الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخبرنا عبد العزيز بن علي القربيسي، قال حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد الحافظ، قال ثنا الحسن بن إسماعيل الربعي، قال: قال لي أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والصابر لله عز وجل تحت المحنة. أجمع سبعون رجلاً من التابعين وأئمة المسلمين وأئمة السلف وفقهاء الأمصار، على؟ أن السنة التى توفي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أولها الرضا بقضاء الله، والتسليم لأمر الله، والصبر تحت حكمه، والأخذ بما أمر الله به والنهي عما نهى الله تعالى عنه، وإخلاص العمل لله، والإيمان بالقدر خيره وشره، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين، والمسح على الخفين، والجهاد مع كل خليفة بر وفاجر، والصلاة على من مات من أهل القبلة.
والإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، والقرآن كلام الله منزل على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم غير مخلوق من حيث تلى، والصبر تحت لواء السلطان على ما كان منه من عدل أو جور، ولا نخرج على الأمراء بالسيف وإن جاروا، ولا يكفر أحد من اهل التوحيد وإن عملوا بالكبائر والكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفضل الناس بعد رسول الله أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والترحم على جميع أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاده وأصهاره رضوان الله عليهم أجمعين.
فهذه السنة آلزموها تسلموا أخذها بركة، وتركها ضلالة. أنتهى بحروفه وقد أمتحن في مسألة خلق القرآن وضرب وحبس، فصبر على ذلك حتى أنار الله تعالى به السنة، وخذل به اهل البدعة.
[محنة القول بخلق القرآن]
قال الدميري: وحكي أن الشافعي - رحمه الله تعالى - لما حضر في مصر
رأى في المنام سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: أبشر أحمد ابن حنبل بالجنة على بلوى تصيبه، فإنه يدعى إلى القول بخلق القرآن فلا يجيب إلى ذلك، بل يقول: هو منزل غير مخلوق.
فلما أصبح الشافعي رضي الله عنه كتب صورة ما رآن في منامه وأرسله مع الربيع إلى بغداد إلى الإمام أحمد رحمه الله تعالى، فلما وصل بغداد قصد منزل أحمد وأستأذن عليه فأذن له، فلما دخل عليه قال: هذا كتاب أخيك الشافعي، فقال له: هل تعلم ما فيه:؟ قال لا، ففتحه وقرآه وبكى وقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
ثم أخبره بما فيه فقال: الجائزة؟ وكان عليه قميصان احدهما على جسده والآخر فوقه فنزع الذى على جسده ودفعه إليه فأخذه ورجع إلى الشافعي فقال له الشافعي: ما أجازك؟ قال: أعطاني القميص الذى على جسده، فقال له: أما انا فلا أفجعك فيه، ولكن أغسله وأئتنى بماء غسله، واتاه بالماء فأفاضه على سائر جسده. انتهى. وما أحسن ما ينسب إليه فيه قول [كامل]
قالوا يزورك أحمد وتزوره قلت الفضائل ما تعدت منزله
إن زارني فبفضله أو زرته فلفضله فالفضل في الحالين له
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في الباب السادس والستين ما ملخصه: إنه لم يزل الناس على قانون السلف وقولهم: إن القرآن كلام الله غير مخلوق حتى نبعث المعتزلة فقالت بخلق القرآن، وكانت تستر ذلك.
وكان القانون محفوظاً في زمن هارون الرشيد كما قال محمد بن نوح سمعت هارون الرشيد أمير المؤمنين يقول: بلغني أن بشراً المريسى زعم ان القرآن مخلوق؟ على إن اظفرني الله به لأقتلنه قتله ما قتلها أحد قط. قال أحمد:
فكان بشر متوارياً في أيامه نحواً من عشرين سنة حتى مات هارون، فظهر ودعا إلى الضلالة.
ولما ولي المأمون خالطه قوم من المعتزلة فحسنوا له القول بخلق القرآن، وكان يتردد في حمل الناي على ذلك ويراقب الأشياخ، ثم قوى عزمه فحمل الناس عليه حتى سافر المأمون إلى بلاد الروم فكتب وهو بالرقة إلى أسحق ابن إبراهيم صاحب الشرطة ببغداد بامتحان الناس فامتحنهم.
قال صالح ابن الإمام أحمد: ثم أمتحن القوم جميعاً غير أربعة: أبي ومحمد ابن نوح وعبد الله بن عمر القواريري والحسن بن حماد سجادة، ثم أجاب عبد الله بن عمر والحسن بن حماد، وبقى ابي ومحمد بن نوح في الحبس فمكثا أياماً في الحبس، ثم ورد الكتاب من طرطوس بحملها مقيدين زملين فصرنا معهما إلى الأنبار، فسأل أبو بكر الأحوال أبي فقال: يا أبا عبد الله، إن عرضت على السيف تجيب؟ قال: لا. ولما رحلنا من الرحبة عرض لنا رجل في جوف الليل فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل له: هذا. فقال للجمال على رسلك! ثم قال: يا هذا، ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة هاهنا ثم قال: أستودعك الله تعالى ومضى.
