الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} [آل عمران 7] ، وإما أن تؤول كاليد بالقدرة، والاستواء بالاستيلاء، كما هو مذهب المؤولين. وقول من عطف قوله تعالى:{والراسخون في العلم} على {إلا الله} والتأويلات مذكورة في المطولات، أنتهى.
وأنت تعلم أن من السلف من يؤمن بظاهرها كالاستواء المعلوم حقيقته، المجهولة كيفيته بالنسبة للبارئ سبحانه، كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، كما سيأتى تفصيل ذلك قريباً إن شاء الله تعالى.
وعلى ذلك جرى الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وسائر الحنابلة السلفيين. قال ابن القيم في نونيته: [كامل]
لسنا نشبه وصفه بصفاتنا
…
إن المشبه عابد الأوثان
كلا ولا نخيله من أوصافه
…
إن المعطل عابد البهتان
من مثل الله العظيم بخلقه
…
فهو النسيب لمشرك نصرانى
أو عطل الرحمن عن أوصافه
…
فهو الكفور وليس ذا إيمان
وأنت تعلم أن المعتزلة والجهمية يعطلون الصفات ويؤولون الآيات، كما سيتضح في الأبحاث الآتيات. وأنهم اختلفوا في تكفيرهم، وصححوا أن المجسم والقائل بالجهة لا يكفر كما صرح به العز بن عبد السلام وغيره، كما سيأتى إن شاء الله تعالى.
[تبرئة ابن تيمية مما نسبه إليه ابن حجر من التجسيم]
وأما مارمى الشيخ ابن حجر ابن تيميه به فليس كما قال، بل هو عن ذلك بمعزل، وبعيد عنه بألف ألف منزل، فتأليفاته وعباراته التى سمعتها قاضية بكذب ماعزى إليه، وكذلك شهادات العلماء حاكمة باختلاف
مازور عليه. فمن ذلك ما قاله الشيخ إبراهيم الكوراني الشافعي في حاشيته المسماه ((بمجلى المعاني على شرح عقائد الدوانى)) ما نصه: قوله: قيل ولعل وجه قول ابن تيمية بالتسلسل على سبيل التعاقب في العرش أنه من المجسمة الخ. أقول: ابن تيمية ليس قائلاً بالتجسيم، فقد صرح بأن الله تعالى ليس جسماً في رسالة تكلم فيها على حديث النزول كل ليلة إلى السماء الدنيا. وقال في رسالة أخرى: من قال: إن الله تعالى يماثل المخلوقات فهو مفتر على الله سبحانه، بل هو على مذهب السلف من الإيمان بالمتشابهات مع التنزيه بليس كمثله شئ. ولكنه قائل بأن الله تعالى فوق العرش حقيقة مع نفي اللوازم. ونقل عليه إجماع السلف - صرح في الرسالة القدرية، أنتهى نقل الكوراني.
ورأيت بخط الوالد تغمده الله تعالى برحمته على هامش هذا البحث في الشرح وحاشيته ما نصه: حاشا لله تعالى أن يكون من المجسمة! بل هو أبرأ الناس منهم، نعم، يقول بالفوقية على المعنى الذى أراده الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك مذهب السلف في المتشابهات، وهو بمعزل عن التجسيم. وجلال الدين واضرابه أجهل الناس بالأحاديث وكلام السلف الصالح كما لا يحفى على العارف المنصف. أنتهى.
والعجب من الشيخ ابن حجر كيف ينسب إليه هذه الأقوال من غير نقل عنه وإسناد، وقد قالوا: لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. ولنذكر بعض عبارات العلماء وما قاله الشيخ ابن تيميه وغيره من ائمة الملة الحنيفية ليتضح الحال، ويعرف بالحق الرجال.
