين. وقالوا في قوله عز وجل:{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} [التوبة 105] ونحو ذلك: إنه لا يراها إذا وجدت،
بل إما أنه لم يزل رائياً لها، وإما أنه يتجدد شئ موجود بل تعدد معدوم، إلى أمثال هذه المقالات التى خالفوا فيها نصوص الكتاب والسنة مع مخالفة صريح العقل.
والذى ألجأهم إلى ذلك موافقتهم للجهمية على أصل قولهم في أنه سبحانه لا يقدر في الأزل على الفعل والكلام، وخالفوا السلف والأئمة في قولهم: لم يزل الله تعالى متكلماً إذا شاء، ثم افترقوا أحزاباً أربعة كما تقدم: الخلقية والحدوثية، والاتحادية، والافتراقية. وشر من هؤلاء الصابئة والفلاسفة الذين يقولون: إن الله سبحانه لم يتكلم بكلام قائم بذاته، ولا بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته، لا قديم النوع ولا قديم العين، ولا حادث ولا مخلوق، بل كلامه عندما يفيض على نفوس الأنبياء عليهم السلام.
ويقولون: إنه كلمة موسى من سماء عقله، وقد يقولون: إنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات فإنه إنما يعلمها على وجه كلي.
ويقولون مع ذلك: إنه يعلم نفسه ويعلم ما يفعله. وقولهم: نفسه ومفعولاته حق، كما قال تعالى:: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك 14] لكن قولهم مع ذلك: أنه لا يعلم الأعيان المعينة جهل وتناقض، فإن نفسه المقدسة معينة، والأفلاك معينة، وكل موجود معين، فإن لم يعلم المعينات لم يعلم شيئاً من الموجودات، إذ الكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان، فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئاً من الموجودات - تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وهم إنما ألجأ لهم إلى هذا الإلحاد فرارهم من تجدد الأحوال للبارئ تعالى مع ان هؤلاء يقولون: إن الحوادث تقوم بالقديم، وإن الحوادث لا أول لها، لكن نفوا ذلك عن البارئ عز وجل، لاعتقادهم أنه لا صفة له، بل هو وجود مطلق. وقالوا: إن العلم نفس عين العالم، والقدرة نفس عين القادر.
والعلم والعالم شئ واحد، والمريد والإرداة شئ واحد. فجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، وجعلوا الصفات هي الموصوف.
ومنهم من يقول: بل العلم هو المعلوم، كما يقوله الطوسي صاحب شرح الإشارات، فغنه أنكر على ابن سينا إثباته لعلمه بنفسه وما يصدر عن نفسه. وابن سينا أقرب إلى الصواب، لكنه تناقض مع ذلك حيث نفى قيام الصفات به، وجعل الصفة عين الموصوف، وكل صفة هي الأخرى. ولهذا كان هؤلاء هم أوغل في الاتحاد والإلحاد ممن يقول: معاني الكلام شئ واحد، لكنهم ألزموا قولهم لأولئك فقالوا: إذ جاز المعاني المتعددة شيئاً واحداً جاز أن يكون العلم هو القدرة هي الإرادة. فاعترف حذاق أولئك بان هذا الإلزام لا جواب عنه.
ثم قالوا: وإذ جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى جاز أن تكون الصفة هي الموصوف.
فجاء ابن عربي وابن سبعين والقونوى ونحوهم من الملحدة فقالوا: إذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الاخرى، والصفة هي الموصوف جاز أن يكون الموجود الواجب القديم الخالق هو الموجود الممكن المحدث المخلوق، فقالوا: إن وجود كل مخلوق هو وجود الخالق. وقالوا: الوجود واحد، ولم يفرقوا بين الواحد بالنوع والواحد بالعين، كما لم يفرق أولئك بين الكلام الواحد بالعين والكلام الواحد بالنوع.
وكان منتهى أمر أهل الإلحاد في الكلام إلى هذا التعطيل والكفر والاتحاد الذى قاله أهل الوحدة والحلول والاتحاد في الخالق والمخلوقات، كما أن الذين لم يفرقوا بين نوع الكلام وعينه، وقالوا: هو يتكلم بحرف وصوت قديم. قالوا: أولاً إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته. ولا تسبق الباء السين، بل لما نادى موسى فقال:{أننى أنا الله لا إله إلا أنا فأعبدني} [طه 14] ،
{إنى أنا الله رب العالمين} [القصص 30] كانت الهمزة والنون وما بينهما موجوداً في الأزل يقارن بعضها بعضاً، لم تزل ولا تزال لازمة لذات الله تعالى.