فسئل عنه فقيل: هو رجل من ربيعة يقال له جابر بن عامر يذكر بخير وقال أحمد: ما سمعت كلمة منذ وقعت في الأمر الذى وقعت فيه اقوى من كلمة أعرابي كلمنى بها في رحبة طوق. قال: يا أحمد إن يقتلك الحق مت شهيداً، وإن عشت عشت حميداً قال: فقوى قلبي. قال ابن أبي حاتم: فكان كما قال، لقد رفع الله عز وجل شأن أحمد بن حنبل بعد ما أماحن وعظم عند الناس، وارتفع أمره جداً.
قال صالح قال أبي: لما صرنا إلى أذنه ورحلنا منها وذلك في جوف الليل
وفتح لنا بابها، فإذا رجل قد دخل فقال: البشرى؟ قد مات الرجل! قال أبي: وكنت أدعو الله عز وجل أن لا أراه، فبويع المعتصم بالروم ورجع فرد أحمد إلى بغداد في سنة ثمان وعشر ومائتين. فمات محمد بن نوح في الطريق ودفن كما قيل بعانة، وصلى عليه الإمام أحمد، ورد مقيداً فمكث بالياسرية أياماً، ثم رد إلى الحبس في دار أكتريت له، ثم نقل إلأى حبس العامة في درب الموصلي فامتحنه المعتصم بخلق القرآن.
وكان أحمد بن أبي داود على قضاء القضاة، قال أحمد: لما كان في شهر رمضان سنة تسع حولت إلى دار إسحق بن إبراهيم، فوجه إلى في كل يوم برجلين أحدهما يقال له أحمد بن رباح، والآخر أبو شعيث فلا يزالان يناظراني حتى إذا أرادا الإنصراف بقيد فزيد في قيودي فصار في رجلي أربعة أقياد.
فلما كان اليوم الثالث دخل على أحد الرجلين فناظرني فقلت له: ما تقول في علم الله؟ قال: علم الله مخلوق، فقلت له: كفرت! فلما كان في الليلة الرابعة وجه المعتصم إلى أسحق فأمره بحملي إليه فأدخلت إلى إسحق، فقال: يا أحمد، إنها والله نفسك، إنه لا يقتلك بالسيف، إنه قد آلى إن لم تجبه أن يضربك ضرباً بعد ضرب، وأن يلقيك في موضع لا ترى الشمس فيه أليس قد قال الله عز وجل:{إنا جعلناه قرآناً عربياً} [الزخرف 3] أفيكون مجعول إلا مخلوقاً؟ فقلت له: قد قال الله عز وجل: {فجعلهم كعصف مأكول} [الفيل 5] أفخنقهم؟ فسكت. ثم قال أذهبوا به.
قال أحمد: فما صرنا إلى الموضع المعروف بباب البستان، أخرجت وجئ بدابة فحملت عليها وعلى الأقياد معي أحد يمسكني، فكدت غير مرة أخر على وجهي لثقل القيود فجئ بي إلى دار المعتصم فأدخلت حجرة
وأدخلت إلى بيت وأقفل علي الباب، وذلك في جوف الليل، وليس في البيت سراج، فأردت أن أتمسح للصلاة فمددت يدى فغذا أنا بإناء فيه ماء وطشت موضوع فتوضأت للصلاة وصليت، فلما كان من الغد أخرجت تكتى من سروالي وشددت بها الأقياد أحملها وعطفت سراويلي، فجاء رسول المعتصم فقال: أجب، فأخذ بيدي وأدخلني عليه والتكة بيدي أحمل بها الأقياد، وإذا هو جالس وابن أبي داود حاضر، وقد جمع خلقاً كثيراً من أصحابه ومعهم أبو عبد الرحمن الشافعي.
قال إبراهيم بن محمد بن الحسن: فأجلس بين يدي وكانوا هولوا عليه وقد كانوا ضربوا عنق رجلين، فنظر أحمد إلى أبي عبد الرحمن الشافعي فقال: أي شئ تحفظ عن الشافعي في المسح؟ فقال ابن أبي داود: أنظروا رجلاً هو ذا يقوم لضرب العنق يناظر في الفقه؟ ! .