قال الحافظ أبو بكر أحمد البيهقي في كتابه الشهير ((بالأسماء والصفات ما نصه: (باب ماجاء في قول الله عز وجل: {الرحمن على العرش أستوى} [طه 5] وقوله {ثم استوى على العرش} [الرعد 2] وقال: {إن ربكم
الله الذى خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم أستوى على العرش} [يونس 3] وقال: {الله الذى رفع السماوات بغير عمر ترونها ثم أستوى على العرش} [الرعد 2] .
أخبرنا أبو على الحسين بن محمد الروذبارى قال: أخبرنا أبو العباس محمد ابن يعقوب ابن محمد بن عبد الرحيم الهروى بالرملة قال نا آدم بن أبي إباس قال نا حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن وكيع حدث عن أبي رزين العقيلى قال: قلت يا رسول الله، أين كان ربنا تبارك وتعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال:((كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق العرش ثم استوى عليه تبارك وتعالى) وقد مضى الكلام في معنى هذا الحديث دون الاستواء.
فأما الاستواء فالمتقدمون من أصحابنا رضي الله عنه كانوا لا يفسرونه ولا يتكلمون فيه كنحو مذهبهم في امثال ذلك. اخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن على الجوهرى ببغداد، قال: حدثنا إبراهيم بن الهيثم نا محمد بن كثير المصيمصى قال: سمعت الأوزاعي يقول: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته.
ونا أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن الحرث الفقيه الأصبهاني قال نا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان المعروف ((بأبي الشيخ)) قال نا أبو جعفر أحمد اليزدى قال: سمعت محمد بن عمرو بن نصر النيسابورى يقول: سمعت يحيى بن يحيى يقول: كنا عند مالك بن انس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله، الرحمن على العرش أستوى، كيف استوى؟ قال: فاطرق مالك حتى علاه الرحضاء (1) ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير
(1) الرحضاء - بضم الراء وفتح الحاء -: العرق يغسل الجسم كثرة.
معقول والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً فأمر أن يخرج.
وقال سفيان بن عيينة: كل ما وصف اله تعالى من نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه.
أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ قال: هذه نسخة الكتاب الذى أملاه الشيخ أبو بكر أحمد بن إسحق بن ايوب رحمه الله تعالى في مذهب أهل السنة فيما جرى بين محمد بن اسحق بن خزيمة رحمه الله تعالى، وبين أصحابه، فذكر منها: الرحمن على العرش استوى بلا كيف. والآثار عن السلف في مثل هذا كثيرة. وعلى هذه لطريقة يدل مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، وإليها ذهب أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، والحسين بن الفضل البجلى رحمه الله تعالى، ومن المتأخرين أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى، وذهب أبو الحسن على بن إسماعيل الأشعري رحمه الله تعالى إلى أن الله عز وجل ثناؤه فعل في العرش فعلا سماه استواء، كما فعل في غيره فعلا سماه رزقاً ونعمة أو غيرهما من أفعاله، ثم لم يكيف الاستواء إلا أنه جعله من صفات الفعل لقوله:{ثم استوى على العرش} [يونس 3] و ((ثم)) للتراخى، والتراخى إنما يكون في الأفعال وأفعال الله تعالى توجد بلا مباشرة منه إياها ولا حركة.
وذهب أبو الحسن على بن محمد بن مهدى الطبرى في آخرين من أهل النظر إلى أن الله تعالى في السماء فوق كل شئ مستو على عرشه، بمعنى أنه عال عليه، ومعنى الاستواء الاعتلاء، كما تقول: استويت على رأسى، واستوى الطير على قمة راسى، بمعنى علا في الجو فوجد فوق راسى. فالقديم سبحانه عال على عرشه ولا قائم، ولا مماض ولا مباين عن العرش، يريد
به مباينة الذات التى هي بمعنى الاعتزال والتباعد، لأن المماسة والمباينة التى هي ضدها، والقيام والقعود من اوصاف الأجسام، والله عز وجل أحد صمد لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. ولا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام.
