الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} . وقول ابن مسعود: إنما العالم الذى يخشى الله تعالى.
فصل
[ابن القيم يرى أن ربا الفضل حرم سداً للذرائع]
وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع، كما صرح به في حديث أبي سعيد الخدرى عن النبي صلى الله عليه وسلم:((لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإنى أخاف عليكم الرماء)) : هو الربا.
فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة، وذلك أنهم إذا باعوا درهماً بدرهمين، ولا يفعل هذا إلا للتفاوت الذى بين النوعين. إما في الجودة، وإما في السكة، وإما في الثقل والخفة وغير ذلك - تدعو بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر، وهو عين ربا النسيئة، وهذه ذريعة قريبة جداً.
فمن حكمة الشارع صلى الله عليه وسلم أن سد عليهم هذه الذريعة ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقداً او نسيئة، فهذه حكمة معقولة مطابقة للعقول وهي تسد عليهم باب المفسدة، فإذا تبين هذا فنقول: الشارع نص على تحريم ربا الفضل في ستة أعيان، وهي: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح.
فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس، وتنازعوا فيما عداها، فطائفة قصرت التحريم عليها، وأقدم من يروى عنه هذا مذهب قتادة، وهو مذهب أهل الظاهر، واختيار ابن عقيل في آخر مصنفاته مع قوله بالقياس. قال: لأن علل القياسيين في مسألة الربا علل ضعيفة، وإذا لم يظهر فيه علة امتنع القياس.
وطائفة حرمته في كل مكيل وموزون بجنسه، هذا مذهب عمار وأحمد
في ظاهر مذهبه، وأبي حنيفة، وطائفة خصته بالطعام وإن لم يكن مكيلاً ولا موزوناً، وهو قول سعيد بن المسيب، ورواية عن أحمد وقول الشافعي.
وطائفة خصته بالقوت وما يصلحه، وهو قول مالك، وهو أرجح هذه الأقوال، كما ستراه إن شاء الله تعالى.
وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة: العلة فيهما مونها موزونين وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه، ومذهب أبي حنيفة.
وطائفة أجمعوا على جواز إسلامهما في المزونات من النحاس والحديد وغيرهما، فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقداً، فإن ما يجرى في الربا إذا أختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء، والعلة إذا أنتقضت من غير فرق مائز دل على بطلانها.
وأيضاً فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمينة، فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذى به بعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع.
وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء، ويستمر على حاله واحدة، ولا يقوم هو بغيره، إذ يصير سلعة ترتفع وتنخفض
فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف، ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم، الضرر اللاحق بهم حين أتخذت الفلوس سلعة بعد الربح، فعم الضرر، وحصل الظلم، ولو جعلت ثمناً واحداً لا يزداد ولا ينقص بل تقوم به الأشياء ولا تقوم هب بغيرها لصلح أمر الناس.
فلو ابيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير، مثل أن يعطى صحاحاً ويأخذ مكسرة أو خفاقاً، ويأخذ ثقالاً أكثر منها لصارت متجراص، وجر ذلك ربا النسيئة فيها ولا بد، فالأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في أنفسها سلعاً تقصد لأعيانها فسد أمر الناس، وهذا معنى معقول يختص بالنقود إلى سائر الموزونات.
فصل
وأما الأصناف الربعة المطعومة فحاجة الناس إليها أعظم من حاجتهم إلى غيرها، لأنها أقوات العالم وما يصلحها، فمن رعاية مصالح العباد أن منعوا من بيع بعضها إلى اجل. سواء اتحد الجنس أو أختلف ومنعوا من بيع بعضها ببعض حالاً متفاضلاً وإن أختلف صفاتها، وجوز لهم التفاضل فيها مع أختلاف أجناسها.