قال صالح قال أبي: لما دخلت إليه قال لي - يعني المعتصم -: أدنه أدنه فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم قال: أجلس فجلست، وقد أثقلتنى القيود فمكثت قليلاً ثم قلت: تأذن في الكلام؟ فقال: تكلم فقلت: إلام دعا الله ورسوله؟ فسكت هنيهة، ثم قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فقلت أنا أشهد ان لا إله إلا الله، ثم قلت: إن جدك ابن عباس قال لما قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن الإيمان فقال: ((أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تعطوا الخمس من المغنم)) قال أبي فقال: لولا أنى وجدتك في يد من كان قبلي ما عرضت لك.
ثم قال: يا عبد الرحمن بن إسحق: ألم آمرك أن تدفع المحنة؟ قال أبي: فقلت: الله أكبر، إن في هذا لفرجاً للمسلمين. ثم قال لهم: ناظروه وكلموه.
ثم قال: يا عبد الرحمن كلمه، فقال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن فقلت له: ما تقول في علم الله تعالى فسكت. فقال لي بعضهم: أليس قال الله عز وجل {خالق كل شئ} [الرعد 16] والقرآن أليس هو شيئاً؟ قال أبي: فقلت قال الله عز وجل {تدمر كل شئ بأمر ربها} [الأحقاف 25] فدمرت إلا ما أراد الله عز وجل. وقال بعضهم: قال الله عز وجل {ما ياتيهم من ذكر من ربهم محدث} [الأنبياء 2] أفيكون محدث إلا مخلوقاً؟ قال أبي: فقلت له قال الله عز وجل {ص والقرآن ذي الذكر} [ص الآية 1] والذكر هو القرآن، وتلك ليس فيها ألف ولا لام؟ قال أبي: وذكر بعضهم حديث عمران بن حصين: ان الله عز وجل خلق الذكر؟ فقلت: هذا خطأ حدثنا غير واحد أن الله عز وجل كتب الذكر.
وأحتجوا على بحديث ابن مسعود: ((ما خلق الله عز وجل من جنة ولا نار ولا سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي)) . قال ابي: فقلت إنما يوقع الخلق على الجنة والنار والسماء والأرض، ولم يقع على القرآن. قال: فقال بعضهم حديث خباب: ((يا هنتاه تقرب إلى الله تعالى بما أستطعت فإنك لم تتقرب إليه بشئ أحب إليه من كلامه)) .
قال: هذا كذا هو، فجعل ابن أبي داود ينظر إليه كالمغضب. قال: وكان يتكلم هذا فأرد عليه. فإذا أنقطع الرجل منهم أعترض ابن أبي داود فيقول: يا أمير المؤمنين، هو والله ضال مضل مبتدع! قال أبي: فيقول: كلموه وناظروه فيكلمني هذا فأرد عليه، ويكلمني هذا فأرد عليه، فإذا أنقطعوا يقول لي - يعني المعتصم -: ويحك يا أحمد؟ ما تقول؟ فأقول: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئاً من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به.
وحكي محمد بن إبراهيم أن أبن ابي داود أقبل على أحمد يكلمه، فلم يلتفت إليه أحمد حتى قال المعتصم لأحمد: ألا تكلم أبا عبد الله؟ فقال أحمد: لست أعرفه من اهل العلم فأكلمه.
وقال صالح: جعل ابن أبي داود يقول: يا أمير المؤمنين، والله لئن أجابك لهو أحب لي من مائة ألف دينار. فيعدد من ذلك ما شاء الله تعالى.
قال: فقال المعتصم: والله لئن أجابني لأطلقن عنه بيدي، ولأركبن إليه بجندي ولأطأن عتبته! ثم قال: يا أحمد، والله إني عليك لشفيق، وإني لأشفقن عليك كشفقي على هارون ابني، ما تقول!! فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فلما كال المجلس ضجر وقال: قوموا وحبسني وعبد الرحمن بن إسحق يكلمني وقال: ويحك أجبني؟ وقال لي: ما أعرفك، ألم تكن تأتينا؟ فقال له عبد الرحمن بن إسحق: يا أمير المؤمنين أعرفه من ثلاثين سنة، يرى طاعتك والحج والجهاد معكم، قال فيقول: والله إنه لعالم، وإنه لفقيه، وما يسوءني أن يكون مثله معي يرد عني أهل الملل. ثم قال لي: ما كنت تعرف صالحاً الرشيدي؟ قال، قلت: قد سمعت باسمه.
قال: كان مؤدبي، وكان في ذلك الموضع جالساً وأشار إلى ناحية من الدار، فسألته عن القرآن فخالفني، فأمرت به فوطئ وسحب.