وحكى الأستاذ: أبو بكر بن فورك رحمه الله تعالى هذه لطريقة عن بعض اصحابنا أنه قال: أستوى بمعنى علا، ثم قال: ولا يريد بذلك علوا بالمسافة والتحيز والسكون في مكان متمكناً فيه.. ولكن يريد معنى قول الله عز وجل: {أأمنتم من في السماء} [الملك 16] أى من فوقها، على معنى نفى الحد عنه، وانه ليس مما يحويه طبق أو يحبط به قطر.
ووصف الله سبحانه بذلك طريقة الخبر، فلا يتعدى ما ورد به الخبر. قلت: وهو على هذه الطريقة من صفات الذات، وكلمة ((ثم)) تعلقت بالمستوى عليه لا بالاستواء، وهو كقوله تعالى:{ثم الله شهيد على ما تعملون} [يونس 46] يعنى: ثم يكون عملكم فيشهده. وقد اشار أبو الحسن على بن إسماعيل رحمه الله تعالى إلى هذه الطريقة حكاية فقال بعض أصحابنا: إنه صفة ذات، ولا يقال: لم يزل مستوياً على عرشه، كما أن العلم بأن الأشياء قد حدثت من صفات الذات. ولا يقال: لم يزل عالماً بأن قد حدثت ولما حدثت بعد. قال: وجوابي هو الأول، وهو أن الله تعالى مستو على عرشه، وأنه فوق الأشياء بائن منها بمعنى أنه لا تحله ولا يحلها، لا يمسها ولا يشبهها وليست البينونة بالعزلة، تعالى ربنا عن الحلول والمماسة علواً كبيراً.
قال: وقد قال بعض أصحابنا: إن الأستواء صفة الله تعالى بنفى الاعوجاج عنه.
وفيما كتب إلى الأستاذ أبي موسى بن أبي أيوب رحمه الله تعالى: أن كثيراً من مبادئ أصحابنا ذهبوا إلى أن الاستواء هو القهر والغلبة، ومعناه
أن الرحمن غالب العرش وقاهره. وفائدته الإخبار عن قهره مملوكاته، وأنها لم تقهره، وإنما خص العرش بالذكر لأنه اعظم المملوكات، فنبه بالأعلى على الأدنى. والاستواء بمعنى القهر والغلبة شائع في اللغة، كما يقال: استوى فلان على الناحية إذا غلب أهلها، قال الشاعر في بشر بن مروان:[رجز]
قد استوى على العراق
…
من غير سيف ودم مهراق (1)
يريد أنه غلب أهله من غير محاربة. قال: وليس ذلك في الآية بمعنى الاستيلاء، لأن الاستيلاء عليه مع توقع ضعف.
قال: ومما يؤيد ما قلناه قوله عز وجل: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} [فصلت 11] والاستواء إلى السماء هو القصد إلى خلق السماء، فلما جاز أن يكون القصد إلى السماء الاستواء جاز أن يكون القدرة على العرش استواء. أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ومحمد بن موسى قال نا أبو العباس محمد ابن يعقوب نا محمد بن الجهم نا يحيى بن زياد الفراء في قوله عز وجل:{ثم استوى إلى السماء فسواهن} [البقرة 29] قال: الاستواء في كلام العرب على جهتين: إحداهما أن يستوى الرجل وينتهى شبابه وقوته، أو يستوى من اعوجاج، فهذان وجهان.
ووجه ثالث يقول: كان مقبلاً على فلان ثم استوى على يشاتمنى، وإلى وعلى سواء معنى أقبل إلى وعلى، فهذا معنى قوله سبحانه:{ثم استوى إلى السماء} [البقرة 29، وفصلت 11] والله تعالى أعلم.
قال: وقد قال ابن عباس: ثم استوى صعد، وهذا كقولك للرجل: كان قاعداً فاستوى قائماً، وكان قائماً فاستوى قاعداً بمعنى أقبل صحيح، لأن الإقبال هو القصد إلى خلق
(1) تفسير الاستواء بمعنى الاستيلاء هو تأويل الجهمية والمعتزلة وقد أنكره أئمة اللغة كابن الأعرابي وغيره وأنكره الإمام أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة.