وسر ذلك والله تعالى أعلم إنه لو جوز بيع بعضها ببعض نساء لم يفعل ذلك أحد إلا إذا ربح، وحينئذ تشخ نفسه حالة لطمعه في الربح، فيعز الطعام على المحتاج ويشتد ضرره، وعامة أهل الأرض ليس عندهم دراهم ولا دنانير، ولا سيما أهل العمود والبوادى، وإنما يتناقلون الطعام بالطعام، فكان من رحمة الشارع بهم وحكمته أن منعهم من ربا النساء فيها لدخلها إما أن يربى، فيصير الصاع الواحد قفزاناً كثيرة عن النساء، ثم فطموا عن بيعها
متفاضلاً يداً بيد، إذ يجرهم حلاوة الربح وظفر الكسب إلى التجارة فيها نساء، وهو عين المفسدة.
وهذا بخلاف الجنسين المتباينين فإن حقائقهما وصفاتهما ومقاصدهما مختلفة ففي إلزامهم المساواة في بيعها إضرار بهم ولا يفعلونه، وفي تجويز النساء بينهما ذريعة إلى: إما أن يقتضى وإما أن يربى، فكان من تمام رعاية مصالحهم أن قصرهم على بيعها يداً بيد كيف شاءوا، فحصلت لهم مصلحة المناولة واندفعت عنهم مفسدة: إما أن يقضى وإما أن يربى.
وهذا بخلاف إذا بيعت بالدراهم أو غيرها من الموزونات نساء فإن الحاجة داعية إلى ذلك، فلو منعوا بهم ولا متنع السلم الذى هو من مصالحهم فيما هم محتاجون إليه أكثر من غيره، والشريعة لا تأتى بهذا، وليس بهم حاجة في بيع هذه الأصناف بعضها ببعض نساء، وهو ذريعة قريبة إلى مفسدة الربا، فأبيح لهم في جميع ذلك ما تدعو إليه حاجتهم، وليس بذريعة إلى مفسدة راحجة.
ومنعوا مما لا تدعوا الحاجة إليه، ويتذرع به غالباً إلى مفسدة راجحة.
يوضح ذلك أن المفسدة من عنده صنف من هذه الأصناف وهو محتاج إلى الصنف الآخر، فإنه يحتاج إلى بيعة بالدراهم ليشترى الصنف الآخر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيباً)) (1) أو بيعه بذلك الصنف نفسه بما يساوى، وعلى التقديرين يحتاج إلى بيعه حالاً بخلاف ما لو مكن من النساء فإنه حينئذ بيعة بفضل، ويحتاج أن يشترى الصنف الآخر بفضل لأن صاحب ذلك الصنف يربى عليه كما أربي هو على غيره
(1) الجمع: تمر مختلط من أنواع متفرقة وليس مرغوباً فيه.
والجنيب: نوع جيد معروف من أنواع التمر.
فينشأ من النساء بكل واحد منهما، والنساء ها هنا في صنفين وفي النوع الأول في صنف واحد، وكلاهما منشأ الضرر والفساد.
فإذا تأملت ما حرم فيه النساء رأيته إما صنفاً واحداً وصنفين، مقصودهما واحد أو متقارب كالدراهم والدنانير، والبر والشعير، والتمر والزبيب.
وإذا تباعدت المقاصد لم يحرم النساء كالبز والثياب، والحديد والزيت. يوضح ذلك أنه لو مكن من بيع مد حنطة بمدين كان ذلك تجارة حاضرة: فتطلب النقوس التجارة المؤخرة للذة الكسب وحلاوته، فمنعوا من ذلك حتى منعوا من التفرق قبل القبض إتماماً لهذه الحكمة، ورعاية لهذه المصلحة.
فإن المتعاقدين قد يتعاقدان على الحلول، والعادة جارية بصبر أحدهما على الآخر.