ثم قال لي: يا أحمد أجبني إلى شئ لك فيه أدني فرج حتى أطلق عنك بيدي، قال قلت: أعطوني شيئاً من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله فطال المجلس فقام ودخل، ورددت إلى الموضع الذى كنت فيه.
فلما كان بعد المغرب وجه إلى برجلين من أصحاب ابن أبي داود يبيتان
عندي، ويناظراني ويقيمان معي، حتى إذا كان وقت الإفطار جئ بالطعام ويجتهدان بي أن أفطر فلا أفعل. قال ابي: ووجه إلى - يعني المعتصم - ابن أبي داود في بعض الليل فقال: إن أمير المؤمنين يقول: ما تقول؟ فأرد عليه مثل ما كنت أرد. فقال ابن أبي داود: والله لقد كتب أسمك في السبعة: يحيى بن معين وغيره فمحوته، ولقد ساءني أخذهم إياك. ثم يقول إن أمير المؤمنين قد حلف أن يضربك ضرباً بعد ضرب، وإن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشمس، ويقول إن أجابني جئت إليه حتى أطلق عنه بيدي، ثم انصرف.
فلما أصبح - وذلك اليوم الثاني - جاء رسوله وأخذ بيدي حتى ذهب بي إليه فقال لهم: ناظروه كلموه فجعلوا يناظرونني ويتكلم هذا من ههنا فأرد عليه، ويتكلم هذا من ههنا فأرد عليه، فإذا جاءوا بشئ من الكلام مما ليس في كتاب الله عز وجل ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فيه خبر قلت: ما أدرى ما هذا، قال: يقول يا أمير المؤمنين: إذا توجهت له الحجة علينا ثبت، وإذا كلمناه بشئ يقول لا أدري ما هذا.
فقال: ناظروه، فقال رجل: يا أحمد، أراك تذكر الحديث وتنتحله؟ قلت: ما تقول في {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء 1] فقال: خص الله عز ودل بها المؤمنين. فقلت: ما تقول إن كان قائلاً أو عبداً أو يهودياً؟ قال: فسكت. وإنما احتجت عليهم بهذا، لأنهم كانوا يحتجون بظاهر القرآن، وحيث قال لي: أراك تنتحل الحديث، فلم يزالوا كذلك إلى أن قرب الزوال، فلما ضجر قال لهم: قوموا، وخلا بي وبعبد الرحمن بن إسحق، فلم يزل يكلمني. ثم قال فدخل ورددت إلى الموضع، فلما كان الليل نام من معي من أصحابي وأنا متفكر في أمري، فإذا برجل طويل يتخطي الناس حتى دنا مني فقال: أنت أحمد بن حنبل؟ فسكت، فقالها ثانية فسكت، فقالها ثالثة: أنت أبو عبد الله أحمد بن حنبل؟ قلت: نعم قال:
أصبر ولك الجنة. ولما مسني حر السوط ذكرت قول ذلك الرجل. قال أحمد: فلكا كانت الليلة الثالثة قلت: خليق أن يحدث غداً من أمري شئ فقلت لبعض من كان معي الموكل بي: أطلب لي خيطاً فجاءني بخيط فشددت به الأقياد ورددت التكة إلى سراويلي مخافة أن يحدث من أمري شئ فأعتري، فلما كان الغد في اليوم الثالث وجه إلى فأدخلت إلى الدار غاصة فجعلت أدخل من موضع إلى موضع، وقوم معهم بالسيوف، وقوم معهم السياط وغير ذلك ولم يكن في اليومين الماضيين كثير أحد من هؤلاء. فلما أنتهيت إليه قال أقعد، ثم قال: ناظروه وكلموه، فجعلوا يناظرونني ويتكلم هذا فأرد عليه، ويتكلم هذا فأرد عليه، وجعل صوتي يعلو أصواتهم، فجعل بعض من على رأسي قائم يومئ إلى بيده.
فلما طال المجلس نحاني، ثم خلا بهم ثم نحاني، وردني إليه قال: ويحك يا أحمد! أجبني حتى أطلق عنك بيدي، فرددت عليه نحواً مما كنت أرد، فقال لي: عليك - وذكر اللعن - ثم قال: خذوه واسحبوه وأخلعوه، فسحبت ثم خلعت.
وكان صار إلى شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فصررته في كم قميصي، فوجه إلى إسحق بن إبراهيم: ما هذا مصروراً في كم قميصك؟ فقلت: شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وسعى بعض القوم إلى القميص ليخرقه علي فقال له المعتصم: لا تخرقوه، فنزع القميص عني فظننت أنه إنما درئ عن القميص الخرق بسبب الشعر الذى كان فيه.