السماء، والقصد هو الإرداة، وذلك جائز في صفات الله تعالى. ولفظه ((ثم)) تغلق بالخلق لا بالإرادة.
وأما ما حكى عن ابن عباس فإنما أخذه عن تفسير الكلبي، والكلبي ضعيف.
وفي رواية أخرى عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء} أي صعد أمره إلى السماء {فسواهن} يعني خلق سبع سماوات. قال: أجرى النار على الماء، يعني فبخر البحر فصعد في الهواء فجعل السماوات منه. ويذكر عن ابي العالية في هذه الآية أنه قال: استوى يعنى أرتفع، ومراده من ذلك والله تعالى أعلم ارتفاع أمره وهو بخار الماء الذي منه وقع خلق السماء.
فأما ما رواه محمد بن مروان عن الكلبي الكوفي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: {ثم استوى على العرش} [الأعراف 54] يقول: استقر على العرش. ويقال: امتلأ به. ويقال: قائم على العرش وهو السرير. وبهذا الاسناد في موضع آخر عن ابن عباس في قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} يقول: استوى عنده الخلائق، القريب والبعيد فصاروا عنده سواء.
ويقال: استوى استقر على السرير. ويقال: أمتلآ به فهذه الرواية منكرة، وفيه أيضاً ركاكة، ومثله لا يليق بقول ابن عباس.
وابو صالح هذا والكلبي ومحمد بن مروان كلهم متروك عند اهل العلم بالحديث، لا يحتجون بشئ من رواياتهم لكثرة المناكير فيها.
ومما روى أبو الحسن بن مهدى الطبرى عن ابي عبد الله نفطويه قال: أخبرني أبو سليمان يعنى داود قال: كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال
يا أبا عبد الله، ما معنى قوله سبحانه {الرحمن على العرش استوى} [طه 5] قال: إنه مستو على عرشه كما أخبر.
فقال الرجل: إنما معنى قوله ((استوى)) أى استولى. فقال له ابن الأعرابي: ما يدريك؟ العرب لا تقول استولى على الشئ فلان، حتى يكون له فيه مضاد فايهما غلب قيل: قد استولى عليه، والله تعالى لا مضاد له، فهو على عرشه كما أخبره (1) .
وقال الشيخ الأجل مسند الوقت أحمد ولى الله المحدث الدهلوى في التفهيمات وقد ذكر أنه قال: إن الله تعالى فوق العرش -: والتحقيق أن في هذه المسألة ثلاثة مقامات:
أحدها - البحث عما يصح إثباته للحق توفيقاً وعما لا يصح توفيقاً والحق في هذا المقام أن الله تعالى أثبت لنفسه جهة الفرق، وأن الأحاديث متظاهرة على ذلك. وقد نقل الترمذي ذلك عن الإمام مالك ونظراته.
ثانيها - أن العقل هل يحوز كون مثل هذا الكلام حقيقة أو يوجب حمله على المجاز؟
والحق في هذا المقام أن العقل يوجب أنه ليس على ظاهرة في نفس الأمر.
ثالثها - أنه هل يجب تأويله أو يحوز وقفه على ظاهرة من غير تعيين المراد؟ والحق فيه انه لم يثبت في حديث صحيح أو ضعيف أنه يجب تأويله، ولا أنه لا يجوز استعمال مثل تلك العبارات من الأمة إلى قوله. وهذا الذي حققناه هو مذهب الشيخ أبا الحسن الأشعري عند التحقيق، أقرأ ابو طاهر المدنى بخط أبيه أن الشيخ أبا الحسن قال في كتابه: إنى على مذهب احمد في مسالة الصفات، وأن الله فوق العرش.
وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله محمول على المقام الأول والثالث.
(1) قد أشرنا إلى كلام ابن الأعرابي في تفسير الاستواء فراجعه في تعليق ص 393.