وكما يفعل أرباب الحيل يطلقون العقد وقد توطئوا على أمر آخر، كما يطلقون عقد النكاح وقد أتفقوا على التحليل. ويطلقون بيع السلعة إلى أجل، وقد أتفقوا على أنه يعيدها إليه بدون ذلك الثمن. فلو جوز لهم التفرق قبل القبض لأطلقوا البيع حالاً، وأخروا الطلب لأجل الربح فيقعوا في نفس المحذور.
وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان بحسبها لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان. ومنعوا من التجارة في الأقوات. وهذا المعنى بعينه موجود في بيع البر والعين لأن البر ليس فيه صنعه يقصد لأجلها، فهو بمنزلة الدراهم الذى قصد الشارع أن لا تفاضل بينها. فلهذا قال: برها وعينها سواء، فظهرت حكمة تحريم ربا النساء في الجنس والجنسين، وربا الفضل في الجنس الواحد، وإن تحريم هذا تحريم المقاصد، وتحريم الآخر تحريم الوسائل، وسد
الذرائع، ولهذا لم يبح شئ من ربا النسيئة، أما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا، فإن ما حرم سد الذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد. وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت صناعته محرمة كالأنية حرم بيعه بجنسه وغير جنسه، وبيع هذا هو الذى أنكره عبادة على معاوية، فإنه يتضمن مقابلة الصناعة المحرمة بالأثمان، وهذا لا يجوز كالآت الملاهي.
وأما إن كانت الصناعة مباحة، كخاتم الفضة، وحلية النساء، وما أبيح من حلية السلاح وغيرها، فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها، فإنه سفه وإضاعة للصنعة، والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك.
فالشريعة لا تأتى به.، ولا تأتى بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إليه، فلم يبق إلا أن يقال: لا يجوز بيعها بجنسها ألبته، بل يبيعها بجنس آخر، وفي هذا من الحرج، والعسر، والمشقة ما تنفيه الشريعة، فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون من ذلك، والبائع لا يسمح ببيعه ببر، وشعير وثياب. وتكليف الاستصباغ لكل من أحتاج إليه إما متعذر، أو متعسر، والحيل باطلة في الشرع.
وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذى تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه، فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلعة، فلو لم يجز بيعة بالدراهم فسدت مصالح الناس، والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ليس فيها ما هو صريح في المنع.
وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة، ولا ينكر تخصيص العام، وتقييد المطلق بالقياس الجلى، وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في الذهب والفضة.
والجمهور يقولون: لم يدخل في ذلك الحلية، ولا سيما أن لفظ النصوص
في الموضوعين قد ذكر تارة بلفظ الدراهم والدنانير، كقوله الدراهم بالدراهم والدنانير بالدنانير، وفي الزكاة، كقوله في الرقة ربع العشر، والرقة هي الورق، وهي الدراهم المضروبة. وتارة بلفظ الذهب والفضة، فإن حمل المطلق على المقيد كان نهياً عن الربا في النقدين، وإيجاباً للزكاة فيهما، ولا يقتضى ذلك نفي الحكم عن جملة ما عداهما، بل فيه تفصيل فتجب الزكاة.
ويجرى الربا في بعض صوره لا في كلها، وفي هذا توفيه الأدلة حقها وليس فيه مخالفة الدليل منها.
يوضحه أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع، لا من جنس الأثمان، ولهذا لم تجب فيها الزكاة، فلا يجرى الربا بينها وبين الأثمان، كما لا يجرى بين الأثمان وبين سائر السلع وإن كانت من غير جنسها،فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان، وأعدت للتجارة فلا محذور في بيعها بجنسها، ولا يدخلها: إما أن تقضى، وإما أن تربى، إلا كما يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل، ولا ريب أن هذا قد يقع فيها، لكن لو سد على الناس عليهم باب الدين، وتضرروا بذلك غاية الضرر.
يوضحه: أن الناس على عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم، كانوا يتخذون الحلية، وكان النساء يلبسنها، وكن يتصدقن بها في الأعياد وغيرها.