وجلس المعتصم على كرسي ثم قال: العقابين والسياط، فجئ بالعقابين والسياط، فمدت يداى فقال بعض من حضر خلفى: خذ ثاني الخشبتين بيدك وشد عليهما، فلم أفهم ما قال، فتخلعت يداى.
قال محمد بن إبراهيم: ذكروا ان المعتصم لان في أمر أحمد لما علق في
العقابين ورأى ثبوته وتصميمه وصلابته في أمره حتى أغراه ابن أبي داود وقال له: إن تركته قيل إنك تركت مذهب المأمون وسخطت قوله فهاجمه ذلك على ضربه. وقال أحمد؟ ثم قال للجلادين تقدموا، فجعل يتقدم إلى الرجل منهم فيضربني سوطين فيقول له المعتصم: شد قطع الله يدك، ثم يتنحى ثم يتقدم الآخر فيضربني سوطين وهو في ذلك يقول: شدوا قطع الله أيديكم. فلما ضربت تسعة عشر سوطاً قال إلى فقال: يا أحمد، علام تقتل نفسك، إنى والله عليك شفيق! وجعل عجيف ينسخني بقائمة سيفه وقال: تريد أن تغلب هؤلاء كلهم.
وجعل بعضهم يقول: ويلك! الخليفة على رأسك قائم. وقال بعضهم يا أمير المؤمنين، دمه في عنقى أقتله. وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين أنت صائم، وانت في الشمس قائم. فقال لي: ويحك يا أحمد، ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أقول به، ثم رجع فجلس ثم قال للجلاد: تقدم، أوجع، قطع الله يدك. ثم قام الثانية فجعل يقول: ويحك يا أحمد أجبني. فجعلوا يقبلون علي ويقولون: ويلك يا أحمد، إمامك على رأسك قائم، وجعل عبد الرحمن يقول: من صنع من أصحابك في هذا الآمر ما تصنع.
وجعل المعتصم يقول: ويحك، أجبني إلى شئ لك فيه من أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي. فقلت: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به.
فرجع وجلس فقال للجلادين: تقدموا، فجعل الجلاد يتقدم ويضربني سوطين، ويتنحى، وهو في خلال ذلك يقول: شد قطع الله يدك. قال أحمد: فذهب عقلي، فأفقت بعد ذلك فإذا الأقياد قد أطلقت عني. فقال لي رجل ممن حضر: إنا كببناك على وجهك، وطرحنا على ظهرك باربة ودسناك،
قال أحمد، فما شعرت بذلك. أتوني بسويق فقالوا لي: أشرب وتقيأ. فقلت لست أفطر. ثم جئ بي إلى دار إسحق بن إبراهيم فحضرت صلاة الظهر، فتقدم ابن سماعة فصلى، فلما انفتل من الصلاة قال لي: صليت والدم يسيل في ثوبك؟ فقلت: قد صلى عمر وجرحه يثعب دماً.
قال أبو الفضل: ثم خلى عنه فصار إلى منزله، فمكث في السجن منذ أخذ وحمل إلى أن ضرب وخلي عنه ثمانية وعشرين شهراً.
وقال إبراهيم بن مصعب الشرطي: ما رأيت أحداً لم يداخل السلطان ولا خالط الملوك أثبت قلباً من أحمد يومئذ، ما نحن في عينه إلا كأمثال الذباب.
وأخبر أبو العباس الرقي: إنهم دخلوا على أحمد لما كان في الرقة، وهو محبوس فجعلوا يذاكرونه ما يروى في التقية من الأحاديث، فقال: كيف تصنعون بحديث خباب ((إن من كان قبلكم كان ينشر بالمنشار ثم لا يصده ذلك عن دينه)) قال: فيئسنا منه. وقال له المروذي لما أرادوا أن يقدموه للضرب: يا أستاذ، قال الله تعالى:{ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء 29] فقال: يا مروذي، أخرج أنظر أي شئ ترى؟ قال: فخرجت إلى رحبة دار الخليفة فرأيت خلقاً من الناس لا يحصى عددهم إلا الله عز وجل، والصحف في أيديهم، والأقلام والمحابر في أذرعتهم.
فقال لهم المرودي: أي شئ تعملون؟ فقالوا: ننظر ما يقول أحمد فنكتبه فقال المروذي: مكانكم فدخل إلى أحمد وقال له: رأيت قوماً بأيديهم الصحف والأقلام، ينتظرون ما تقول فيكتبونه.
قال: يا مروذي، أضل هؤلاء كلهم أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء كلهم. قلت: هذا رجل هانت عليه نفسه في الله عز وجل فبذلها وقد صح عنه عليه
الصلاة والسلام أنه قال: ((يبتلى الرجل على حسب دينه)) ، فسبحان من أيده وبصره وقواه ونصره.
