الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قالوا: والنار موجب غضبه، والجنة موجب رحمته، وقد قال صلى الله عليه وسلم:((لما قضي الله تعالى الخلق كتب كتاباً فهو عندي فوق العرش: إن رحمتى سبقت غضبي)) رواه البخاري. وقالوا: والله سبحانه يخبر عن العذاب أنه عذاب يوم عظيم، وأليم، وعقيم. ولا أخبر في موضع واحد عن النعيم أنه نعيم يوم.
وقد قال تعالى: {قال عذابي أصيب به من اشاء ورحمتى وسعت كل شئ} وقال تعالى حكاية عن الملائكة: {ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلماً} فلا بد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين، فلو بقوا في العذاب لا إلى غاية لم تسعهم رحمته.
وقد ثبت في الصحيح تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة، والمعذبون فيها متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم، وليس في حكمه أحكم الحاكمين ورحمة أرحم الراحمين، وأن يخلق خلقاً يعذبهم أبد الآباد عذاباً سرمداً.
فمن مقتضى الحكمة أن الإحسان مراد لذاته، والانتقام مراد بالعرض، وقالوا: وما ورد من الخلود فيها والتأييد وعدم الخروج، وأن عذابها مقيم، وأنه غرام، كله حق مسلم لا نزاع فيه وذلك يقتضى الخلود في دار العذاب مادامت باقية، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد. ففرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله، وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه.
[أدلة القائلين بعدم فناء النار]
ومن أدلة القائلين بعدم فنائها قوله تعالى: {ولهم عذاب مقيم - لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون - فلن نزيدكم إلا عذاباً - خالدين فيها أبداً - وما هم منها بمخرجين - وما هم بخارجين من النار - ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل
في سم الخياط - لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها - إن عذابها كان غراماً} أى مقيماً لازماً.
وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله. وأحاديث الشفاعة صريحة في خروج عصاة الموحدين من النار، وان هذا حكم مختص بهم، فلو أخرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم، ولم يختص الخروج بأهل الإيمان، وغير ذلك من الأدلة. وكل مدع أجاب عن أدلة صاحبه في هذه المسألة - أنتهى بأقتصار.
ونقل الوالد قدس الله تعالى روحه في تفسيره عن الفهامة ابن الجوزى: أنه ضعف بعض الآثار الواردة في ذلك كخبر عن عبد الله بن عمرو بن العاص ((يأتى على جهنم يوماً ما فيها من ابن آدم أحد تصفق أبوابها كأنها ابواب الموحدين)) . وأول البعض أيضاً بعضها قال: وأنت تعلم أن خلود الكفار مما أجمع عليه المسلمون، ولا عبرة بالمخالف، والقواطع أكثر من أن تحصى، ولا يقاوم أحد منها كثير من هذه الأخبار.
ولا دليل في الآية على ما يقوله المخالف، لأن قوله تعالى. {لهم فيها زفير وشهيق، خالدين مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك} يمكن أن يكون المراد بمن شاء فساق الموحدين، ولا حاجة إلى دعوى النسخ فيها. كما روى عن السدى، بل لا يكاد يصح القول بالنسخ في مثل ذلك. انتهى ملخصاً.
وإن أردت تفصيل ما قيل في الآية الكريمة فعليك به وبالكتب المفصلة وقد صنف في ذلك علماء الإسلام مصنفات من آخرهم العلامة الشيخ مرعى الحنبلى جزءاً سماه ((توقيف الفريقين على خلود الدارين)) .