ومن المعلوم بالضرورة: أنه كان يعطيها المحاويج، ويعلم أنهم يبيعونها ومعلوم قطعاً أنها لا تباع بوزنها، فإنه سفه.
ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفتخة لا يساوى يناراً، ولم يكن عندهم فلوس يتعاملون بها، وهم كانوا أتقى لله، وأفقه في دينه، وأعلم بمقاصد رسوله من أن يرتكبوا الحيل، أو يعلموها الناس، يوضحه: انه لا يعرف
عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحلى إلا بغير جنسه، أو بوزنه والمنقول عنهم إنما هو في الصرف، يوضحه: أن التحريم ربا الفضل، إنما كان سداً للذريعة كما تقدم بيانه، وما حرم سداً للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أبيح النظر للخاطب والشاهد، والطبيب والمعامل من جملة النظر المحرم.
وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال حرم لسد ذريعة التشبيه بالنساء الملعون فاعله، وأبيح منه ما تدعو الحاجة إليه، وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصنوعة صياغة مباحة أكثر من وزنها، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك.
وتحريم التفاضل إنما كان سداً للذريعة. فهذا محض القياس، ومقتضى أصول الشرع، ولا تتم مصلحة الناس إلا به وبالحيل، والحيل باطلة في الشرع. وغاية ما في ذلك فعل الزيادة في مقابلة الصياغة المباحة المتقومة بالأثمان في المغصوب وغيرها. وإذا كان أرباب الحيل يجوزون بيع عشرة بخمسة عشر في خرقة تساوى فلساً، ويقولون: الخمسة في مقابلة الخرقة، فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوى الصياغة؟ وكيف تأتى الشريعة الكاملة الفاضلة التى بهرت العقول حكمة، وعدلاً، ورحمة وجلاله بإباحة هذا، وتحريم ذاك! وهل هذا إلا عكس العقول والفطر والمصلحة؟
والذى يقضى منه العجب مبالغتهم في ربا الفضل أعظم مبالغة، حتى منعوا بيع رطل زيت برطل زيت؟ وحرموا بيع الكسب والسمسم، وبيع النشا بالحنطة، وبيع الخل بالزبيب، ونحو ذلك. وحرموا بيع مد حنطة ودرهم. وجاءوا إلى ربا النسيئة ففتحوا للتحليل عليه كل باب، فتارة بالعينة وتارة بالمحلل، وتارة بالشرط المتقدم المتواطأ
عليه. ثم يطلقون العقد من غير اشتراط، وقد علم الله والكرام الكانبون، والمتعاقدون ومن حضر أنه عقد ربا، مقصوده وروحه بيع خمسة عشر مؤجلة بعشرة نقداً ليس. ودخول السلع كخروجها، حرف جاء لمعنى في غيره. فهلا فعلوا ههنا، كما فعلوا في مسألة مد عجوة ودرهم بمد ودرهم! .
وقالوا: قد يجعل وسيلة إلى الربا الفضل بان يكون المد في احد الجانبين يساوى بعض امد في الجانب الآخر فيقع التفاضل، فيالله العجب! كيف حرمت هذه الذريعة إلى ربا الفضل، وابيحت تلك الذرائع القريبة الموصلة إلى ربا النسيئة بحتاً خالصاً! وأين مفسدة بيع الحلية بجنسها، ومقابلة الصياغة بحظها من الثمن إلى مفسدة الحيل الربوية، التى هي أساس كل مفسدة، وأصل كل بلية، وإذا حصحص الحق، فليقل المتعصب الجاهل ما قال، وبالله تعالى التوفيق.
فإن قيل: الصفات لا تقابل بالزيادة، ولو قوبلت بها لجاز بيع الفضة باكثر منها من الرديئة، وبيع التمر الجيد بازيد منه من الردئ، ولما ابطل الشارع ذلك علم أنه منع من مقابلة الصفات بالزيادة.