وقال ميمون بن الأصبغ: كنت ببغداد فسمعت ضجة فقلت: ما هذا؟ فقالوا: أحمد بن حنبل يمتحن، فأتيت منزلي فأخذت مالا له حظ وذهبت به إلى من يدخلني إلى المجلس، فأدخلوني فإذا بالسيوف قد جردت، وبالرماح قد ركزت، وبالتراس قد نصبت، والسياط قد طرحت، فألبسوني قباء أسود ومنطقة وسيفاً، ووقفوني حيث أسمه الكلام، فأتى أمير المؤمنين وجلس على كرسي، وأتى بأحمد بن حنبل فقال له: وقرابتي من رسول الله لأضربنك بالسياط، أو تقول كما أقول، ثم التفت إلى الجلاد فقال: خذه إليك. فلما ضرب سوطاً قال: بسم الله. فلما ضرب الثاني قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما ضرب الثالث قال: القرآن كلام اله غير مخلوق، فلما ضرب الرابع قال: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، فضرب تسعة وعشرين سوطاً. وكان تكة أحمد حاشية ثوب فأنقطعت فنزل السروايل إلى عانته، فقلت الساعة ينتهك، فرمى أحمد طرفه نحو السماء وحرك شفتيه، فما كان باسرع من أن بقى السراويل لم ينزل.
قال ميمون: ورحلت إليه بعد سبعة أيام فقلت: يا أبا عبد الله، رأيتك يوم ضربوك قد أنحل سراويلك فرفعت طرفك نحو السماء، ورأيتك تحرك شفتيك فأى شئ قلت؟ قال قلت: اللهم إني أسألك باسمك الذى ملأت به العرش إن كنت تعلم أني على الصواب فلا تهتك لي ستراً.
وقال على بن محمد القرشي: لما جرد، وبقى في سراويله، وبينما هو يضرب أنحل السراويل، فجعل يحرك شفتيه بشئ فرأيت يدين خرجتا من تحته، وهو يضرب فشدتا السراويل.
وقال محمد بن إسما عيل: سمعت بعضهم يقول: ضربت أحمد بن حنبل ثمانين سوطاً لو ضربتها فيلاً لهرته.
وأخبرنا الراشدي أنه كان يقول عند الضرب: بك أستغيث يا جبار السماء والأرض.
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: كنت كثيراً أسمع والدي يقول: رحم الله أبا الهيثم، غفر الله تعالى لأبي الهيثم، عفا الله عن أبي الهيثم. فقلت يا أبت، من أبا الهيثم؟ قال لا تعرفه؟ قلت لا. قال: أبو الهيثم الحداد، اليوم الذى أخرجت فيه للسياط، ومدت يدي للعقابين، إذ أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي، ويقول لى تعرفني؟ قلت: لا. قال: أنا أبو الهيثم العيار اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضربت ثمانية عشر ألف سوطاً بالتفاريق، وضربت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا، فاصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين. قال: فضربت ثمانية عشر سوطاً بدل ما ضرب ثمانية عشر ألفاً. وخرج الخادم فقال: عفا عنه أمير المؤمنين.
قال أبو القاسم البغوي: رأيت أحمد بن حنبل داخلاً إلى جامع المدينة وعليه كساء أخضر، وبيده نعلاه، حاسر الرأس، فرأيت شيخاً آدم طوالاً أبيض اللحية، وكان على دكة المنارة قوم من أصحاب السلطان فنزلوا واستقبلوه وقبلوا رأسه ويده، وقالوا له: أدع على من ظلمك، فقال: ليس بصابر من دعا على ظالم.
وحكى أبو عمر المخزومي قال: كنت بمكة أطوف بالبيت مع سعيد ابن منصور، فإذا صوت من ورائي: ضرب أحمد بن حنبل اليوم. وفي رواية أخرى: قال لي سعيد: أتسمع ما أسمع؟ قلت: نعم، فجاء الخبر أنه ضرب في ذلك اليوم. قال أبو غالب: في العشر الأواخر من رمضان سنة عشرين أو تسع وعشرين ومائتين.
قال أحمد: لما ضربت بالسياط جاء ذاك الطويل اللحية - يعني عجيفاً - فضربني بقائم السيف، فقلت: جاء الفرج تضرب عنقي فأستريح. فقال له ابن سماعة: يا أمير المؤمنين، أضرب عنقه ودمه في رقبتي. فقال له أحمد بن أبي داود: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإنه إن قتل أو مات في دارك قال الناس: صبر حتى قتل، فاتخذه الناس إماماً وثبتوا على ما هو عليه، لا، ولكن أطلقه الساعة فإن مات خارجاً من منزلك شك الناس في أمره، وقيل: أخرج أحمد بعد أن أجتمع الناس على الباب وضجوا حتى خاف السلطان، فخرج وقال للناس: تعرفونه؟ قالوا: نعم هذا أحمد بن حنبل. قال: فأنظروا إليه أليس هو صحيح البدن؟ قالوا: نعم. فلما قال قد سلمته إليكم هدأ الناس وسكتوا فخرج. وقد أجل الإمام أحمد من أمر بضربه أو حضر.