ثم قال فريق منهم: إن ذلك القديم هو نفس الأصوات المسموعة من القراء. وقال بعضهم: بل المسموع صوتان قديم وحادث. وقال بعضهم: اشكال المداد قديمة أزلية. وقال بعضهم: محل المداد قديم أزلي. وحكى عن بعضهم أنه قال: المداد قديم أزلي. وأكثرهم يتكلمون بلفظ القديم ولا يفهمون معناه، بل منهم من يظن أن معناه أنه قديم في علمه، ومنهم من يظن أن معناه أنه متقدم على غيره، ومنهم من يظن أن معنى اللفظ أنه غير مخلوق، ومنهم من لا يميز ما هو له فصار هؤلاء حلولية اتحادية في الصفات، ومنهم من يقول بالحلول والاتحاد في الذات مع الصفات. وكان منتهى أمر هؤلاء وهؤلاء إلى التعطيل.
والصواب في هذا الباب وغيره مذهب سلف الأمة وأئمتها - أنه سبحانه لم يزل متكلماً إذا شاء، وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وان كلماته لا نهاية لها، وأنه نادى موسة عليه السلام بصوت سمعه موسى، وإنما ناداه حين أتى لم يناده قبل ذلك، وان صوت الرب تبارك أسمه لا يماثل أصوات العباد، كما أن علمه لا يماثل علمهم، وقدرته لا تماثل قدرتهم، وانه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته، ليس في مخلوقاته شئ من ذاته وصفاته القائمة بذاته، ولا في ذاته شئ من مخلوقاته. وأن أقوال أهل التعطيل ولا تحاد الذين عطلوا اللذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال باطلة، وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات أو الصفات باطلة، وهذه المور مبسوطة في غير الموضع، وقد بسطناها في الواجب الكبير. والله تعالى اعلم بالصواب، والحمد لله تعالى وحده - أنتهى بحروفه.
وقال السفاريني في شرح العقيدة ما نصه: وقد روى في إثبات الحرف والصوت أحاديث تزيد على اربعين حديثاً، وأخرج الإمام أحمد عالبها واحتج به. واخرج الحافظ ابن حجر أيضاً في شرح البخاري، واحتج بها البخاري وغيره من أئمة الحديث 0 على ان الحق سبحانه يتكلم بحرف وصوت. وقد صححوا هذا الأصل واعتقدوه، واعتمدوا على ذلك منزهين الله تعالى عما لا يليق بجلاله من شبهات الحدوث وسمات النقص.
كما قالوا في سائر الصفات معتمدين على ما صح عندهم عن صاحب الشريعة المعصوم في أقواله وأفعاله، الذى لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
وممن ذهب إلى مذهب السلف والحنابلة من قدم الكلام وانه بحروف وصوت من متأخري محققى الأشاعرة: صاحب المواقف. أنتهى باقتصار.
(قلت) : وممن ذهب إليه ايضاً من المتأخرين الشيخ إبراهيم الكوراني الشافعي الأشعري في كتابه ((إفاضة العلام بتحقيق مسألة الكلام)) وهو كتاب قلما يوجد مثله في تحقيق هذه المسألة التى حيرت الأفهام، وقد حاكم فيها الحنابلة مع الأشعرية، واثبت الكلام النفسي الذى نفته بعض الحنابلة، وحقق اللفظي المنفي عند كثير من الأشاعرة، ونقل ما يؤيد ذلك من كلام ذينك الإمامين، وأن الأئمة الأربعة في أصول الدين عير مختلفين، بل تراهم في القول بتوحيد الله تعالى وتنزيهه في ذاته وصفاته مؤتلفين.
وان الأشعري رحمه الله تعالى على مناهجهم أجمعين، كما قاله ابن عساكر في كتابه ((تبيين كذب المفترى على ابى الحسن الأشعري)) فإن أردت التفصيل فعليك بذلك الكتاب الذى يعز له مثيل.