قيل: الفرق بين الصفة التى هي أثر فعل الآدمي، وتقابل بالأثمان وتستحق عليها الأجرة، وبين الصفة التى حي مخلوقة لله سبحانه لا أثر للعبد فيها، ولا هي من صنعه. فالشارع بحكمته وعدله منع من مقابلة هذه الصفة بزيادة، إذ ذلك يفضى إلى نقص ما شرعه من المنع من التفاضل، فإن التفاوت في هذه الأجناس ظاهر، والعاقل لا يبيع جنساً بجنسه إلا لما بينهما من التفاوت، فإن كانا متساويين من كل وجه لم يفعل ذلك، فلو جوز لهم مقابلة الصفات بالزيادة لم يحرم عليهم ربا الفضل.
وهذا بخلاف الصناعة التى جوز لهم المعارضة عليها معه، يوضحه أن المعارضة إذا جازت على هذه الصياغة مفردة جازت عليها مضمونه إلى غير
أصلها وجوهرها، إذ لا فرق بينهما في ذلك، يوضحه أن الشارع لا يقول لصاحب هذه الصياغة: بع المصوغ بوزنه واخسر صياغتك. ولا يقول له تحيل على بيع المصوغ باكثر من وزنه بأنواع الحيل. ولم يقل قط: لا تبعه إلا بغير جنسه، ولم يحرم على أحد أن يبيع شيئاً من الأشياء بجنسه.
فإن قيل: فهب أن هذا قد سلم لكم في المصوغ، فكيف يسلم لكم في الدراهم والدنانير المضروبة إذا بيعت بالسبائك مفاضلاً، وتكون الزيادة في لا تتقوم فيها الصياغة للمصلحة العامة المقصودة منها، فإن السلطان يضربها لمصلحة الناس العامة، فإن كان الضارب يضربها باجرة، فإن القصد بها أن تكون معياراً للناس لا يتجرون فيها كما تقدم، والسكة فيها غير مقابلة بالزيادة في العرف، فلو قوبلت بالزيادة فسدت المعاملة، وأنتقضت المصلحة التى ضربت لأجلها، أتخذها الناس سلعة واحتاجت إلى تقويم بغيرها، ولهذا قام الدرهم مقام الدرهم من كل وجه، فيأخذ الرجل الدراهم ويرد نظيرها، وليس المصوغ كذلك. ألا ترى أن الرجل ياخذ مائة خفاقاً، ويرد خمسين ثقالاً بوزنها، ولا يابى ذلك الآخذ ولا القابض، ولا يرى أحدهما أنه قد خسر شيئاً، وهذا بخلاف المصوغ، والنبي صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه لم يضربوا درهماً واحداً، وأول من ضربها في الإسلام عبد الملك بن مروان، وإنما كانوا يتعاملون بضرب الكفار.
فإن قيل: يلزمكم على هذا ان تجوروا بيع فروع الأجناس باصولها متفاضلاً، فجوزوا بيع دقيق الحنطة بالحب متفاضلاً، والزيت بالزيتون، والسمسم بالشيرج. قيل: هذا سؤال وارد أيضاً، وجوابه. أن التحريم إنما يثبت بنص أو إجماع، أو تكون الصورة المحرمة بالقياس مساوية من كل وجه للمنصوص
على تحريمها، والثلاثة متبقية في فروع الأجناس مع أصولها، وقد تقدم أن غير الأصناف الأربعة، ففرعها إن خرج عن كونه قوتاً لم يكن من الربوبيات، وإن كان قوتاً كان جنساً قائماً بنفسه، وحرم بيعه بجنسه الذى هو مثله متفاضلاً، كالدقيق بالدقيق، والخبر بالخبز، ولم يحرم بيعه بجنس آخر. وإن كان جنسهما واحداً. فلا يحرم السمسم بالشيرج، ولا الهريسة بالخبز، فإن هذه الصناعة لها قيمة، فلا تضيع على صاحبها، ولم يحرم بيعها باصولها كتاب ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس، ولا حرام إلا ما حرمه الله تعالى، كما أنه لا عبادة إلا ما شرعها الله تعالى، وتحريم الحلال كتحليل الحرام.
فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم بيع اللحم بالحيوان، فإنكم إن منعتموه نقضتم قولكم، وإن جوزتموه خالفتم النص، وإن النص كان قد منع من بيع اللحم بالحيوان، فهذا دليل على المنع من بيع الخبز بالبر، والزيت بالزيتون وكل ربوى بأصله.
قيل: الكلام في هذا الحديث في مقامين: أحدهما في صحته، والثاني في معناه: أما الأول فهو حديث لا يصح موصولاً وإنما هو مرسل، فمن لم يحتج بالمرسل لم يرد عليه، ومن رأى قبول المرسل مطلقاً ومراسيل سعيد بن المسيب فهو حجة عنده.
قال أبو عمر: لا أعلم أن حديث النهي عن بيع اللحم بالحيوان متصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه ثابت، وأحسن أسانيده مرسل سعيد ابن المسيب كما ذكره مالك في مؤطأه. وقد أختلف الفقهاء في القول بهذا الحديث والعمل به والمراد منه، وكان مالك يقول: معنى الحديث تحريم التفاضل في الجنس الواحد حيوانه بلحمه، وهو عنده من باب المزابنة والغرر والقمار، لأنه لا يدرى هل في الحيوان مثل اللحم الذى أعطي أو أقل أو أكثر، وبيع اللحم باللحم لا يجوز كتفاضلاً، وكان بيع الحيوان باللحم كبيع اللحم المغيب في جلده
بلحم إذا كانا من جنس واحد. قالوا: وإذا أختلف الجنسان فلا خلاف عن مالك وأصحابه أنه جائز حينئذ بيع الحيوان باللحم. وأما أهل الكوفة كأبي حنيفة وأصحابه فلا يأخذون بهذا الحديث ويجوزون بيع اللحم بالحيوان مطلقاً وأما أحمد فيمنع بيعه بحيوان من جنسه، ولا يمنع بيعه بغير جنسه، وإن منعه بعض أصحابه. وأما الشافعي فيمنع بيعه بجنسه وبغير جنسه. وروى الشافعي عن ابن عباس أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر الصديق فقسمت على عشرة أجزاء، فقال رجل: أعطوني منها بشاة. فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا يصلح هذا.
قال الشافعي: ولست أعلم لأبي بكر في ذلك مخالفاً من الصحابة.
والصواب في هذا الحديث إن ثبت أن المراد به إذا كان الحيوان مقصود اللحم كشاة يقصد لحمها فيباع بلحم، فيكون قد باع لحماً بلحم أكثر منه من جنس واحد، واللحم قوت موزون فيدخله ربا الفضل.
وأما إذا كان الحيوان غير مقصود به اللحم كما إذا كان غير مأكول أو مأكولا بقصد لحمه كالفرس يباع بلحم إبل، فهذا لا يحرم بيعه به.
بقى إذا كان الحيوان مأكولاً بقصد لحمه وهو من غير جنس اللحم، فهذا يشبه المزابنة بين الجنسين، كبيع صبرة تمر بصبرة زبيب. وأكثر الفقهاء لا يمنعون من ذلك، إذ غايته التفاضل بين الجنسين، والتفاضل المحقق جائز بينهما فكيف بالمظنون.
وأحمد في إحدى الروايتين عنه يمنع ذلك، لا لأجل التفاضل، ولكن لأجل المزابنة وشبه القمار. وعلى هذا فيمتنع بيع اللحم بحيوان من غير جنسه والله تعالى أعلم. أهـ.
وبهذا كله علمت أن مسائل الربا في بعض صورها أيضاً خلاف. وأن