قال إبراهيم الحربي: أحل أحمد بن حنبل من حضر ضربه وكل من شايع فيه والمعتصم، وقال: لولا أن ابن أبي داود داعية لأحللته. وقال عبد الله ابن أحمد: قرأت على ابي ((أن لله عز وجل باباً في الجنة لا يدخله إلا من عفا عمن ظلمه)) فقال لي: يا بني، ما خرجت من دار أبي أسحق (1) حتى أحللته ومن معه إلا رجلين: ابن أبي داود وعبد الرحمن بن أسحق، فإنهما طلبا دمي، وأنا أهون على الله عز وجل من أن يعذب في أحداً أشهدك أنهما في حل. قال صالح: وقد كان أثر الضرب بيناً في ظهر أبي إلى أن توفى رحمه الله تعالى.
وبعد أن خرج قطع الحديث إلى ان مات المعتصم، فحدث في سنة سبع وعشرين، ثم قطع الحديث من غير منع من السلطان، ولكن كتب الحسن
(1) كنية المعتصم.
بن علي بن الجعد، وهو يؤمئذ قاضي بغداد إلى ابن أبي دواد: أن أحمد قد أنبسط في الحديث، فبلغ ذلك أحمد فأمسك عن الحديث من غير أن يمنع.
وكانت ولاية المعتصم ثمان سنين وثمانية أشهر.
ثم ولي الواثق أبو جعفر بن المعتصم في ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين، وحسن له ابن أبي داود امتحان الناس بخلق القرآن ففعل ذلك ولم يعرض لأحمد، إما لما علم من صبره، أو لما خاف من تأثير عقوبته، لكنه أرسل إليه لا تساكني بأرض. فاختفى الإمام أحمد بقية حياة الواثق.
قال إبراهيم بن هانئ النيسابوري: أختفى عندي أحمد بن حنبل ثلاث ليال. ثم قال: أطلب لي موضعاً حتى أدور إليه، فقلت: لا آمن عليك يا أبا عبد الله. فقال لي: النبي صلى الله عليه وسلم أختفى في الغار ثلاثة أيام ثم دار، وليس ينبغي أن نتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرخاء ونتركها في الشدة. ثم بعد التنقل في الأماكن عاد إلى منزله فاختفى فيه إلى أن مات الواثق.
قال ابن الجوزي: روى أن الواثق ترك امتحان الناس بسبب مناظرة جرت بين يديه، رأى بها أن الأولى ترك الإمتحان. فقد حكى طاهر بن خلف عن المهتدي باله قال: كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلاً أحضرنا ذلك المجلس، فأتى بشيخ مخصوب مقيد فقال أبي: أئذنوا لأبي عبد الله وأصحابه - يعني ابن أبي داود - قال - فأدخل الشيخ، فقال: السلام عليكم يا أمير المؤمنين، فقال: لاسلام الله عليك. فقال: يا أمير المؤمنين، بئس ما أدبك مؤدبك! قال الله تعالى:: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها}
[النساء 86] والله ما حييتنى بها ولا بأحسن منها! فقال ابن أبي داود يا أمير المؤمنين، الرجل متكلم. فقال له: كلمه فقال: يا شيخ، ما تقول في القرآن؟ قال الشيخ: لم تنصفني ولي السؤال، فقال له: سل، فقال الشيخ: ما تقول في القرآن؟ قال: مخلوق.
فقال: هذا شئ علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون؟ أم شئ لم يعلموه؟ فقال: شئ لم يعلموه. فقال: سبحان الله! شئ لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا الخلفاء الراشدون، علمته أنت؟ فخجل فقال: أقلني، قال: المسألة بحالها؟ قال: نعم.
قال: ما تقول في القرآن؟ فقال: مخلوق. فقال: هذا شئ علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون؟ أم شئ لم يعلموه؟ فقال: شئ لم يعلموه؟ فقال: علموه ولم يدعوا الناس إليه. فقال: ألا وسعك ما وسعهم؟ قال: ثم قام أبي فدخل مجلس الخلوة وأستلقى على قفاه، ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول: هذا شئ لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر إلى أخره. ثم دعا عمار الحاجب فأمر أن ترفع عنه القيود ويعطيه أربعمائة دينار، ويأذن له في الرجوع إلى الشام. وسقط من عينيه ابن أبي داود. وتروى هذه بصورة أخرى مذكورة في الأصل.