ونقل أيضاً الكوراني في رسالته المسماه ((بنوال الطول في تحقيق الإيجاد
بالقول)) عن الشيخ محيى الدين بن عربي أنه قال: لله تعالى تجل في صورة يقبل القول والكلام بترتب الحروف قد ذكرناه في التجلي الإلهي الذى خرجه مسلم في الصحيح، وهو من رواية ابي سعيد الخدري، وفيه:((أتاهم رب العالمين في أدنى صورة عن التى رأوه فيها - ثم قال بعده - ثم يرفعون رءوسهم وقد تحول في صورته التى رأوه فيها اول مرة)) .
وعن البخاري بلفظ ((فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التى رأوه فيها أول مرة)) والأحاديث في ذلك بلغت مبلغ التواتر - أنتهى.
ثم قال فيها: إن الكلام النفسي بمعنى المتكلم به قديم لا تعاقب بين كلماته، أما الكلام اللفظي المسموع من التجلي الإلهي في الصورة فبين كلماته ترتب زماني وتعاقب. واخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً ((أن الله تعالى ناجى موسى بمائة ألف كلمة وأربعين ألف كلمة في ثلاثة ايام
…
.)) الحديث. وهذا صريح في تعاقب الكلمات وترتيبها بحسب الزمان وصريح الأحاديث أن الله تعالى هو الذى كلم موسى عليه السلام بلا واسطة رسول، لكنه من وراء حجاب الظاهر بصورة النار. وغذا ثبت ذكر الصوت في الأحاديث المتعددة وجب الإيمان به. انتهى ملخصاً.
(وقال) أيضاً في شرح منظومة شيخه الشيخ أحمد القشاشى المدنى ما نصه: قال الجامى رحمه الله تعالى: ولنذكر في هذا المقام كلام الصوفية ليتضح ما هو الحق، قال حجة الإسلام: الكلام على ضربين: أحدهما يطلق في حق الباري تعالى. والثاني في حق الآدميين
أما الكلام الذى نسب إليه تعالى فهو صفة من صفات الربوبية فلا تشابه بين صفات البارى وصفات الآدميين - إلى أن قال - فإذن كلام البارى تعالى ليس شيئاً سوى إفادته وإفاضته مكنونات علمه على من يريد إكرامه، كما قال:{ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} [الأعراف 143]
شرفه بقربه، وقربه بقدسه، وشافهه بأجل صفاته، وكلمه بعلم ذاته، فكما شاء تكلم، وكما أراد سمع. أنتهى.
ثم ساق عن غيره من أكابر المحققين مامنه: أعلم أن الله تعالى قد أخبرنا بنبيه صلى الله عليه وسلم أنه سبحانه يتجلى يوم القيامة في صور مختلفة فيعرف وينكر، ومن كانت حقيقته تقبل التجلى فلا يبعد أن يكون الكلام بالحروف المتلفظ بها المسماه كلام الله تعالى لبعض تلك الصور كما يليق بجلاله فكما نقول تجلى في صورة كما يليق بجلاله، كذلك نقول تكلم بحرف وصوت كما يليق بجلاله، ونحمله محمل الفرح والضحك، والعين والقدم، واليد، اليمين، وغير ذلك مما قدر ورد في الكتاب مما يجب الإيمان به على المعنى المعقول من غير كيفية ولا تشبيه، فإنه يقول:{ليس كمثله شئ} [الشورى 11] مع عقل المعنى.
ثم ساق عن غيره من الأكابر كلاماً في تحقيق الكلام إلى أن قال في آخر ذلك: فالذى يظهر من كلام هؤلاء الأكابر أن الكلام الذى هو صفته سبحانه ليس سوى إفادته وإفاضته مكنونات علمه على ما يريد إكرامه، وان الكتب المنزلة المنظومة من حروف وكلمات كالقرآن وامثاله أيضاً كلامه لكنها في بعض صور تلك الإفادة والإفاضة ظهرت بتوسط العلم والإرادة والقدرة في البرزخ الجامع بين الغيب والشهادة، يعني عالم المثال من بعض مجاليه الصورية المثالية كما يليق به سبحانه. فالقياسان المذكوران في صدر البحث ليسا بمتعارضين في الحقيقة، فإن المراد بالكلام في القياس الأول الصفة القائمة بذاته سبحانه، وفي الثاني ما ظهر في البرزخ من بعض المجالي الإلهية والاختلاف الواقع بين فرق المسلمين لعدم الفرق بين الكلامين. انتهى.
(أقول) : دل كلام هؤلاء الأكابر على ان الحق سبحانه له أن يتجلى