وأعلم أن ما نسب فيما تقدم للشيخ محيى الدين بن عربي قد أنكر صحته عنه الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه ((الأجوبة المرضية)) بما نصه:
ومن ذلك دعوى المنكر أن الشيخ يقول بعدم خلود الكافرين في النار، وأما عذابهم فينقضى، ويخلق الله تعالى لهم مزاجاً يتلذذ بالنار حتى أنهم لو خرجوا منها إلى الجنة لتألموا بذلك - إلى آخر ما نقلوه عن الشيخ وحاشا الشيخ عنه، والذى هو أعظم المناء على الشريعة، أن يتلفظ بمثل ذلك، ويجعل المجرمين كالمسلمين، وإن وجد ذلك في بعض كتبه فهو مدسوس عليه بيقين
وقد حكى هو الإجماع على خلودهم، وقال في عقيدته، أول الفتوحات: ونعتقد أن تأبيد العذاب على الكفار والمشركين والمنافقين حق وقال في الباب الرابع والستين منها: واعلم أن ابليس ومن تبعه من الكفار لا يخرجون من النار، لحديث:((ينادى المنادى يوم القيامة يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت)) .
وذكر الشيخ عبد الكريم الجيلى في كتابه المسمى ((بالإنسان الكامل)) ((وشرح لباب الأسرار من الفتوحات)) ان مراد باهل النار يخرجون منها هم عصاة الموحدين لا الكفار. وقال: إياك أن تحمل كلام الشيخ محيى الدين أو غيره من الصوفية في قولهم بانتهاء مدة أهل النار من العصاة على الكفار، فإن ذلك كذب وخطأ، وإذا احتمل الكلام وجهاً صحيحاً وجب المصير إليه. أهـ.
وقال الشعراني: ثم إنه بتقدير صحة نسب ذلك إلى الشيخ محيى الدين. فالشيخ لم ينفرد بذلك، فقد قال جمع من الظاهرية، وفرقة من الحنابلة والفدرية بفناء انار، وأن الجرجير ينبت فيها، وأن اللبث في قوله تعالى:{لابثين فيها أحقاباً} يرجع إلى نهاية في العدد على اختلاف وجوه الحقب في التفسير. انتهى.
وقال الشيخ محيى الدين في كتاب ((لواقح الأنوار)) : إياك أن تفهم من سياق العلماء الخلاف فيمن يخرج من النار أنه في حق من كذب الرسل من الكفار، فإن ذلك خطأ، وإنما هو في حق امة الإجابة إذا ماتوا من غير توبة وآخذهم الله تعالى، أو أنه حكاية عن مذهب من يقول بتخليد العصاة من الموحدين إذا ماتوا على غير توبة. أهـ.
قلت: ورأيت في الفتوحات في الباب الثاني والستين ما نصه:
وأما قوله تعالى: {زدناهم عذاباً فوق العذاب} فذلك لطائفة مخصوصة، وهم الأئمة الذين أضلوا العامة، وأدخلوا عليهم الشبه المضلة، وقالوا لهم: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم، وهو قوله تعالى:{ثم ازدادوا كفراً} وهو قوله تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع اثقالهم} فإن له وزراً من كل عمل بالضلالة، فهذا قوله: زدناهم عذاباً فوق العذاب} فما أنزلوا من النار إلا منازل الاستحقاق، بخلاف أهل الجنة، فإن أهل الجنة نزلوا منها منازل استحقاق مثل الكفار، ومنازل ورائه ومنازل اختصاص. فلا بد لأهل النار من فضل الله تعالى ورحمته في نفس النار، فلا يموتون ولا يحيون فيعطيهم الله تعالى بعد انقضاء موازنة المدد بين العذاب والعمل نعيماً خيالياً مثل ما يراه النائم، وجلده، كما قال تعالى:{كلما نضجت جلودهم} هو كما قلنا خدرها، فزمان النضج والتبديل يفقدون الآلام، لأنه إذا انقضى زمان الإنضاج خمدت النار في حقهم، فيكونون في النار كالأمة التى دخلتها وليست من أهلها، فأماتهم الله تعالى إماتة فلا يحسون بما تفعله النار في أبدانهم
…
والحديث بكماله ذكره مسلم في صحيحه. وهذا من فضل الله تعالى ورحمته. أهـ.