وقال المهتدي: إن الواثق مات وقد تاب عن القول بخلق القرآن. ولما بويع بعده المتوكل جعفر بن المعتصم سنة أثنتين وثلاثين ومائتين، وسنة ست وعشرون سنة فاظهر الله عز وجل به السنة، وكشف تلك الغمة، فشكره الناس على ما فعل، وأمر العلماء أن يجلسوا للناس، وان يحدثوا بالأحاديث التى فيها الرد على المعتزلة والجهمية، وأن يحدثوا بالأحاديث في الرؤية، حتى
جلس عثمان بن أبي شيبة في مدينة المنصور (1) ووضع له سريد واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً من الناس في مسجد الرصافة، وانشد بعضهم:[رمل]
ذهبت دولة أصحاب البدع
…
ووهي حبلهم ثم أنقطع
وتداعى بانصرام شملهم
…
حزب إبليس الذى كان جمع
هل لهم يا قوم في بدعهتهم
…
من فقيه أو إمام متبع
ومنها: [رمل]
أوفتى الإسلام أعني أحمداً
…
ذاك لو قارعه الفيل قرع
لم يخف سطوتهم إذا خوفوا
…
لا ولا سيفهم لما لمع
وقد بعث المتوكل بعد مضي خمس سنين من ولايته لتيسيير أحمد بن حنبل فقد نقل غير واحد أنه وجه المتوكل إلى أسحق بن إبراهيم بأمره بحمله إليه فوجه أسحق إليه وقال له: إن أمير المؤمنين قد كتب إلي يأمرني بإشخاصك إليه فتأهب لذلك. وقال له: أجعلني في حل من حضوري ضربك. فقال: أحمد: قد جيعلت كل من حضر في حل. فقال له: أسألك عن القرآن مسألة مسترشدة لا مسألة امتحان، فقال له الإمام أحمد: القرآن كلام الله عز وجل: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54] ففرق بين الخلق والأمر. فقال أسحق: الأمر مخلوق؟ فقال أحمد: سبحان الله! أمخلوق يخلق مخلوقاً! فقال أسحق: وعمن يحكي أنه ليس بمخلوق؟ فقال: جعفر بن محمد قال: ليس بخالق ولا مخلوق، فسكت إسحق وأرسل له المتوكل بعشرة آلاف درهم معونة لسفره إليه
(1) هي بغداد.
فأخذها بعد الرد والكرم الكثير، وفرقها على أبناء المهاجرين والأنصار وغيرهم. وكان يقول عند مواصلة المتوكل له: وهذا أمر أشد على من ذاك ذاك فتنة الدين الضرب والحبس، كنت أحمله في نفسي، وهذا فتنة الدنيا. ولم يقبل شيئاً من ماله.
قال ابن الجوزي: وإنما أخترنا مذهبه على مذهب غيره لمرجحات منها: شهادة العلماء والصلحاء في تفرده بالعلم والتقوى، والزهد والورع. ومنها سعة أطلاعه بالكتاب والسنة، والغوص في المعاني. ومنها تأخره عن غيره من المجتهدين، وضم علمهم إلى علمه، وأنفراده بفتاوي الصحابة والتابعين. وأما القياس فله فيه من الاستنباط ما يطول شرحه، وكذا العلوم العربية، ومنها أتباع كثير من العلماء والأولياء المقطوع بولايتهم له.
(قلت) ولا سيما العالم الرباني، والوالي الكيلاني، سيدي محيى الدين الشيخ عبد القادر نور الله تعالى روضة قبره، وجعله من الفائزين برحمته عند حشره ونشره، الذى قال في حقه الشيخ ابن تيمية: إن كراماته قد ثبتت بالتواتر، بين الأكابر والأصاغر، فإنه قدس كان لمذهبه خير مشيد بل المروج المجدد. ومما ينسب للإمام أحمد من الشعر قوله:[طويل]
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل
…
خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
…
ولا أن ما يخفى عليه يغيب
لهونا عن الأيام حتى تتابعت
…
ذنوب على آثارهن ذنوب
فياليت أن الله يغفر ما مضى
…
ويأذن في توبتنا فنتوب
إذا ما مضى القرن الذى أنات فيهم
…
وخلفت في قرن فأنت غريب
أنتهى ملخصاً باقتصار. وأقتطافاً من تلك الروضة اليانعة الأزهار. وإنما أطلنا في هذه القصة الكلام لخلو كثير من التواريخ عنها، وليلتقط الناظر بعض